الكاتب/ة: هديل بدارنة
الحلم الجنوب إفريقي
يتّسم حديث مناصري مقاطعة اسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها (BDS) عن نجاحاتها بنبرة مفعمة بالحنين الى "الحركة" الجنوب أفريقية، ولانتصارها على نظام فصل عنصري الممتدّ ما يقارب الخمسة عقود، ولقدرتها التاريخية على احلاله بلا عنفيّة مطلقة، لتصبح نموذجا يجب استلهامه والاهتداء به فلسطينيّا. لا شكّ ان اسقاط رئاسة الأقليّة البيضاء وممارستها من ارهاب عشوائي وتعذيب وقتل وبطش وفصل عنصريّ لم يكن بإنجاز سهل يمكن التقليل من قيمته، وثمنه، واسقاطاته المعنوية. لكن مع كل انجازات الحركات المناهضة للأبارتهايد ومساعيها الحثيثة على سحب البسط الاقتصاديّة من تحت أقدام النظام، الا انه لم يكن بوسعها ضمن الظروف السّياسية، حتى في أوج ضغوطاتها في الثمانينات، ان تُحدث تغييرا اقتصاديّا جذريّا قادرا على نسف النظام القائم وليس بتر رأسه الأبيض فحسب. فلا يمكن لأي نضال شعبيّ تحقيق تغيير سياسي واجتماعي دون ضمان تفكيك النّسق الاقتصاديّ تفكيكا راديكاليّا.
ان معركة التحرر الوطني من الاستعمار ستبقى غير كافية في انهاء المشروع الاستعماري ما لم تتداخل في بعد النضال الطبقي، فكما سنبيّن باستطاعة البنية الاستعمارية تكييف نفسها في بنية ما بعد استعمارية، تحافظ على امتيازاتها عن طريق البرجوازية الكلونيالية التابعة.[1] وهو ما نشهده بالواقع، حيث لم تسعف المفاوضات السياسية الشعب الجنوب أفريقي كي ينال مراده في احداث تغيير فعليّ يعيد توزيع الموارد على أبنائه ويؤمم صناعاته المحلية. فكيف يسقط النظام الأبيض في جنوب أفريقيا و٧٠٪ من ملّاكي الأراضي الجنوب أفريقيّة ما زالوا بيضا؟ هذا رغم نسبتهم السكّانية التي لا تتجاوز ال١١٪. هل يعقل التعاطي مع نظام الأبارتهايد كحدث تاريخي عندما تتضاعف نسبة بطالة السّود خلال عقد واحد من ٢٣٪ الى ٤٨٪؟ كيف نحتفل بسقوط نظام استعماري عندما يكون نصف المجتمع المستعمَر عاطل عن العمل و٨٠٪ من سوق الأوراق المالية في جوهانسبرغ في حوزة رؤوس أموال الاستعمار الأبيض؟[2]
ومع هذا كلّه، يؤكّد لنا العالم الشّمالي ان ما نراه من حقائق وأرقام ما هو الا سراب صنع مخيّلتنا الصّحراويّة، وانّ علينا الاحتفاء سويّة بجميع أعراقنا وألواننا وبشكل سنويّ في السّقوط المتجدّد لنظام الأبرتهايد، فكيف لنا ألا نفعل ورئيس جنوب أفريقيا اليوم صاحب بشرة سوداء؟ وهناك مجموعة صغيرة من الأثرياء السود والقضاة السود والأكاديميين السود؟ أليس هذا بسبب كاف؟ غالبا ما تكون هذه التعابير الاحتفالية مشوبة بنظرة رضى استعلائي وشفقة مفرطة اتجاه أصحاب البشرة الداكنة، وتتردد نفس العبارات باستبدال "جنوب أفريقيا" ب "فلسطين"، و"سود" ب "عرب" ويعود منطقها في ذات الاصرار الليبرالي المتكرر على كون اسرائيل دولة ديموقراطيّة، على الأقل في حدود ال٤٨.
