مقطع من القسم الثامن، كوم شجر أو الكتاب العمري: ما أتم به الراوية أحداث كتاب الطغرى مشاهد معنونة بأبيات سلطان العاشقين من الإثنين إلى الخميس، 16 إلى 19 أبريل
أسافر عن علم اليقين لعينه، إلى حقه حيث الحقيقة رحلتي
الصراحة هي لما ركبتْ جنبه بعد أكثر من ساعتين بشوية – مصطفى مضّى الوقت يفقّر في كافيه بينوز، وراء متحف الخزف عند المدرسة البريطانية – تَذَكّر لحظة ما سحبت يده اليمين لتنظر إلى الخاتم: «آه يا عم خواتم بقى وكده!» كان فيه سخونة أو كهرباء في أصابعها، طاقة تنبّئ بشيء عليه أن يتجاهله. «حلو ده...» ورجع مصطفى تحول إلى شخصين أحدهما يقول للثاني: «عايزاك زي ما إنت عايزها. بس أنا عارفك لما بتعوز حد بجد ما بتتحركش بسهولة زي عادتك، ما بتبقاش مستعد تخاطر خالص. بتبقى جبان. عايزاك وإنت مطنّش عادي. لحد ما تطمن. بس إنت عمرك في حياتك ما عزت حد كده على فكرة. وهي عايزاك...»
آهُه يشق طريقاً ملحمياً عبر المدينة. العثرات كأنها مرتفعات والعربة طالعة. سفر جديد داخل حدود المساحة المستعادة. لكن أحمد عدوية يغني والتجاهل مستحيل. «قل له إن كنت تقيـ-يييييل، ولّا ما لكش مَسيـ-يييييل.» لا نظنهما تبادلا كلمة واحدة لحد طريق صلاح سالم. تُطرِق والذهول في وجهها. يتبسّم للهواء. «قلبي ما هواااش مسرح، لهواية التمـ-ثيييييل.» من بحر اليابان إلى قصر العيني – عبر كوبري قصر النيل ومروراً بسباعه الخديوية – الأرض مستوية ورائقة. لأي شيء يتذكر الطريق على أنه طالع نازل، كله حُفَر ومطبات؟
لو رأيتهما ساعتها، لو كنتَ معهما... كأنهما، من غير كلام، يتناقشان. مفاوضات محمومة دونما يعرف أحد موضوع الجلسة. الاحتباس الحراري ومستقبل الحياة على الكوكب؟ في السكة لكوم شجر، قمة ثنائية عن السلاح النووي. قوانين وتصريحات. لكن مصطفى لا يعنيه سوى خجلها، ذلك الشيء الأثيري الطالع حبة حبة من عند سميراميس وأنت رايح، متسللاً من مكان لا يعرف بوجوده غيرها. سيتابعها وهي تضع على وجهها ماسكاتها المتداولة لتداريه، واحداً وراء الثاني. حتى وهي سارحة، شيء كالتردد يزيل الماسكات. ينكشف خجلها فتغضب. جدية المعلمة لا تكاد تُستَبدَل بصياعة متشردة قديمة حتى تنكسر هي الثانية، غصباً عنها. تتشقلب. تحط بدالها تعالي بنت أكابر لكن يذوّبها نفس الشيء.
في بزها الشمال امرأة لعوب بحجم عقلة إصبع، هكذا ضبط مصطفى نفسه يفكر. بزها الصغير لا يبين من فستانها. هذه التومبوي (المرأة التي تشبه صبياً)، أين كانت طوال عشر سنين؟ اللعوب تصارع لتخرج. لكنها بحجم عقلة إصبع محبوسة في بزها... وبمحاذاة مستشفى قصر العيني، هل تهيأ له أم حدث فعلاً أن جسمها لان لحظة بينما هو – متسلطناً – يردّد «قلبي ما هواااااش مسرح»؟ لما نظر إليها عند الإشارة الواقعة قبل مجرى العيون، بعدما أخذ شِمالاً، كان جسمها متخشباً. تبكي من الغضب بلا صوت.
