جدليّات كأس العالم: ملف خاص
[تثير مباريات كأس العالم مشاعر حادّة وردود فعل واستقطابات قويّة. كما تؤجّج عصبيّات وتحيّزات قد يتقاطع فيها الرياضي مع السياسي. وهي أيضاً مناسبة استثنائيّة يمحو أثناءها المشجعون والمشجعات الحدودالدولية لتشجيع فريق بلد آخر ورفع علمه. بمناسبة النهائيات الجارية حالياً في روسيا تنشر «جدلية» ملفاً خاصاً يتأمّل فيه الكتاب والكاتبات هذا الحدث من زوايا مختلفة وستنشر النصوص تباعاً في هذه الزاوية.]
جمال جبران: كأس العالم في . . . بيروت
* هذه أول مرة أحضر كأس العالم في بيروت. كنت أسمع تلك القصص العجيبة القائلة بحقيقة زوال رايات الحزبية والطائفية لتحضر أعلام الدول اللاعبة في البطولة وتنتشر قبل أيّام من إقامتها لتقول : كيف تلتقي الأطياف المُختلفة مذهبياً وتجتمع أمام شاشة واحدة وقد تركت أثقال الفُرقة خلف ظهرها حين يُقال : لقد بدأت كأس العالم!. ليس سهلاً أن تأخذ ذلك الكلام على محمل الجد لو لم تشاهده بعينيك. أن تكون في الحدث وتقبض عليه فلا يبدو على هيئة كلام لا أكثر. حين تجد أغلبية محلّات المدينة وقد علّقت على أبوابها رايات الدول المُشاركة في البطولة.
* قبل بداية بطولة كأس العالم بأيّام قليلة أصدر محافظ بيروت قراراً يمنع الناس من رفع أعلام المنتخبات التي يشجعونها. قال بأن المسألة تتعلّق بنقطة السيادة الوطنية وبأن القانون لا يجيز رفع أيّ علم غير العلم الوطني على الأراضي اللبنانية. وطبعاً تم التعامل مع القرار بسخرية كبيرة ولم يتم التعامل به حيث رأينا أعلام أغلبية البلدان المشاركة في البطولة على جدران نوافذ بيوت بيروت. تنوّع ضخم في الألوان وكل والانتماءات. وهذه صورة بيروت الحقيقية. لا أحد يقدر على كبحها. لكن!
* هذه الليلة وأنا أسير في كتابة هذه المقالة تذكّرت صورة لي من ذكريات مدينة عدن التي أكلتها الحرب الأهلية. صورة في واحد من أشهر ملاعبها وكنت ،في الصورة، أدعي الله أن يحمي عدن من أية حروب أهلية قادمة. لكن يبدو أن الله لم يستجب لدعواتي. اكتشفت إن الله لا يستجيب لدعواتي في أيّ مكان اذهب إليه.
* حين بدأت البطولة خرج المنتخب الألماني على نحو مُبكر. ولألمانيا أنصار كُثر . اشتعلت نيران الكلام والمناكفات بين الخاسرين والفائزين وأدى ذلك لمقتل شاب مناصر للمنتخب البرازيلي على يد أنصار المنتخب الألماني الموجوعين بخسارة فريقهم. طعنوه بسهولة. يبدو أن الموت يلاحقني في كل مكان ولهذا لم أخرج في باقي أيّام البطولة رافعاً راية الفريق المصري الذي أعشقه. اكتفيت بتعليق الراية على صدر صالة بيتنا. يكفيني كل الموت الذي صار ومر في حياتي.
* بعد هذا الأمر بفترة قليلة كنت أمشي مرتدياً فانلة برتقالية اللون. "أورنج" . لم أكن أعلم بأني أمر ، مع رفيقتي في منطقة واقعة تحت سلطة جماعة تكره اللون الأورنج لأنه ببساطة لون الجماعة السياسية الأُخرى التي تناصبها العداء. قالوا لي " ولك يا شرموط ، ولك لابس أورنج!". ولولا حكمة رفيقتي التي تجاوزت الحاجز الذي وضعوه وداست على بنزين سيّارتها لكنت رحت فيها أو على الأقل "أكلت قتلة محترمة" (كما يُقال باللبناني). وجعتني الحادثة لأني اكتشفت صورة أُخرى لبيروت وأن بعض أهلها يحاكمون الناس على لون ثيابهم. وكمان أنا في الأساس هارب من اليمن بسبب القلق الذي صار فيه والقتل اليومي الذي صار علنياً. فهل أهرب من موت إلى موت!