الشجرة التي تخفي الغابة: المونديال وما وراء الحملة السعودية ضد مصلحة المغرب

[المصدر: موقع  البوابة] [المصدر: موقع البوابة]

الشجرة التي تخفي الغابة: المونديال وما وراء الحملة السعودية ضد مصلحة المغرب

By : Abdellah Hammoudi عبد اللّة حمودي

وجهة نظر

لنتصور أن الحملة السعودية ضد مصلحة المغرب خلال الترتيبات بشأن التصويت من أجل تعيين البلد المضيف لمونديال 2026- أقول لنتصور إن تلك الحملة شجرة، وإن هذه الأخيرة تخفي غابة، وإن تلك الغابة تمثل ما هو كامن وراء الحملة. ركز المغاربة، إلى الآن، على الحملة نفسها، وهذا طبيعي نظرا للصدمة التي ضربت توقعاتهم ومشاعرهم. لكن التركيز على الحملة نفسها وعلى استفزاز المغرب من طرف ممثل رسمي على أعلى مستوى للرياضة السعودية- هذا التركيز قد يخفي ما وراء النازلة، والذي أظن أنه أكبر بكثير من أزمة في مجال كرة القدم.

في البداية، هناك توضيح مهم: لا أجزم أن الأصوات التي خذلت المغرب كانت كافية لضمان فوزه في حالة التصويت لصالحنا. والمسألة الأساس تتلخص في كون السعودية وقفت في وجه مصالح المغرب بعجرفة ملحوظة. ولا أحتاج إلى التذكير بالتحالف السعودي-الإماراتي ذي الصبغة الهجومية الجديدة في المجالات الاستراتيجية—تحالف لا ينفي وجود اختلافات عميقة في سياسات وأهداف البلدين كما يبدو ذلك جليا في اليمن. ولا أظن أن الضغوط الأمريكية وما سمي، بـ"صفقة القرن" وحدها تفسر الموقف السعودي، إذا لاحظنا أن تلك الضغوط مورست كذلك على قطر وعمان وبلدان أخرى صوتت لصالح المغرب..  ولا أتصور أن التحالف الأمريكي/السعودي-الإماراتي كان من المحتمل أن تصيبه نكسة لو أمسك النظامان الخليجيان عن دعم ثلاثي القارة الأمريكية خلال المشاورات وعملية التصويت.المحمدان:وولي عهد السعودية.. الماسكان بزمام الأمور في بلديهما

أتجنب التركيز على الحملة نفسها، وذلك لوفرة الكتابات في الموضوع أولا، ثم، وهذا أهم، لأن تركيز النظر عليها يحجب الدوافع البنيوية التي حركت النظامين في مواجهة كانت غير متوقعة مع المغرب. سأحاول تحليل تلك الدوافع، وليس غرضي الإتيان بتفسير شمولي، ولكن ملامسة عوامل أراها حاسمة.

أبدأ بطرح فرضية هذا المقال، بعد ذلك أخصص القسط الأطول للتنقيب عن الدوافع الكامنة وراء الحملة.

الفرضية

السعودية اليوم ليست هي السعودية التي عرفناها بالأمس. والشيء نفسه ينطبق على الإمارات. فهما اليوم لا يُطيقان تألق أي بلد عربي، أو فوزه باعتراف عالمي في ميدان ما؛ ويحرصان على الظهور فوق كل هذه البلدان في الفضاء الإعلامي، معززين بثقل رأسمالهما الذي يضمن نفوذاً ديبلوماسياً من نوع خاص. ودائما في تكتم وسرية.

معنى هذا أن ظهور المغرب على منصة التنظيم الكوني للمونديال يمثل، بالنسبة لهما، خطاً أحمرا وممنوعا. وتصريحات ممثل السعودية، ووقاحتها تحيل على هذا الاتجاه.

إلى زمن قريب كان النظام السعودي يعول على نشر المذهب الوهابي المتشدد، وتمويل الشبكات الموالية له بسخاء؛ وكذلك توزيع المنح المالية على الدول للتأثير في سياستها، وفي أوساطها السياسية والاجتماعية. وكان الحج أقوى منصة للدعاية الوهابية، وتكوين الشبكات الموالية للمملكة النفطية. هذه السياسات ما زالت متبعة، وقد زاد زخمها في العشرين سنة الماضية وهي في تنام مضطرد.