توغّل هذا الخطاب الاحتفالي المهيمن بالخطاب الفلسطيني المحلّي، وترددّ على ألسن الناشطين الذين أخذوا يضربوا المثل الجنوب أفريقي في كلّ مناسبة دون قراءة معمقة للتجربة ومآلها، غير مدركين انه ما كان يزيدهم تمسّكا بالنموذج الجنوب ألأفريقي، بالكثير من الأحيان، هو ما ناله من الاجماع الأورو-أمريكي على لا-شرعيّة نظام الفصل المطلقة وضرورة اسقاطه، بالإضافة الى احراز مقاطعته مكانة قانونية في أطر الأمم المتحدة،[3] وهو ما تفتقره القضية الفلسطينية لأسباب كثيرة لن نخوضها هنا. أما بالنسبة للحاجة الملحّة في ابراز تماثل حركات السياقين والتشديد المستمر على كونهما لا عنفيّتين فقد تكون ضرورة استراتيجيّة ضمن الأدوات القانونية المتاحة، الا انّ هذا لا يغيّر من وضعيتها المطوّعة وخضوعها للإملاءات الخطابية النيو-استعماريّة.
وفي سبيل المقارنة، يتوفّر لحركات مقاطعة اسرائيل اليوم ما لم تمتلكه قرينتها في جنوب أفريقيا حينئذ، وهي أدوات التواصل الاجتماعيّ والمساحات التكنولوجيّة الواسعة والتّي مكّنت الحركات العالميّة والمحليّة بالتواصل بين بعضها البعض وبين جماهيرها، وسهّلت تسديد أهداف كثيرة في بضع سنوات لم تستطع حركات مقاطعة الأبرتهايد تحصيلها في أكثر من عقدين. ولكن ما تنتقصه جهود مقاطعة اسرائيل في السّياق المحلّي الفلسطينيّ هو تدعيم شّعبي سياسيّ عبر أجسام سياسيّة قادرة ومخوّلة من حيث الرؤيا والتنظيم والشرعيّة على ذلك، وهو أيضا ما تفتقده القضيّة الفلسطينيّة بأكملها. توفّر هذا، الى حدّ ما، في جنوب أفريقيا حيث شكّل حزب المؤتمر الوطني قبيل التسعينات رافعة قيادية، وبالرغم من كل ما تلي من تنازلات واصلاحات أفقدت الحزب من شرعيته في نظر الجماهير، الا انه بفعل وجود إطار سياسي فعال حينها استطاعت حركات المقاطعة (إلى حدّ أكبر) ان تكون جزءا من حركة تنظيمية واسعة ومسيّسة، بخلاف من نظيرتها في فلسطين.
الواقع الفلسطينيّ
في الآونة الأخيرة تحظى حملات مقاطعة اسرائيل، وسحب الاستثمارات منها، وفرض العقوبات عليها، باهتمام اعلاميّ عالميّ ومحليّ كبير، تتكرّر بين طياته اللازمة" المألوفة انه وبالرّغم من عمرها الصّغير تفوّقت الحملة على نفسها وعلى الظروف المحيطة بها، وحققت انجازات لا سابق لها ولامثيل فقد زرعت القلق والارتياب في قلب الاقتصاد الاسرائيليّ.[4] وترى موجات الاحتفالات والتصفيق الموسميّة تعلو مرة تلو الأخرى مع انسحاب الشّركات من "الأراضي الفلسطينيّة"، أي قطاع غزة والضفة والقدس الشرقية بلغة القانون الدّوليّ، أو مع استنكار جهات رسميّة عالميّة وتأييدها لمقاطعة اسرائيل. وبهذا تغلق الحملة أبوابها وترسل الشكر لكل من شارك وساهم حتى ان تعود بوجه جديد من مقرّ اخر بعد رصد شركة عالميّة جديدة في نفس "المناطق المحتلّة".