عدوية لن يُخفض صوته في الإشارة. «إحنا جرالنا إيه... مش ماليين عينيه؟» بتاع الفل جاء ومضى. كلاهما متأكد أن الطبيعي، الصواب، المنصوص عليه في المتون أن يشتري لها عقد فل يضعه حول رقبتها. بنظرة يسألها، متأخراً، إن كانت تريد فلاً. لماذا فوّت اللحظة؟ تمسح دموعاً لم تعترف بأنها هناك وكلمة «المفروض» ترتسم على شفتيها بنبرة لائمة. توو ليت! هل يرجع ينادي على البائع بعدما فتحت الإشارة؟ «طب روح قل له حصل إيييه...» مصطفى يفرمل فعلاً. يعتدل في المقعد. يُخرج رأسه من الشباك. وضاحكة مع الكلكسات، مخضوضة أيضاً من الزحمة، تشير له كلودين أن لا يوقف السكة.
«إنت عاوز تموّتنا مش كده؟»
أول شيء يُقال في العربة منذ أخذها من قدام بيت أصحابها في شارع حسن صبري.
«عموماً أدحنا هنعدّي برده من السيتي أوڤ ذا ديد،» يكركر من الاسم السياحي للقرافة. كأنه يتمسخر على ثقافتها الأجنبية. يوطّي كاسيت العربة ليسمعها وتسمعه، ثم يرجع يعلّيه من جديد. «ولا بقى اسمها "لا ڤيل دي مور" سيادتك؟ أنا قلت بما إننا ما متناش نسلّم ع الميتين.»
«على فكرة،» وتنهدت قبلما تَظهر البهجة في صوتها، «أنا وافقت إنك توصلني، مش تدفني – »
«على فكرة إنت تدفني بلد – »
«عارف لو ناويين نتمنظر بالفرنساوي اللي إحنا أصلاً مش عارفينه،» لأول مرة يسمع نبرتها المتهكمة، وبدل ما يتضايق أو يتعصب يود لو يبوسها، «ممكن نحاول نظبّط نطقنا وكده، مش كده؟»
لكنه في «مدينة الموتى» – ربما لأنها أكثر مراحل المشوار وعورةً بالفعل – أحس بضرورة أن يسكت عدوية. وسط الشواهد فيه هيبة ما. المدد؟ شيء مختلف عن الورع والتقوى لكنه قريب منهما كثيراً. الحاجة الفلانية وكده... قمر كبير في سماء كحلي. نجوم باهتة تحوّطه... أخيراً لاح الجبل. مش كده؟
يسترجع بيته المفضل – «تشبّث بأذيال الهوى واخلع الحيا، وخلِّ سبيل الناسكين وإن جلّوا» – ثم يقرأ الفاتحة لسلطان العاشقين. «إنت بتقرا الفاتحة فعلاً؟» نفس التهكم في صوتها لكنها تهمس. يهيأ له أن أكثر من «يلدز» تبرق عملاقة فوق رأسها. من أين، فجأة، كل هذه النجوم؟
عندما يمد يده للكاسيت ليقفله يكتشف أنها هي الأخرى تتطلع للسماء. بقعة أسفلت وراء أخرى والعربية طالعة. الصمت مرة ثانية. عكس الذي أحسه لما ساق بأمجد صلاح إلى خان السر (أن القاعد جنبه هو صلته بالعالم)، عارف أن العربة بمن فيها وما فيها –كله على كله مثل عنوان أغنية عدوية – انفصلت نهائياً بلا رجعة. ليس سوى خطوط الكتابة المائلة إلى فوق والعربة موزونة عليها:
علامة ترقيم في فرمان.
يوسف رخا؛ كتاب الطغرى: غرائب التاريخ في مدينة المريخ
صدرت الرواية عن دار الشروق،٢٠١١
خاص بجدلية