وسط احتفاء العديد من العراقيين في بغداد، عرض قبل فترة قصيرة الفيلم الوثائقي “رسائل من بغداد” (٢٠١٧) عن حياة الجاسوسة البريطانية جيرترود بيل في العراق. تمحور الفيلم، من إخراج سابين كراينبول و زيڤا اويلباوم، بشكل أساسي حول دور بيل “المشرف” في إنشاء العراق الحديث وعلاقتها الوطيدة بالمجتمع العراقي واعتمد على رسائلها الشهيرة ما بين ١٩١٧-١٩٢٦ والتي كانت ترسلها لعائلتها في بريطانيا بشكل دوري. بالاضافة إلى شهادات بعض من البريطانيين والعراقيين الذين عاصروها آنذاك. لكن، كعادة الكثير من النتاجات المرئية والأدبية حول جيرترود بيل ودورها في سياسات المستعمر البريطاني في العراق، فأن الفيلم يعيد إنتاج للخطاب الكولونيالي الاستشراقي الذي يعمل على إعادة صياغة تاريخ العراق بشكل خاص والمنطقة بشكل عام وكتابته من منظور استعماري بعيد كل البعد عن مجريات وصراعات الحياة اليومية السياسية للمجتمع العراقي في تلك الفترة، وهنا يجب طرح عدة نقاط مهمة:
أولاً: إلى متى سنظل نقدّس ونحتفي بالمستعمر كخبير أو كشاهد على شعوبنا وحضارتنا، لمجرد أنه قد أحب أو تظاهر بحب شيء من بلادنا التي أستعمرها، متناسين أنه كان جزء من المنظومة الاستعمارية. في واقع الأمر، وعلى عكس ما صوره الفيلم، فأن رسائل جيرتورد بيل ماهي إلا مثال صريح على ذلك الخطاب الكولنويالي الذي يستبيح " قلب الظلام" لغرض اكتشاف المستعمر نفسه\ها من خلال تأصيل فكرة "الآخر" المختلف أو الغريب سواء في التقاليد والحياة اليومية أو حتى في الطبيعة والأرض. لذلك يلاحظ في الكثير من رسائلها تكرار الخطاب الاستشراقي التقليدي الذي أكد عليه أدوراد سعيد في العديد من كتاباته. في رسائل بيل، المجتمع والفرد العراقي عشوائي و "طائش أو مستهتر"١ مقارنة "بعقلانية الغرب" الذي تنتمي إليه بيل، ولكنه في نفس الوقت قادر على التفكير بعقلانية "لأننا (أي الغرب) قد مهدنا له طريق المنطق والعقلانية الذي سوف يسهل عليهم اتباعه"٢ وبالتالي يتم تصوير المجتمع العراقي، والعربي بشكل عام، كمجتمع رجعي يقلّد ولا يفكر.
يتم تصوير العراق في رسائل جيرترود بيل كبلد "غير متحضر" يتكون بشكل عام من قبائل "همجية"٣ تستطيع بيل أن تهرب في أراضيه وأن تتناسى، كما ذكرت في إحدى رسائلها، للحظات قليلة أنها قد جاءت وبكل وعي وإدراك مع مشروع "احتلالي وأستعماري" وتطلق روحها لتكون "وحشية"٤ كباقي هولاء العرب الذين يقطنون هذه "الصحراء القاحلة"٥. لم يذكر الفيلم، بالطبع، مثل هذه الرسائل التي كتبتها بيل من وعن العراق كبلاد وأرض تخلف. بل اقتبس مخرجو الفيلم فقط ما يبرئ بيل ويبرزها كشخصية أحبت العراق ووجدت فيه كل ما هو جميل ونادر الوجود في بلادها. من المعروف عادة عن المستشرقيين أن هنالك الكثير من الأشياء التي قد تجذبهم وتغويهم في البلاد التي زاروها وكتبوا عنها، ولكن في نهاية الأمر، وتحديدا فيما يخص جيرترود بيل، فأنها أكدت في أكثر من موضع في رسائلها أنها في العراق لخدمة الادارة البريطانية وإمدادها بكل المعلومات الممكنة عن المجتمع العراقي لغرض توسيع سلطة المستعمر البريطاني.
إعادة انتاج هذا الخطاب الكولونيالي الاستشراقي وتسويقه للمتلقي العراقي بالتحديد من خلال ندوات وورش عمل أقيمت في بغداد تمثل إشكالية عميقة. حيث أنه في الوقت الحالي تحديدا يتناسى الكثير من العراقيين ليس فقط دور المستعمر البريطاني ومن تواطأ معه من “النخبة المحلية” في استغلال العراق على مدى سنوات، وإنما أيضا الدور الأمبريالي للمستعمر الأمريكي الحديث ودور حلفائه في تدمير المجتمع العراقي والبنية التحتية لهذا البلد منذ عام ١٩٩٠. في مثل هذه النتاجات التي تعمل على تجميل وترقيع دور المستعمر تتم إعادة تصوير المنظومة الاستعمارية بأجملها على أنها جاءت بمباركة المجتمع العراقي وبغاية سامية لتحرير البلاد من العنف والفوضى أو\ولتحرير مجتمعه ونسائه بالتحديد من عادات "متخلفة" وليس لغايات إمبريالية بحتة.
