باب العمود: أجمل أبواب القدس وموقع للمقاومة ومساعي التهويد

[المصدر: موقع وكالة القدس للأنباء] [المصدر: موقع وكالة القدس للأنباء]

باب العمود: أجمل أبواب القدس وموقع للمقاومة ومساعي التهويد

By : Abd El Raouf Arnaout عبد الرؤوف ارناؤوط

يُنظر إلى باب العمود على أنه من أجمل الأبواب في البلدة القديمة في مدينة القدس الشرقية المحتلة، إلاّ إنه بات مؤخراً رمزاً للسياسات الإسرائيلية في المدينة بدءاً من القمع والاغتيال، مروراً بمحاولات تهويد المدينة وطرد سكانها، ووصولاً إلى التضييق على المدينة اقتصادياً.

وخلافاً لسائر الأبواب في البلدة القديمة وعددها 10، فإن ثمة مدرجاً كبيراً يؤدي إلى الباب الذي أقامه السلطان سليمان القانوني في سنة 1538 بعد أن صممه المعماري درويش الحلبي، والذي يفضي إلى المركز التجاري في مدينة القدس والأماكن الدينية في المدينة وأبرزها المسجد الأقصى وكنيسة القيامة.

 [مدخل باب العمود]

يقول جمال عمرو، المتخصص بشؤون القدس: "باب العمود هو أحد أبواب القدس الرئيسية، بل هو أهمها على الإطلاق وأكثرها شهرة. وسُمي باب دمشق نسبة إلى وجهة المسافرين من خلاله في اتجاه دمشق، كما سُمي باب نابلس لأنه يتجه نحو نابلس."

ويضيف المحاضر في جامعة بير زيت: "سُمي باب العمود نسبة إلى عمود كان بارزاً في الساحة الداخلية للباب في الفترة الرومانية ضمن سلسلة أعمدة ممتدة في البلدة القديمة حتى آخر طريق خان الزيت، وتسمى شارع الكاردو، أي القلب، وهذا الشارع يظهر بوضوح في خريطة مادبا التي تُعتبر من أقدم خرائط المدينة."

ويتابع: "العمود ما زال موجوداً حتى الآن، لكن بسبب التغييرات التي حدثت في المدينة فإنه بات أكثر انخفاضاً، الأمر الذي يتطلب النزول بضع درجات من أجل الوصول إليه ورؤيته."

ويرى عمرو أن للباب مكانته التاريخية، فيقول: "زوار القدس يصلون إلى المدينة القديمة أساساً عبر هذا الباب، فمن خلاله زار الرحالة والمؤرخون البلدة القديمة وكتبوا عنها." ويضيف: "جدار الباب سميك وقوي ومتين، وهناك انحناء في الأبواب وفقاً لنمط العمارة العثمانية للمحافظة على المدينة والدفاع عنها، فهذا الانحناء يحقق الأمن لحراس المدينة، ومن الصعب جداً اختراقه بسهولة."

ومنطقة باب العمود هي الملتقى الذي تصل عنده وتنطلق منه الحافلات من القرى والمدن المجاورة لمدينة القدس، بينما كان قبل فرض الحصار الإسرائيلي على مدينة القدس في أوائل التسعينيات المكان الذي تنطلق منه وتصل إليه الحافلات والسيارات من جميع أنحاء الضفة الغربية وقطاع غزة.

ولأنه يطل على سور البلدة القديمة، ولأنه تجري منه وإليه أوسع حركة للبشر في القدس، فإن المواطنين الفلسطينيين يلجأون إلى مدرجاته من أجل الترويح عن أنفسهم وشرب القهوة والشاي.

ويصل إلى المكان رسامون من عدة أنحاء من العالم، وسيّاح أجانب كي يلتقطوا الصور التذكارية.

وحتى مطلع التسعينيات كان باب العمود يعجّ بالفلسطينيين من جميع أنحاء الضفة الغربية، والذين كانوا يصلون إلى البلدة القديمة للتبضع في أسواقها.

ففي داخل البلدة القديمة هناك سوق خان الزيت الذي كان يشتهر ببيع الزيت والسمن والبقوليات، وتتداخل به محال لتصليح البوابير والملابس، كما أن فيه سوق اللحامين الذين كان يبيع اللحوم الطازجة يومياً، وإلى جانبه سوق العطارين الذي يبيع العطارة، وسوق الخواجات الذي كان يبيع القماش والستائر.

 
[أحد أسواق باب العمود]

ومع تشديد الحصار على مدينة القدس الشرقية في سنة 1994، ومنع سكان الضفة الغربية من دخول المدينة إلاّ بتصاريح إسرائيلية، فإن الأسواق فرغت من زبائنها، وقلّت الحركة كثيراً في منطقة باب العمود.