بالطّبع، إن كان معيار نجاح الحملة هو سحب الأسهم والاستثمارات بالكامل مما يسمى ب"المناطق" كالضفّة مثلا فقد نحصل على قائمة طويلة من الجهات التي استجابت لحملات المقاطعة المختلفة حول العالم بخروجها من السّوق الاسرائيلية ك"أسا أبلوي" السويدية أو" سي.أر.اتش." الايرلندية، لكن ماذا عن الشّركات التي كان خروجها جزئيا؟
في حالة شركة سودا ستريم البريطانية، سبّب ضغط حملات المقاطعة الى نقل الشركة منشأها من مستوطنة ميشور أدوميم في الضّفة الغربيّة الى منطقة عيدان الصناعيّة في صحراء النّقب. ولإتاحة هذا الانتقال، وتمكينها من نقل أموالها من الجيبة الأولى الى الأخرى، زوّد النظام الاسرائيلي الشّركةَ بمنحة قيمتها 7 مليون دولار لبناء مصنع جديد يمكنه أن يأوي إنتاج الشّركة بأكمله تحت سقف واحد.[5] وعلى حدّ تعبير مدير "مركز تعزيز الاستثمار الإسرائيليّ"، "حزي تسايغ"، إنّ القرار بشأن إعطاء المِنحة إلى سودا ستريم اتُّخِذ بناءً على تعديل قانون تشجيع استثمار رؤوس الأموال، وأنّ "الإصلاح أثبت نفسه، إذ كانت لدى سودا ستريم إمكانيّة الاستثمار في دول أخرى، إلّا أنّ التخفيضات الضّريبيّة والمِنَح بموجب القانون الجديد تجعل الاستثمار في إسرائيل مجديًا مقارنة بدول أخرى."[6] هذه السّياسة المُعدّلة تغوي الشّركات الخاصّة للاستثمار وجني الأرباح في مناطق مُخصّصة، لتساهم في احياء المخطّطات الإسرائيليّة الاقتصاديّة والاستراتيجية وفي الوقت ذاته في توفير مخرج امن للشّركات "المُبعدة" من قبل حركات المقاطعة.
وبحسب الإصدارات الحكوميّة الاسرائيلية الآنيّة، فإنّ الأراضي الفلسطينيّة في صحراء النّقب سوف تشهد المزيد من التغيّرات الاقتصاديّة السريعة. ففي السّنوات القليلة القادمة، سوف يتمّ ضخّ مبالغ تفوق 8 مليار دولار من قبل الحكومة وشركات خاصّة في مشاريع إسرائيليّة عسكريّة، وصناعيّة ومدنيّة هناك. فقد تمّ البدء بتخطيط حديقة صناعيّة ومركز عسكريّ جديد، وسوف يبدأ العمل على بنائها على أرض الواقع في القريب العاجل.[7] أما "أهافا"، شركة التجميل الاسرائيلية والتي تستخرج أملاحها ومعادنها من البحر الميّت لتعدّ منتوجات التجميل المصدّرة لأوروبا، فالتحقت هي الأخرى بسودا ستريم وأعلنت مؤخرا انسحابها من الضّفة واغلاق مقرّها في مستوطنة "متيسبي شالم" شرقي الضفة الغربيّة. ورغم انه لا يمكن التأكد من صحّة تصريحها في ظل المعلومات المتوفرة، الا انّ قرار الشركة ما هو إلا نتاج تضييق وضغط حركات المقاطعة عليها.[8]
ولكن، رغم فعالية الضغوطات بالانسحاب الجزئي، لم يتغيّر الكثير على المنظومة الاقتصاديّة الاسرائيلية. فبالحالتين ليس للانتقال الاستيطاني من ميشور أدوميم أو ميتسبيه شالم في الضفة الغربية الى داخل الخط الأخضر أي تأثير على المنفعة الاقتصاديّة التي تستقيها الشّركات من موارد المستعمَر الطبيعية والبشرية، بل هو ما يزيدها شرعنة وترسيخا، وبالتالي لا يمكن ان تنسحب عن ذلك أحكام أخلاقية مغايرة. ولكون بنية الاستعمار الاقتصادية في فلسطين وحدة واحدة، تتداخل مصادر دخلها بين قطاعاتها من البحر الى النهر، يكون الخروج الجزئي فعل شكليّ يتبع فصل اقتصادي متخيّل بين "المناطق المحتلة" والمناطق التي لم يحظى استغلالها باعتراف من الرّجل الأبيض.