لكن يظهر أن هناك اليوم مذهباً جديداً يُتوج تلك السياسات الكلاسيكية: ألا وهو مذهب استبدال الأنظمة غير الموالية بالقوة، أي مثلا بمساعدة حركات انقلابية. هذا التوجه، في نظري، منسوخ من نموذج أمريكي معروف يسمى " regime change ". وقد بدأت تظهر بوادره في السنوات الأخيرة في ليبيا ومصر وغيرها، وكانت آخر المحاولات في الأسابيع الماضية في تونس كما هو معلوم.

والبرنامج الجديد يرمي إلى فرض  التحالف السعودي-الإماراتي كقوة جهوية عظمى تبسط نفوذها على دول المنطقة. والظاهر أن هذه القوة الجهوية تضطلع بمهام تحقيق الأهداف الأمريكية والإسرائيلية مقابل حمايتها عسكريا وأمنيا.

ما وراء الحملة

بداية، أريد أن أدلي بتوضيح فيما يخص موقفي. ذلك أني أرى أن عنوان من قبيل "ما وراء الحملة" قد يسقط في خطاب المؤامرة. خطاب متضخم جداً في المغارب والمشارق. وفكرة المؤامرة هاته، وإن كان لها أساس في الواقع، (المؤامرة الصهيونية مثلا)، فإنها أصبحت اليوم بمثابة ستار يحجب الواقع. هذا طبعا لا ينفي إمكانية المؤامرة بالمعنى الكلاسيكي كما أقدمت عليه الإمارات مؤخرا بتدبير انقلاب فاشل في تونس.

فماذا إذن وراء الحملة السعودية؟

ليس غرضي الإحاطة بجميع العوامل، ولكن ملامسة عوامل أظن أنها عوامل قوية التأثير. ألخصها في خمس:

- تشكيلة مجتمعية وسياسية تتحكم فيها عائلتان

وراء الحملة نظام سعودي متحالف مع نظام إماراتي. وهما معاً ملكيتان بتروليتان تتمتعان بأرصدة مالية خيالية، قل نظيرها، إن نحن أخدنا في الحسبان حجم البلدين الديمغرافي الصغير نسبيا. هذه الأرصدة يُسخرها حكم عائلي- قبلي. وتتملك غالبيتها العائلتان الحاكمتان اللتان لا تميزان عمليا بين خزينة الدولة وثروتها الخاصة.

نعم هناك نظام قانوني وإداري يميز بين موارد الدولة وموارد العائلة. لكن هذه الأخيرة تتصرف وكأن موارد الدولة والوطن ملكية خاصة لها. وهذا راسخ منذ أن أبرم الجد، الملك عبد العزيز آل سعود، الاتفاقية المشهورة بشأن التنقيب عن النفط واستغلاله مع الشركات الأمريكية، وتلقى مقابل ذلك ثمنا ألح حينها على أن يكون من ذهب. والإمارات بالمقارنة حديثة العهد بالاستقلال، لكن عملية استغلال عائدات البترول لا تختلف كثيرا عن الجارة السعودية. فالعائلتان المالكتان، والعشائر القريبة منهما، والمتحالفة معهما، منظمة في شكل شبكة محكمة ومحصنة اجتماعيا، تقصي أي عنصر أجنبي عنها. وتوفر الخلايا الوهابية "المشروعية" الدينية لهذه التشكيلة.

ومعنى العنصر الأجنبي في هذا الباب يجب تدقيقه: العشائر المذكورة تعتبر نفسها، ومن قديم، مجموعات شرف ومجد يخولان لها التموقع في أعلى هرم المجتمع. فما هو أجنبي عنها في هذه النازلة يتكون من القبائل الأخرى، التي وإن كانت هي الأخرى عربية، تحتل مرتبة دونية في التراتبية. ثم تأتي مجموعات من أصول أخرى، وأوساط حرفية تحت إمرة القبائل. وكذلك أعداد الناس من ذوي الأنساب المختلطة (بالمقارنة مع القبائل الحاكمة التي تعتبر أنسابها عربية محضة...). والأجنبي هو أيضا العربي الذي نزح إلى هذين البلدين لكسب الرزق، والإقامة بصفة أو أخرى بهما: وهم الخبراء العرب واليد العاملة المستوردة من المستخدمين: من إداريين، ومهندسين، وأساتذة جامعيين، إلخ...