عسكرة الباب

منذ عامَين حوّلت الشرطة الإسرائيلية باب العمود وساحته إلى ثكنة عسكرية ينتشر عناصرها على مدخله وساحته، ويقومون بإذلال الشبان الفلسطينيين.

ويقيم عناصر الشرطة الإسرائيلية 3 نقاط تفتيش في الطريق المؤدية إلى الباب يتم فيها إيقاف الشبان الفلسطينيين والتدقيق في هوياتهم وإخضاعهم لعمليات تفتيش جسدي مهينة.

كما اقتلعت الشرطة الإسرائيلية الأشجار من محيطه ونصبت عشرات كاميرات المراقبة على أعمدة الكهرباء المطلة عليه وحوله.

ومع كل حادث يقع في المدينة، تلجأ الشرطة الإسرائيلية في كثير من الأحيان إلى إغلاق باب العمود أمام حركة المواطنين الفلسطينيين من البلدة القديمة وإليها كوسيلة عقاب جماعي.

وفي 23 حزيران / يونيو الماضي قال رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو: "لقد تجمّع بعض القتلة حول هذا المكان، وهم يرتكبون عملياتهم مرة تلو الأُخرى. لقد أصبح هذا المكان رمزاً للإرهاب." وأضاف: "لهذا السبب طالبت بإعداد خطة وإجراء تغييرات، وقد أعدت الشرطة خطة بهدف تعزيز الأمن وتقليص حرية تصرف المهاجمين المحتملين، وأنا صادقت على تلك الخطة التي ستدخل حيّز التنفيذ في وقت قريب جداً."

وبعد تصريحات نتنياهو عمدت الشرطة إلى إقامة 3 نقاط تفتيش في باب العمود، وتثبيت عشرات كاميرات المراقبة في المنطقة.

يقول الباحث الميداني في شؤون القدس أحمد صب لبن: "منذ نحو عامَين تقوم الشرطة الإسرائيلية بعسكرة باب العمود من خلال نشر العشرات من قواتها على مدار الساعة في المنطقة، وتحويل 3 حواجز شرطية إلى حواجز دائمة، وذلك بالتزامن مع تثبيت عشرات الكاميرات لمراقبة حركة الفلسطينيين في المنطقة."

ويضيف: "رصدنا خلال العامَين الماضيين سلسلة واسعة من الانتهاكات بحقّ الفلسطينيين، وخصوصاً الشبان الذين يتم توقيفهم وإخضاعهم لعمليات تفتيش جسدي مذلة تترافق مع عمليات ضرب ومعاملة قاسية."

ويتابع صب لبن: "مدرج باب العمود كان لعدة أعوام متنفساً للعشرات من سكان البلدة القديمة، وخصوصاً في ساعات المساء، لكن الشرطة الإسرائيلية تلاحق الفلسطينيين وتنغّص عليهم بحجة الاشتباه فيهم لمنعهم من الوجود في المنطقة، إلاّ إن كثيرين من الشبان يرفضون هذه الإجراءات ويصرون على البقاء في المنطقة."

[نقطة تفتيش إسرائيلية عند مدخل الباب]

ساحة شهداء

خلال العامَين الماضيين بات الفلسطينيون يطلقون على ساحة باب العمود لقب "ساحة الشهداء" نظراً إلى سقوط العديد من الشهداء في المنطقة برصاص الشرطة الإسرائيلية بحجة تنفيذ أو محاولة تنفيذ عمليات طعن.

وتشير تقديرات فلسطينية إلى أن 20 فلسطينياً استشهدوا برصاص الشرطة الإسرائيلية في ساحة باب العمود خلال العامَين الماضيين. وبين الشهداء الفتاة فاطمة حجيجي، البالغة من العمر 16 عاماً ومن سكان قراوة بني زيد، فقد زعمت الشرطة الإسرائيلية أنها أشهرت سكيناً في 7 أيار / مايو 2017 قبل إطلاق الرصاص.

إلاّ إن منظمة "بيتسيلم" قالت: "تبيّن أن حجيجي التي توقفت على بعد أمتار قليلة من رجال الشرطة، لم تعرّض أياً منهم للخطر، لكن الشرطة أطلقت عليها ما لا يقلّ عن عشر رصاصات." وأضافت: "كان في إمكان رجال الشرطة الذين كانوا مدرّعين ومسلحين، ويقفون خلف الحاجز المعدني، أن يسيطروا على حجيجي ويوقفوها من دون الحاجة إلى إطلاق الرصاص، وبكل تأكيد من دون إطلاق الرصاص الفتّاك، لكنهم بدلاً من ذلك، أطلقوا النار وقتلوا فتاة تبلغ من العمر 16 عاماً، من دون أن تعرّضهم للخطر."