وهكذا استبقت سودا ستريم وأهافا حملات المقاطعة، ودرست معاييرهم، وفهمت سريعا ان كلّ ما عليها فعله هو ازاحة لمصادر أموالها في نفس المنظومة الاقتصاديّة كجنود شطرنج بحسب قوانين اللّعبة الجديدة، وبعدها حتما ستُخمِد انتشار نيران الحملات، وهذا ما حصل بالفعل. ان دهاء الشّركتين لم يكن بجديد فقد أدركتا أهمية ذلك قبل انسحابهما؛ فمع قرارات وتحذيرات الاتحاد الاوروبي بوسم المنتوجات الصادرة من المستوطنات في الضفة،[9] فتحت الشركتان مكاتب بالقرب من مطار اللّد، بلا أي داع تجاري وفقط لوسم منتوجاتهنّ منذ تلك اللحظة فصاعدا ب "صُنِع في مدينة مطار اللّد، اسرائيل"، دون أن يكون ذلك صحيحا لكي يرتاح ضمير المستهلك الأوروبي وليمحوَ الاتحاد الاوروبي علنيّة دعمه لمستوطنات الضفّة من رفوف متاجره.
لا يقتصر تكتيك الاحتواء والالتفافية التي تتبعها الشّركات نتيجة الضغوطات عليها فقط على فلسطين، انما هي جزء من حالة بسطت أذرعها لتكتنف العالم الجنوبيّ بأسره وذلك عبر ما بات يسمّى ب "الاستثمارات الأخلاقيّة" و” المسؤولية الاجتماعية الشّركاتية"، خلاصتهما بناء استراتيجيّات شركاتيّة تقضي بإتمام الحسابات "الأخلاقيّة" قبل الاستثمار في مشاريع أو أماكن شائكة لتجنّب الخسائر الماديّة أو التشهيرية. من هذه الانطلاقة، شرعت الاف الشركات بأعمالها الخيريّة وبحملات الحفاظ على البيئة، وتعدّدية العمال الثقافية، وتزيين مواقعها بوجوه اسيوية وأفريقية ضاحكة، وببناء مدرسة هنا وملعب هناك، كلّه لتُحوَّط بهالة أخلاقية ترعى مراكمتها الربحية. وكما قال الأكاديمي بوبي بانيرجي عن هذه السياسة متهكّما "سنحسن للبيئة والمجتمع بشرط أن يلقى رأس مالنا الاحسان بالمقابل".[10] هكذا فعلت شركة كوكاكولا في جنوب أفريقيا عام ١٩٨٦ بعد تكثيف ضغوطات حملات المقاطعة عليها عندما "تطوّعت" ب١٠ مليون دولار لمشاريع تحسين اسكان الأحياء السوداء، وضمان حق السّود في التعليم، وبيع بعض أسهمها، ذلك فضلا عن الانسحاب التّام من سوق الفصل العنصري.[11]
على هذا المنوال، راحت سودا ستريم تصرّح ان منشأها السابق في الضفة هو ما منح ٥٠٠ عامل فلسطيني امكانية عمل في بيئة عائليّة متعددة الثقافات حيث يعمل العمّال بانسجام جنبا الى جنب.[12] وهكذا في وسط الخطاب الحقوقيّ النيوليبراليّ يستمرّ نمط الانتاج الرأسمالي كنمط انتاج مسيطر، في حركة تجدد دائمة.
نسأل إذًا، هل بمقدور الحملات، بمعاييرها واستراتيجياتها الحاليّة وبالظروف الاقتصادية والسياسية، ضرب الاقتصاد الاسرائيلي في عمقه حتى "إنهاء الاحتلال، ومنح الفلسطينيين من سكان إسرائيل حقوقهم ومساواتهم الكاملة بالسكان اليهود، والإقرار بحق العودة للاجئين الفلسطينيين انصياعًا لقرار الأمم المتحدة رقم ١٩٤" كالمنشود حسب بعض الحركات؟
يبدو انه دون سند حراك شعبيّ فلسطينيّ ذا رؤيا اقتصادية سياسية واضحة، ودون النظر للمنظومة الاقتصاديّة الاسرائيليّة كوحدة واحدة، ومن غير المحاولة بالتفوّق على الاحتوائية الخطابية النيوليبرالية، دون ذلك كله سيكون الدّفع باتجاه تأُثيرات عينيّة موسميّة، والتي نعم ستؤدي لخسائر كبيرة وستردع استثمارات مستقبليّة لكنها لن تستنزف الخزينة الاسرائيلية أو تزعزع قوامها على نحو كلّي. فلا يمكن لحركات المقاطعة على شكلها الحالي القيام بهذا كلّه، والأهم من ذلك، لا يمكن التوقّع منها أو التعويل عليها وحدها، سواء في جنوب أفريقيا أم فلسطين، زلزلة البنى القائمة بلا استراتيجية عمل مؤطر ومنظّم وتراكميّ.