الملك محمد السادس صحبة ولي عهد أبو ظبي محمد بن زا

والحاجز الرئيسي الذي يسد الباب في وجه ما هو أجنبي بالمعاني المذكورة هو عملية الزواج. ذلك أن العشائر الأرستقراطية غالبا ما تتزاوج مع بعضها البعض فقط. وقد تفتح الباب لتزويج نساء من شرائح أخرى من طرف رجالها، ونادرا ما تقبل زواج البنات خارج دائرتها، إلا مع تكافؤ  المراتب..

هناك طبعا أمكنة السكن والعيش اليومي والترفيه. والمثير هو أن هذه الأمكنة معزولة عن بعضها البعض، بفعل الأصول والثراء مع قدر من التساكن في الأسواق وفضاءات الترفيه. وقد خضعت التصاميم المعمارية لهذه المعايير.

والأجنبي أيضا يتمثل في الأعداد الكبيرة من أصول غير عربية، والمستخدمة، وهي من (الهند وآسيا وغيرها)، من خبراء وتقنيين، ويد عاملة خاصة في ورشات البناء.

خلاصة: هذه المجموعات تعيش بمعزل عن العشائر المتنفذة، وفي أحيائها الخاصة. فما عدا الالتقاء في الأسواق والإدارات والجامعات والورشات مثلا، فإن كل جنس يعيش مع جنسه في منظومة شبيهة بالتمييز العنصري.

فما وراء "الحملة" تكمن النواة التي توجد في قلب التشكيلة وتسيرها، تسهر على استمراريتها بالقوة والدعاية الدينية والتواصليات التي تنقل إلينا "الازدهار" السعودي والإماراتي من أبراج  ومعمار "خارق" من صنع أدمغة وأيادي أجنبية في الغالب.

أعرف أن في السعودية والإمارات شباب طموح ومتكون يشتغل في قطاعات عدة؛ وكذلك شباب عاطل (في السعودية خاصة) وعدد من الغربيين والمقيمين العرب قد لا ينطبق عليهم نظام التمييز في السكن. وأقرأ لعلماء مقتدرين في الدين وغيره، ولكتاب وشعراء ذوي باع كبير في مجال تخصصاتهم، وفنانين يمكن الاستمتاع بعطاءاتهم. وهناك مناضلون ومناضلات من أجل إنقاذ البلدين من عوائق النُظم التي وصفت بإيجاز. كما وأني أحترمهم وأحترم تضحياتهم. ولكن تبقى المنظومة طاغية مع تحول بطيء وإصلاح تسلطي موجه من الخارج (كما هو الحال في ظل حكم ولي العهد السعودي محمد بن سلمان). وطبعا، فقد سبق أن وقفت بالملموس على أن الشعب السعودي متعدد الاتجاهات والمشارب، ولا يصح تنميطه بأي وجه.

- قوة مالية واقتصادية من نوع خاص        

وراء هذه الحملة قوة مالية واقتصادية أصبحت عالمية. لكن ذلك التموقع العالمي للسعودية والإمارات لا ينبني على صرح اقتصاد منتج ومتفوق بفضل صناعات مبنية على تطور علمي وتكنولوجي من اجتهاد نخبة محلية. والبلدان لا يحتلان الصدارة بفضل قوة إنتاجية كما هو الحال في أوربا والولايات المتحدة الأمريكية وكندا والصين واليابان وكوريا الجنوبية وغيرهما... وليس للبلدين إنجازات اقتصادية وصناعية تضاهي إنجازات بلدان إسلامية أخرى مثل ماليزيا وإندونيسيا. فيبقى البلدان أساساً بمثابة سوق عملاقة لترويج البضائع الغربية والخبرات الأجنبية.

إننا في الواقع أمام مجتمعين استهلاكيين بامتياز. نعم، قد تحسب القوة العظمى حسابا للقدرة الشرائية السعودية والإماراتية. لكن ليس لذلك تأثير حاسم في سياسات تلك القوى العظمى. بل العكس هو الصحيح، خاصة بالنسبة لأمريكا. والحال أن الأرصدة المالية للدولتين تجعل منهما رهينة للبنوك الأورو-أمريكية.