ثانياً: تصوير جيرترد بيل من قبل منتجي الفيلم وغيرهم بل وحتى من قبل بيل نفسها، كما ورد في إحدى رسائلها، على أنها مؤسِّسة العراق الحديث ما هي إلا مغالطة تاريخية كبيرة، تمحو تاريخ الكثير من الحركات السياسية الوطنية قبل وأثناء فترة بيل، كالحزب الشيوعي العراقي في بدايات ١٩١٤ وحزب الحرية والإئتلاف في مطلع ١٩١٢. هذه الحركات جابهت المستعمر البريطاني ومن قبله السلطة العثمانية، وكان لديها مشروع سياسي وحدوي مناهض للاستعمار، وإن تواطأ بعضها مع المستعمر البريطاني في الفترات اللاحقة. لعبت جيرترود بيل دوراً في تنفيذ الأجندات الاستعمارية في العراق التي خدمت مصالح المستعمر ومصالحها الشخصية ولم تلعب دوراً في انشاء العراق كمشروع وطني (إن صح التعبير) كما حاول الفيلم الوثائقي أن يصورها. في واقع الأمر كانت "الخاتون" من أشد المناهضين للمشروع الوطني ولثورة العشرين، التي لم تتوقف عن وصفها بأنها بروباغاندا "متطرفة و متعصبة", و لكن أيضا أكدت أنه "اذا ما تركوا هذه البلاد لهولاء الكلاب (المقصود الحركة الوطنية)، فأن سلطة بريطانيا سوف تتزعزع ليس فقط في العراق وإنما في أسيا بأجمعها"٦.
كما هو متوقع ومقصود بنفس الوقت لم يتطرق الفلم لثورة العشرين و للحركات السياسية إلا بعجالة وبإقتضاب شديد حيث ذُكر جزء مقتبس من رسالة لبيل كانت تؤيد فيها نداءات العراقيين بالاستقلال والحكم الذاتي و لم يتم ذكر بقية هذه الرسالة أو الرسائل الأخرى التي أوضحت فيها أن تأييدها لتلك النداءات للاستقلال نابع من قناعتها أن مصلحة وسلطة بريطانيا في العراق سوف تزداد ان ابتعدت عن الحكم المباشر و حولت إلى حكم غير مباشر يتم من خلاله اختيار شخص عربي موال للأجندات البريطانية، يعمل بنفس الوقت على إسكات الأصوات التي تنادي بالاستقلال. لم يكن العراق من منظور بيل إلا حقل تجارب تتمكن من خلاله الإدارة البريطانية من تطوير المنظومة الاستعمارية لتستجيب للمتغيرات السياسية والشعبية في ذلك الوقت. وأوضح مثال على ذلك نجده بين طيّات إحدى رسائلها حيث تقول: "سوف تكون تجربة جديدة وجميلة لي إن رشحت نفسي لأكون الملكة غير المتوجة لكردستان. ولكنني لا أريد ان أقف في طريق السير پيرسي كوكس (المفوض السامي للعراق آنذاك) أذا ما كان يريد هو ذلك المنصب. لربما سوف نحتاج لرمي عملة لنختار إحدانا"٧.
ثالثا: انتقى فيلم "رسائل من بغداد" من رسائل جيرترد بيل ماهو مشرف لها وصوّرها كأنها ذلك الفرد المتعاطف مع العراق ووحدته، في حين أنها كانت من المساهمين في تأصيل الخطاب الطائفي آنذاك، سياسيا واجتماعياً، من خلال الكثير من القنوات التي كانت قد تغلغلت داخلها. من يقرأ رسائلها بتمعن سيلاحظ أنها كانت مليئة بخطاب طائفي مسيس دخيل على المجتمع العراقي آنذاك. لم تكتف بيل بتقسيم المدن والمناطق العراقية بناءاً على عوامل طائفية دينية لا تمت بصلة للواقع على الأرض وكانت فقط تسهل عملية تقسيم المجتمع العراقي للأدارة الأستعمارية، وأنما كانت أيضا تنادي بالمحصاصة الطائفية في التمثيل السياسي في الحكومة العراقية التي شكلت من قبل الإدارة البريطانية ونتجت عن ترشيح الملك فيصل الأول، مع التشديد على أن الملك كان يجب أن يكون من الطائفة السنية من وجهة نظر بيل والإدارة البريطانية في العراق.