المابعديّة: زعزعة البنى التحتيّة الاقتصاديّة للمنظومة الاستعماريّة
المرحلة الانتقاليّة
نعم، تغذّي ضربات النّظام الكارثيّة سوقها وترفع أسهمها حتى حدّ ما، بعده تأخذ الأرباح بالتآكل والتقلّص وأحيانا بالانتقاص; لذلك تظل هناك حاجة دائمة لحقب استقرار نسبيّة تستعيد فيها الأسواق ايقاعها وتوسّع انفتاحها العالميّ خلالها، وفي المراحل الانتقاليّة المفصليّة والتي تأتي غالبا بعد استنزاف طويل ومكثّف، يغتنم النّظام فرصته لإعادة هندسة علاقات القوى لصالحه، أو ما يسمّيه بسيرورة السّلام، هذه المرة بظروف أقل دراميّة، على الأقل حتى نفاذ أفيون التّرقب الملازم للجماهير.
تجسّد مفاوضات واتفاقيات المرحلة الانتقالية في جنوب أفريقيا وأوسلو في فلسطين حالة مستمرّة من اعادة انتاج الواقع الاستعماريّ بهيئته التعاقديّة، والتّي نقلت بنى المنظومة الاقتصادية من حالة أمر واقع الى مستندات ووثائق رسميّة لتعود بنا الأسئلة المداهمة ذاتها: ما هو الذي حصل على طاولات المفاوضات؟ وما كان في قيد التنفيذ تحتها؟ ما هي التحوّلات الاقتصادية التي أتيحت؟ وهل أثّرت على عمليّة الانتقال من "الماضي ل"المستقبل" كالمعلن؟ وأخيرا هل هناك ضرورة لفهم الاليات المثبّتة في تلك المرحلة عند التّعامل الحالي معها؟
مباشرة بعد اختتام جولات المفاوضات الرّسمية في جنوب أفريقيا بين المؤتمر الوطني الأفريقي والحزب الوطني الحاكم عام ١٩٩٣، عُقِدت اتفاقية أوسلو الأولى ما بين حكومة النظام الاسرائيلي ومنظمة التّحرير الفلسطينية ومولودهما الجديد: السّلطة الفلسطينيّة. وبينما تكرّرت على الطاولتين كلتيهما مفردات مفعمة بالأمل ك"الحكم الذاتي" و"السلام الاقتصادي" و"تقرير المصير" واستمرت المفاوضات على الحكم الرئاسي بمدّها وجزرها، غزلت الأنظمة برامجها الاقتصادية ووطّدت بناها التّحتيّة بتكتّم مُتقَن لم يلحظه معظم الشّعب حينها في البلدين. في مفاوضات أوسلو ومفاوضات انهاء الأبارتهايد أُرفقت الملفات التي تناولت الحيثيات الاقتصاديّة في اللحظات الأخيرة وأُدرجت ك "ملحق" مثل اتفاقية باريس لأوسلو، أو غُلّفت في اتفاقيات "ثانوية" منفصلة كالتوقيع على الاتفاقية العامة للتجارة والتعرفة الجمركية في الحال الجنوب أفريقي. ففي الوقت الذي ضبطت فيه اتفاقية باريس القطاعات الفلسطينية كقطاعات أسيرة، أحبطت اتفاقيات منظمة التجارة الدولية وآليات تسديد الدّيون وغيرها أية امكانية لتحسين حياة الشعب الجنوب أفريقي من حيث العمل، والصحة والمسكن، ذلك ناهيك عن الفروقات الشاسعة المتمخّضة ما بين بنود الاتفاقيات والواقع الأشد بؤسا منها. وفي الحالتين كان التّرويج السائد انّ هذه الملّفات