لكن بمجرد ما نوجه النظر إلى بلدان العالم الأخرى، وخاصة تلك التي تحتاج التعاون المالي والاستثمارات، مثل المغرب وبلدان أخرى في أفريقيا وآسيا وغيرها، فإن القوة المالية السعودية والإماراتية تظهر بمظهر آخر: ألا وهو الاستقواء بوسيلة الاستثمارات والمنح. وبجانب ذلك هناك ما هو أكثر خطورة، وهو تمويل شبكات التأثير في الدول من داخل مؤسساتها، ومحاولة السيطرة عليها. ومن تلك الشبكات التنظيمات الدعوية السرية والعلنية والجمعيات الخيرية الوهابية والجوائز.

فما وراء الحملة السعودية يكمن في الاستقواء على "الأشقاء" الذين يُعتقد أنهم سقطوا في قبضة "الأشقاء" بفعل الحاجة إلى الإعانة وسد ثَغرات الميزانيات المحلية. 

-  أزمة اختلاف أنماط الحياة في المغرب

بَيَّن التحليل السابق الوجهين المهمين للقوة المالية والاقتصادية الخاصة بالسعودية والإمارات. الوجه الهجين المندمج في السوق الأمريكية من جهة، والوجه الهجومي والمُستقوي الذي يمارسه البلدان في العلاقة مع الدول "النامية" من جهة أخرى، خاصة مع الأشقاء الذين لا يملكون ثروة نفطية مماثلة، والمغرب من أولئك "الأشقاء".

لكن هناك ما هو أهم في نظري: ألخصه في محاولة تفريخ الفكر الإسلاموي المتطرف، ونشر أنماط الحياة الاجتماعية والثقافية واليومية السعودية في المجتمعات الشقيقة. من آليات ذلك المجهود استعمال موسم الحج كقاعدة لبروباغاندا على مستوى المعمورة، والاستثمارات في المساجد، وفي "المدارس القرآنية" وكذلك الدعاية القوية للتخلق بأخلاق المملكة الرسمية في التصرفات والفعل اليومي، سواء تعلق ذلك بالعلاقات بين الجنسين، والأذواق الاستهلاكية، أو بنشر أفكار حول ما هو أنثوي والمروءات الخاصة المتصلة بهما؛ التي تعود إلى عادات البدو في الجاهلية، متلبسة بعباءة الإسلام الوهابي.

المجتمع السعودي يستهوبه نمط العيش الأمريكي

فضلاً عن ذلك، من المعروف أن العلاقات الأمريكية السعودية توطدت بعد الحرب العالمية الثانية. ومع تنامي المصالح المشتركة تكرس موقف الحكم السعودي من الحضارة الأمريكية، بحيث ترسخت لديه عقيدة قوية بأن لا علوم ولا تكنولوجيا ولا اقتصاد سوق يعتمد عليه  إلا ما هو أمريكي.

وبانتشار هذا الإيمان انتشرت أذواق في الاستهلاك هي في الحقيقة أمريكية مقنعة بغلافات عربية (كما كنت قد وضحت في كتابي حول موسم الحج).

فما وراء الحملة السعودية، إن نحن أمعنا النظر في الأمر، يكمن في الحقد "الدفين"، و"المعلن" أحياناً، على أنماط عيشنا التي تختلف عن الأنماط المفروضة في السعودية. وإن نحن تأملنا الأشياء بدقة، فسوف نقف لا محالة على مظاهر الاختلاف الشديد الذي ما فتئ يغذي جاذبية أنماط الحياة المغاربية بالنسبة للشباب الخليجي. وكذلك فإننا سوف نشعر بالأزمة المتأصلة في ذلك الاختلاف وهذه الجاذبية.

أسباب الأزمة هاته متعددة ولم أذكر إلا بعضا منها؛ لكنها بقيت دفينة في العقود الأولى من استقلال البلدان المغاربية.