بالأضافة إلى كل هذا، فإن تأصيل ذلك الخطاب الطائفي على المستوى الشعبي كان يتم تغذيته ونشره من خلال صحف وجرائد البروباغاندا التي كانت تنشر من قبل الانتداب البريطاني باللغة العربية. كانت بيل تعمل كمحررة رئيسية لإحدى هذه الصحف: جريدة العرب (لاحقا سميت “العراق” بعد تعيين الملك فيصل الأول) الناطقة باللغة العربية والتي كان شعارها، وهذه مفارقة طبعاً، "من العرب إلى العرب". في احدى رسائلها ذكرت بيل إنه لا يتم نشر أي خبر أو مقال في الصحيفة دون أن يعبر رقابتها ويحصل على موافقتها شخصيا بغض النظر عن دور المحرر الرسمي لتلك الصحيفة آنذاك، الأب أنستاس الكرملي، الذي كان يلعب دورا ثانويا٨. الكثير من المقالات والأخبار المحلية التي كانت تنشر في هذه الصحف استخدمت لغة طائفية في تصوير المجتمع العراقي والأحداث السياسية والأجتماعية التي كانت تجري في تلك الحقبة، وحتى في الماضي تحت السلطة العثمانية. أحد الامثلة على زرع تلك البذرة الطائفية كانت في عدد من صحيفة العرب، حيث تم وضع أعلان لجمع التبرعات لبناء تمثال في بغداد لأحد الضباط البريطانيين وتم فيه ذكر المبالغ التي جمعت في حينها، ولكن مع ذكر الطائفة الدينية لكل فرد عراقي كان قد تبرع لبناء هذا التمثال وإجمالي المبلغ الذي تبرعت به كل طائفة دينية.
المشكلة الأساسية في فيلم "رسائل من بغداد" وغيره من النتاجات التي تعتمد على أسلوب ومصادر مشابهة تتمثل في نقطتين مترابطتين. الأولى هي أن المصادر التي اعتمد عليها الفيلم الوثائقي هي مصادر أستعمارية بريطانية، تخلو من الصوت المحلي العراقي (إلا من ساند المستعمر) وتعيد كتابة تاريخ العراق ليس فقط في حقبة الانتداب البريطاني، بل في الحقب التي سبقته من منظور كولونيالي مغاير لحقيقة الواقع السياسي والأجتماعي آنذاك. الأشكالية الثانية تكمن في اعتماد تلك المصادر على أنها فعلاً ممثلة لتاريخ العراق، فبهذه الحالة ما نقوم به سواء كمنتجين أو كمتلقين ماهو إلا اعادة تأصيل لفكرة أنه لا دور أو قيمة لصوت الفرد العراقي في كتابة تاريخه\ها، وأن المحتل وحده هو المصدر الموثوق به لكتابة ذلك التاريخ. أو، في المقام الثاني، الأصوات المحلية التي تردد صدى الخطاب الاستعماري ورؤيته. ولقد أعتمد منتجو هذا الفيلم الوثائقي على أصوات عراقية من الماضي أشادت بجيرترود بيل. لذلك، كان من المؤسف أن يلحظ في تتر نهاية الفيلم الوثائقي أن عدداً من الذين كانوا جزء من الكادر البحثي والأكاديمي لهذا الفيلم هم أكاديميون عراقيون, بالاضافة الى دار الكتب و الوثائق العراقية التابعة لوزارة الثقافة. ولا بد من التساؤل، أيكون هذا التعامل\التواطؤ غير النقدي ناتج عن عقدة تقديس النتاج الأكاديمي القادم من الغرب التي تتولد لدى الكثير من مجتمعات مابعد الأستعمار\الأحتلال، أم أنه نابع من إشكالية أكبر، يذكرنا بها فرانز فانون، وهي غياب الوعي النقدي سياسياً وتاريخياً لدى طبقة كبيرة ممن يسمون أنفسهم بالمثقفين والذين يفترض أن يلعبوا دوراً مهماً في توعية المجتمع بصورة عامةً وتفكيك الاستعمار في العقول.
هوامش
1. رسالة جيرترود بيل الى فلورينس بيل بتاريخ ١٤ أبريل ١٩٢٦
2. رسالة جيرترود بيل الى والدها هيو بيل بتاريخ ١٥ أبريل ١٩٢٤
3. رسالة جيرترود بيل الى والدها هيو بيل بتاريخ ١٨ ديسمبر ١٩٢٠
4. رسالة جيرترود بيل الى والدها هيو بيل بتاريخ ٩ يناير ١٩٢٤
5. رسالة جيرترود بيل الى والدها هيو بيل بتاريخ ١٣ يوليو ١٩١٨
6. رسالة جيرترود بيل الى فلورينس بيل بتاريخ ١٠ أبريل ١٩٢٠
7. رسالة جيرترود بيل الى فلورينس بيل بتاريخ ١٧ أكتوبر ١٩٢١
8. رسالة جيرترود بيل الى والدها هيو بيل بتاريخ ٩ نوفمبر ١٩١٧