والاتفاقيات الاقتصادية لم تكن الا شكليّات اداريّة تقنيّة لا داعي للتقوقع بها، وخاصة لكون البلد الان على أبواب تحوّل سياسيّ سيرسم شرق أوسط جديد وأفريقيا مختلفة. لكن كما قال النّاشط الجنوب أفريقي راسل سنايمن "لم يحرّرونا يوما بالفعل، بل نزعوا القيود عن أعناقنا ولفّوها حول كواحلنا"[13] وفي الذاكرة الجمعيّة الفلسطينية لم تعد كلمة "أوسلو" تدلّل على المدينة النرويجيّة، أينما دارت أولى جلسات الاتفاقية، بل تحوّلت لمفهوم زماني (لا مكانيّ) يدلّل على مرحلة الكارثة الصّامتة والمستمرة التي أحدثتها اسرائيل في التسعينيات، ولعلّ الأصعب والأشد وطأة على المرء من نهبه قسرا هو فعل ذلك ب"موافقته" إخضاعا. وبهذا الصدد، دعونا لا ننسى انه في السياق الفلسطيني، لم يبلغ الحال حتى لنقل القيود من الأعناق للكواحل، اذ انه في ظلّ الاستعمار الاستيطاني الصهيونيّ لم تنقل المرحلة الانتقالية أي منطقة في فلسطين لحالة ما بعد استعماريّة وانما قوننت استعمارها ومأسست اقتصادها، فما زالت فلسطين رهينة الهيمنة الإسرائيلية بكلّ بناها الفوقيّة وليس الاقتصادية التحتيّة فحسب.
جرعات من النيوليبراليّة
بعد ان جلبت المراحل الانتقالية وسائط رئاسيّة وظيفيّة جديدة في الضفة الغربيّة في فلسطين وجنوب أفريقيا، راح نمط الانتاج الرأسمالي يتوسّع بنوباته النيوليبرالية والتي تفاقمت اثارها مع تسارع انبساط العولمة. في ظل ذلك أقلعت صناعة التكنولوجيا المتخصصة وتكنولوجيا المعلومات والانترنت الاسرائيلية، وبلغت نموا غير مسبوق عالميّا مما زاد انفتاحها، لا بل اقتحامها المدهش والسريع لأسواق العالم الشمالي، اذ انها طوّرت قطاعا أمكن لها اعتماد حرّ دون الارتهان بموقعها الجغرافيّ. لم تسلم جنوب أفريقيا من السياسات النيوليبرالية أيضا، فقد ارتفعت نسب الاستيراد وتدفّق رؤوس الأموال الخارجية، وانخفصت الرّقابة عليهما، وظلت الخصخصة تنهش بما تبقى من قطاعات عامة. أما المهندس الاقتصادي الذي أشرف على صياغة وتنفيذ خطط "الرينسانس الجنوب أفريقي" كان ابن المؤتمر الوطني الأفريقي تابو امبيكي، لاحقا رئيس جنوب أفريقيا والذي أمّن دورة الأرباح الامبريالية ووقى مصالح البرجوازيّة الجنوب أفريقية على حساب الشّعب وموارده، وعلى ذات النهج جاءت سياسات رئيس الوزراء السابق سلام فيّاض، والتي روّجت لتعزيز الاقتصاد الفلسطيني عبر استثمارات خارجية لتضمن "السلام الاقتصادي" وتخفّف من ثقل وتكلفة "الصراع الفلسطيني-الاسرائيلي". وبين الفيّاضية والامبيكية ازدادت المشاريع الاستعمارية الرأسمالية قوة وصلابة وتعزّزت علاقات القوى القائمة المصونة أمام تغيير جذريّ في بنيتها الراهنة.