فما وراء الحملة السعودية: أن نُخب آل سعود وآل الشيخ ومن تبعهم، يحاولون فرض أنماط حياتهم على المغربيات والمغاربة. وإن اختلاف الرؤى قد يمثل نواة أزمة حادة في العمق. بقيت هذه الأزمة صامتة، مع تناميها منذ عقود، لكن بوادر خروجها إلى العلن واحتمال انفجارها شيء يجب الاستعداد لمواجهة عواقبه. وما خرجات تركي آل الشيخ، وهو لسان محمد بن سلمان، ومحاولته تقزيم المغرب والمغاربة إلا عربوناً عن ذلك "الحقد الدفين"، وربما علامة تخوف من جاذبية الحياة المغاربية، وإغراءاتها لشباب الخليج. نعم تبقى الجاذبية الكبرى في أذهان النخبة السعودية الحاكمة لأمريكا وأوروبا، ولكن حياة المغارب لها مزايا لا يستهان بها.

- السعودية والإمارات محاطتان بثلاثة عمالقة ثقافيين مخيفين بالنسبة إليهما     

والتخوف من أنماط الحياة المغربية، ومن قدرة المغاربة على التعلم الهادف ربما يمثل سر التهجمات السعودية والإماراتية. وقد يتقاسم المغاربة هذه الخصال مع الجزائريين، والتونسيين، والموريتانيين بالخصوص.

وللتخوف المذكور مبررات تتجلى بوضوح حينما نحلل الوضع من منظور القوة الثقافية مقارنة مع القوة المالية. لأننا نقف لا محالة على معطيات حيوية. لكنها تخفى عن العيان في غالب الأحيان.

في السعودية كما في الإمارات نجد إنتاجا أدبيا بعضه تراثي والبعض الآخر من إبداعات معاصرة. ماعدا ذلك فالإنتاج الضخم للسعودية ينحصر في علوم الدين حسب المذهب الوهابي أو في إنتاج لأقلام وأساتذة "إخوانيين" كانوا قد استولوا على نظام التعليم في أواخر الستينات. لكن في السنوات الأخيرة شعرت النخبة بإغراق الوهابية في بحر من الإخوانيات فأبعدت مروجي تلك الأدبيات. لكن يبقى أن الإنتاج الديني بهذا المعنى يفوق في حجمه وفروعه وإصداراته بكثير الإنتاجات الأخرى.

بالمقابل فإن البلدين محاطان بثلاثة عمالقة ثقافيا: مصر، والمجموعة المكونة من العراق وسوريا وفلسطين ولبنان، ومجموعة المغرب الكبير. فالبلدان أيضا في موقع ضعف من جانب الإبداع الثقافي بالمعنى الأوسع والجذاب. وعدم سيادة الوهابية الدينية في هذه العمالقة الثقافيين هو ما يقزم دور السعودية والإمارات أكثر.

عودية طالما استعملت الحج كمنصة للترويج لفكرها الوهابي

أما في حالة المغرب فإن الإخوانية بمعناها المصري تتكيف مع الفكر الديني السني المالكي السائد في البلاد. والتنافسات في هذا المجال مفتوحة، تتحاور وتتضارب مع اتجاهات فكرية وعلمية متعددة. وهناك أيضاً تجذر ملحوظ  للفكر الفلسفي والنقدي وكذلك الإبداعات الفنية على اختلافها. كل هذا في جو الانفتاح على التيارات الخارجية الأخرى، في العالم العربي كما في أوروبا وغيرها. فالسعودية والإمارات، من هذا المنظور، يظهران في موقف ضعف. وكذلك فإن منظومتهما الدينية–الثقافية تظهر مهددة باستمرار، بالرغم من المليارات التي تصرف يوميا لنشر قوالبها، والدفاع عنها، وكذلك شراء الذمم وتمويل الأوساط المتعصبة.  ولا ينفع مع هذا كون آل سعود نصبوا أنفسهم خدام الحرمين الشريفين.

كذلك لا ينفع تسخير الأموال لاقتناء فروع جامعات أوروبية وأمريكية عتيدة، ونصبها على ضفاف الخليج، ولا فروع المتاحف ذات الشهرة العالمية مثل اللوفر الباريسية، ولا التظاهرات الثقافية، ولا ترسانة الجوائز التي غالبا ما يفوز بها "أشقاء" من خارج البلدين... وهذا في حد ذاته مؤشر من مؤشرات الضعف. ولا ينفع مع ذلك برامج الترفيه الجديدة والمدن الافتراضية التي تستند تصاميمها وإنجازها إلى مقاولات غربية.