الطّبقة المغيّبة
ان واقع المجتمعات المستعمَرة، بما فيها المجتمع الفلسطيني والجنوب أفريقي، محكوم بعلاقته الاقتصاديّة الملجمة بالمنظومة الاستعمارية والما-بعد استعماريّة، يتماسك ترابطها عبر نمط الانتاج الكولونيالي القائم على الرأسماليّة التبعيّة، والتي هندست بنية طبقيّة اجتماعيّة لها خاصيّتها في المضمار الاستعماري.[14] أي انه ومع اختراق أنظمة الاستعمار نسيج الجماعات المستعمَرة الاجتماعي تبلور الانتاج الكولونيالي وتوّلدت معه الطبّقة البرجوازيّة المحليّة كبرجوازيّة كولونياليّة.[15] أضفى عليها تطوّرها التاريخي ميزات ثقافية سياسية كثيرة الاّ ان ما يميّزها أيضا هو التغييب الصّارخ لدورها وعملها في القراءة النقديّة الاقتصاديّة للمنطقتين، واهمال مسؤوليّتها في اعادة انتاج علاقات القوى الاستعماريّة ليس فقط بين المستعمِر والمستعمَر بل بالصراعات الطبقيّة التناحرية وتأثيراتها السياسيّة والاجتماعية كذلك.
أثرت المرحلة الانتقاليّة في جنوب أفريقيا كثيرا على صيرورة التشكّل الطبقي، برز ذلك أكثر مع انتقال الأغنياء البيض للخارج جرّاء عدم الاستقرار المرحلي الذي انتاب جنوب أفريقيا في الأعوام الأولى لتسعينيات القرن المنصرم. ولكون جنوب أفريقيا بلد غزيرة الموارد ظل هناك متّسع، بل ضرورة، لطبقة من الوكلاء التجاريّين السّود بالعمل على تعزيز قوى المشاريع الاستعماريّة في زيّها الما-بعد استعماريّ. وبفعل مصالحها الطبقيّة وجّهت البرجوازية الكولونياليّة مفاوضات حزب المؤتمر الوطني مع نظام الأبارتهايد صوب احباط النضالات الشعبيّة العمّالية المتصاعدة حينها، واستبعدت ملايين الفقراء عن السّلطة. أما في فلسطين فتختلف الطبيعة التكوينيّة للطبقة البرجوازية وللوكلاء التجاريين وذلك لديمومة التواجد الاستعماري، بوصفه استيطانيّ، على الأراضي الفلسطينيّة. وبسبب تقسيم الاستعمار المناطقي لفلسطين اقتصاديا وسياسيا، حيث تختلف أيضا خصائص الطبقة الكومبرادوريّة الفلسطينية بحسب موقعها الجغرافي، لكنها تتشارك جميعها بالدفاع على القوى الاستعمارية الراهنة، ولربّما يتجلّى هذا بوضوح أكثر بالضفة الغربية المحتلّة، اذ تملك النخب المسيطرة على رأس المال التبعي في الضفة أكبر الشّركات الفلسطينيّة، وتنحدر أسماء أصحابها من نفس العائلات والتي يكون لجزء كبير منها مكانتها السياسية في السّلطة الفلسطينيّة.[16]
تكون عمليّة التأبيد لقواعد الاستعمار الماديّة والحفاظ على اليات نمط الانتاج في دول العالم الجنوبي، شرطا أساسيّا ووجوديّا لهذه الطّبقة مما يجعل امكانية تحوّلها لطبقة ثوريّة استحالة بنيوية. فقد يتم القضاء على الحكم الرئاسي الاستعماريّ، لكن السّلطة الاقتصادية تبقى محكمة وتظل في حالة اعادة انتاج مستمرة عبر العجلة الكومبرادوريّة وقد رأينا ذلك في ضفة ما-بعد أوسلو وجنوب أفريقيا ما بعد الأبارتهايد . من هنا لا يمكن التّعويل على هذه الطبقة في مجمل المشاريع التّحررية، الاجتماعية والاقتصادية، اذ انها لم تتجاوز ولن تستطيع تجاوز تبعيتها لنمط الانتاج الامبريالي دون المسّ بجوهر بنيتها التكوينيّة وبالتّالي نفيها.[17]
ختاما، في الحوار ما بين فلسطين وجنوب أفريقيا تطفو على السّطح مشاهد متشابهة أنتجتها أيدولوجيات وممارسات أنظمة استعمار أوروبيّة، وأخرى مختلفة تصدر عن خاصيّات محليّة، والملفت بافتراق والتقاء مسارات السياقين هو مدى انسجام السّردية الاستعمارية في مشاريعها التجارية في البلدين، كجزء من العالم الجنوبي، بداية من لحظات التأسيس الاستعماري، مرورا بفرض السيطرة واحكامها، وحتى تخليدها عبر صناعات الانقاذ، والسلام، والمراحل الانتقالية.