لا أدعي أن المغرب حقق التقدم الأمثل؛ ولكنه بالمقارنة وبالنظر إلى إمكانياته، قد حقق الكثير؛ وصار يطفو إلى سطح التثمين العالمي في مجالات، منها الإبداع الفني والثقافي، وبناء فلاحة عصرية، وصناعات حديثة. وإذ نشكو بؤر الفقر والفوارق الطبقية، وأزمة برنامج النمو،  فإن ذلك بالأساس يمثل أزمة نجاح في تنمية مجالات عدة معروفة.

فما وراء محاولات تقزيمه من طرف حكام السعودية في الميدان الكروي، ما هو إلا موقف دفاعي للمملكة النفطية الغنية ماليا والمتواضعة علميا وثقافيا.  وهو في الحقيقة تحامل على إنجازات بناها المغاربة بعقولهم وسواعدهم وبدون نفط !  

- مشروع قوة جهوية مهيمنة على المنطقة مقرونة بمذهب جديد 

قلت إن بذور الأزمة قديمة، وحاولت تبيان تناميها، في الخفاء والصمت النسبيين، ولعقود مضت. وقد حافظ المغرب على التوازنات الأساسية، وعلى الأواصر الحقيقية بينه وبين السعودية والإمارات. وهذا يدل على أن هناك رصيداً من الحكمة والتجربة المشتركة يحفظ ما هو حيوي في العلاقات والمصالح المتينة التي تجمع بين البلدان الثلاث.

لكن هناك شيئاً جديداً برز مؤخرا، وأظن أنه تتويج لسياسات ما فتئت تنمو منذ عقود. بهذه السياسات ترمي السعودية إلى بلوغ مكانة متميزة كقوة جهوية بلا منازع في المنطقة، وتتفوق على مكانة مصر التقليدية. وقد برز هذا المجهود بجلاء منذ الأزمة اللبنانية واتفاقية الطائف الشهيرة. وأستغني عن ذكر معالم أخرى في تلك الطريق. لكن القطيعة تظهر اليوم في اتخاذ مذهب وسياسة جديدتين تجاه الأشقاء في المنطقة: أعني بذلك نظرية استبدال الأنظمة غير الموالية بالقوة. نرى ذلك في تحركات لا تخفى أهدافها. والمثال الأخير تجلى في تدبير انقلاب فاشل في تونس، وقبله حجز رئيس الوزراء اللبناني في الرياض... وسياسة عرض العضلات القوية هذه تمارس يوميا في المناورات العديدة، وفي حرب اليمن، كما في الخرجات الإعلامية، لا سيما في القنوات الأوروبية والأمريكية... واستعمال القوة والإكراه هذا يطال الفرقاء السياسيين داخل السعودية والإمارات نفسهما، كما الدول "الشقيقة". وبما أن كل شيء عظيم في ذهن حكام البلدين، كما ذكرت هو أولا وقبل كل شيء أمريكي، فإن استبدال الأنظمة بالقوة بدوره يمثل استنساخا للمذهب الأمريكي المعروف بـ"regime change".الملك محمد السادس و محمد بن سلمان وسعد الحريري

فما وراء الحملة السعودية يكمن الوجه الجديد لسياستها تجاه "الأشقاء"، ومن ذلك ضرب الحصار على قطر، والقفز على حقوق الفلسطينيين ومصالحهم.

أما كرة القدم والمونديال فهما ليسا سوى الشجرة التي تخفي الغابة الكامنة وراء الحملة السعودية. 

خاتمة: ما العمل؟ 

قبل تحديد آفاق ممكنة للعمل الجاد في هذه المرحلة من العلاقة بين البلدين، يكون من المفيد توضيح مؤهلات المغرب ومكتسباته. أولها اقتصاده النامي نسبيا والمتنوع. ثانيها تعدد شركائه في المنطقة، وفي أوروبا وأمريكا. وكذلك بلدان أخرى من المنطقة العربية. وبذلك فإنه ليس بسجين العلاقات مع السعودية والإمارات. صحيح أن تمويلات البلدين تسد ثغرات مهمة في ميزانية المملكة، لكن اقتصاد المغرب منتج، وحظوظه في جلب استثمارات متعددة الجنسية لا بأس بها.