وماذا عن حركات المقاطعة؟ قد تكون جزءا لا يتجزأ مشروع تحويل ثوريّ، وقد تحتمل التوقعات بتوظيف ضغط مُربك على بعض الشركات والقطاعات، لكنّها دون العديد من العوامل، منها المجتمعية ومنها الاقتصادية-سياسية، لن تتمكّن من زعزعة فعلية لبنى المنظومة الاستعمارية.
هوامش:
[1] عامل، مهدي (1985)، مقدمات لدراسة أثر الفكر الاشتراكي في حركة التحرر الوطني، (ط4)، بيروت: دار الفارابي. ص308
[2] كلاين، ناعومي (2011)، عقيدة الصدمة: صعود رأسمالية الكوارث، (ط3)، بيروت: شركة المطبوعات للتوزيع والنشر. ص ٢٩٥
[3] United Nations General Assembly Resolution 1761- available here
[4] Eichner, Itamar (Mar, 2016) Yedioth Ahronoth and Ynet to hold anti-BDS conference.
[5] إنّ الدّعم الاقتصاديّ الإسرائيليّ لشركات إسرائيليّة ومتعدّدة الجنسيّات يتمّ عن طريق قانون "تشجيع استثمار رؤوس الأموال". يتيح هذا القانون، الذي تمّ تعديله مؤخّرًا، لشركات مثل سودا ستريم أن تحصل على مِنَح وإعفاءات ضريبيّة وقروض سخيّة إذا ما اختارت أن تستثمر في "المناطق النّائية". بموجب المادّة 40(ج) من القانون، فإنّ حجم المِنَح من ناحية نسبتها يمكنه أن يبلغ مقدارَ %30 عند "بناء مصنع في النّقب".
لنص قانون تشجيع استثمارات رأس المال انظر هنا
[6]Azulai, Yuval (Apr 4, 2012) A 25 million NIS grant to build the factory of Soda Stream in the Negev. (Available in Hebrew only)
[7] مركز الأبحاث "من يربح من الاحتلال"، (2015، تشرين الأول)، شركة سودا ستريم تستكمل انسحابها من مصنعها في مستوطنة ميشور أدوميم في الضّفّة الغربيّة، وتنقله إلى منطقة صحراء النّقب.
[8] Coren, Ora (Mar, 2016) BDS Target Ahava to Relocate From West Bank Into Israel.
[9] أحدث قرار للاتحاد الأوروبي بشأن منتوجات مستوطنات الضفة كانون ثاني ٢٠١٦
[10] من محاضرة عن المسؤوليّة الاجتماعيّة للشركات (شباط،٢٠١٣ ) كليّة كاس بريطانيا.
[11] Bill Sing, Coca-Cola Acts to Cut All Ties With S. Africa, September 18, 1986.
[12] Calcalist Newspaper September 2015 SodaStream CEO: The BDS is anti-semitic, its influence is minor.
[13] كلاين، ناعومي (2011)، عقيدة الصدمة: صعود رأسمالية الكوارث، (ط3)، بيروت: شركة المطبوعات للتوزيع والنشر. ص291
[14] عامل، مهدي (1985)، مقدمات لدراسة أثر الفكر الاشتراكي في حركة التحرر الوطني، (ط4)، بيروت: دار الفارابي.ص ١٦
[15] عامل، مهدي (1985)، مقدمات لدراسة أثر الفكر الاشتراكي في حركة التحرر الوطني، (ط4)، بيروت: دار الفارابي.ص٣٢٥
[16] Philip Leech, Re-reading the Myth of Fayyadism: A critical Analysis of the Palestinian Authority’s Reform and State-building Agenda (Doha, Qatar: Arab Center for Research and Policy Studies, 2012)
[17] عامل، مهدي (2002)، أزمة الحضارة العربية أم أزمة البرجوازيات العربية؟، (ط7)، بيروت: دار الفرابي. ص165-170