وثالثها أنه ينهج سياسة تنموية جديدة؛ وبمجهود في ترشيد النفقات، والحد من التبذير، ومع قدر من التقشف فلربما قد يكون الاستغناء عن الاستثمارات والمنح السعودية والإمارتية ممكنا. والمعروف أن حجم هذه المساعدات يكون عادة أقل مما يُنشر في التصريحات. وأخيراً فإن رابع مؤهلات المغرب تتمثل في قدرات المغربيات والمغاربة على العمل المنتظم، واستعمال الأدمغة والأيدي التي ترتفع إنتاجيتها وتنافسيتها يوماً بعد يوم. ومع إصلاحات ضرورية قد يتحقق التوافق حولها بسهولة، فلي اليقين أن الاقتصاد المغربي سوف يحقق أهداف النمو والازدهار.

وأخيرا هناك قدرات المغاربة المعرفية والتقنية، وكذلك قدراتهم العسكرية بفضل جيش محترف ومتدرب على الدوام. هذه القدرات الأخيرة  تتفوق على سياسات تكديس الأسلحة في المستودعات الخليجية.

والملاحظ أيضا هو أن المغرب راكم في مجال الاستخبارات العلمية التي تراقب بنجاح خلايا العنف والترهيب، سواء كانت قاعدية أو داعشية أو غيرها. وقدرات الجيش المغربي مجربة، وقد أبان عن حسن بلائه، وبسالة جنوده، وتمكن قياداته في الجولان قبل خمسين سنة مضت، وفي تصديه لحرب عصابات البوليساريو.

بهذه المؤهلات، وأخرى لا يتسع المجال لذكرها، يكون بإمكان المغرب الاستغناء عن التعاون مع "الأشقاء" السعوديين والإماراتيين، والتركيز أكثر على تكثيف موارده، ورفع تنافسيتها في الأسواق الأمريكية والأوروبية وغيرها. والتعاون مع البلدان الإفريقية الصديقة له مستقبل واعد. وفوق هذا وذاك الاستعداد لمشاركة بناءة في مشروع الاتحاد المغاربي، بمجرد ما تتوفر الفرصة الحقيقية التاريخية للانخراط في ذلك المشروع الذي تنتظره شعوبنا بفارغ الصبر.

وعلى كل حال، فإن هذه المؤهلات لابد وأن تدخل في الحُسبان إن كان اختيار "الأشقاء"، وهذا هو الأمل، هو التفاوض الرزين على المصالح. وأظن أن المغاربة مستعدون لذلك، في جو من الاحترام المتبادل.

وإن نحن حاولنا رصد واقع الحال في السعودية والإمارات بإيجاز، فإنه يفهم أن مستقبل هذين البلدين رهين بمنظومتيهما الخاصتين اللتين تعتمدان على خبرة وعمل مجموعات من أجناس متعددة، تسخر تلك الأعداد لخدمة السكان الأصليين الذين ربما سوف يصبحون أقلية في بلدانهم،  والحالة أن تلك الأعداد تُسخر في خدمة النواة الاجتماعية ذات النفوذ الحقيقي. هذه النواة تحافظ على التراتبية وعلى مصالحها بفعل الانعزال عن الباقي، وفرض التمييز بوسيلة هندسة المعمار.

وأخيرا فإن هاته النواة تحكم المنظومة برمتها، بقوات الأمن والجيش، زيادة على الشبكة الوهابية. وإنه ومن الوارد أن تنقلب اللعبة يوما من الأيام على أصحابها طال الزمان أم قصر. ومهما يكن، فإن لا مستقبل لتصدير تلك المنظومة، وأنماط العيش، في شبه تمييز عنصري، ولا أسسها الثقافية إلى مجتمعات المغرب الكبير. وإن كانت هي تغري أقليات بالمال والوعظ فإن أغلبية المغاربة والمغاربيّين لن يطيقوا العيش في يوم من الأيام في ظل نظام اجتماعي من هذا النوع. وبالعكس، فإن أنماط العيش في مجتمعات المغرب لها جاذبية قوية بالنسبة لشباب الخليج. 

ملاحظة: يوجه الكاتب شكره لعبد الرحيم حماموشي على رقنه لهذه المقالة باللغة العربية على الحاسوب.

ظهر نسخة أولى من هذه المقالة في موقع Lakome

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