المشهد ذاته تكرر مع سهام نمر، وعمرها 49 عاماً وهي من سكان القدس، والتي زعمت الشرطة أنها في 29 آذار / مارس أشهرت مقصاً قبل أن يتم إطلاق النار عليها واستشهادها.

وقالت "بيتسيلم" أيضاً، إن "هنالك شكاً أصلاً في أن سهام كانت تستطيع عبور الحاجز والتقدم نحو أفراد الشرطة وتعريضهم للخطر. كما أنه نظراً إلى تحصيناتهم والوسائل التي كانت في حيازتهم، فإنه على الأرجح كان في قدرتهم السيطرة عليها وإيقافها من دون الحاجة إلى إطلاق النار، لكن رجال الشرطة بدلاً من ذلك، أطلقوا النار عليها وقتلوها."

ويقول صب لبن: "لقد استشهد العديد من الفلسطينيين برصاص الشرطة الإسرائيلية في ساحة باب العمود خلال العامَين الماضيين. وبالإجمال يمكن القول إن ردة الفعل الإسرائيلية كانت غير مبررة على الإطلاق ، إذ تم إطلاق كثير من الرصاص، وفي العديد من الأحيان مُنعت طواقم الإسعاف من تقديم الإسعافات للجرحى." ويضيف: "في جميع الحالات كان من الممكن اعتقال المهاجمين من دون إطلاق النار عليهم. إن الذي جرى لم يحدث مع حجيجي ونمر فقط ، بل مع سائر الشهداء أيضاً."

ومع أن الشرطة الإسرائيلية قامت بتثبيت كاميرات مراقبة في كل زاوية من زوايا باب العمود، إلاّ إنها ترفض إبراز شرائط هذه الكاميرات لإثبات رواياتها عن محاولات طعن، ولم تُبرز إلاّ حالتين فقط عن حادثَي طعن يظهر فيهما فلسطينيان وهما يحاولان تنفيذ عمليات طعن.

الهدف السيطرة على البلدة القديمة

ويرى مدير مركز القدس للحقوق الاجتماعية والاقتصادية، زياد الحموري، أن الاحتلال الإسرائيلي يهدف من وراء إجراءاته في باب العمود إلى السيطرة الكاملة على البلدة القديمة باعتباره المدخل الأساسي للبلدة. ويقول: "إسرائيل تستغل كل حدث من أجل فرض إجراءات جديدة في باب العمود في سياق مخطط يهدف إلى السيطرة على البلدة القديمة بأكملها، فقد تم تثبيت نقاط التفتيش وكاميرات المراقبة بالتزامن مع إجراءات تفتيش مشددة، فضلاً عن عمليات حفر بحثاً عن آثار مزعومة في منطقة باب العمود."

ويشير الحموري إلى أن "هذه الإجراءات كلها تهدف إلى خفض عدد المارّين عبر الباب إلى البلدة القديمة، وبالتالي التأثير سلباً فيما هو موجود خلف الباب، وهي الأماكن الدينية الإسلامية والمسيحية والمحال التجارية والسكان، وبالتالي هي محاولة للضغط بالإمكانات كلها من أجل تفريغ البلدة القديمة من سكانها الأصليين لمصلحة المستوطنين الإسرائيليين الذي يسعون للاستيلاء على مزيد من المنازل العربية في البلدة، وتحديداً طريق الواد."

ويضيف الحموري: "الإجراءات الإسرائيلية أثرت سلباً في الحركة التجارية في البلدة القديمة إذ لدينا قوائم بنحو 250 ـ 260 محلاً تجارياً أغلقت أبوابها في البلدة القديمة، وهو ما يمثل نحو 25% من عدد المحال التجارية التي تصل إلى قرابة 1100 محل، وتحديداً في باب السلسلة وسوق الدباغة والواد وسوق الخواجات وسوق القطانين وسوق اللحامين وغيرها من الأسواق التي كانت قبل أعوام تعجّ بالمواطنين من القدس وأنحاء الضفة الغربية."

ويلفت الحموري إلى أن اصحاب المحال التجارية أغلقوا محالهم بسبب قلة المتسوقين، مشيراً إلى أن عدد المحال المغلقة ازداد في الأعوام القليلة الماضية، وتحديداً العامَين الماضيين.

ويقول إن سلطات الاحتلال الإسرائيلي التي تضيّق على الفلسطينيين من أجل الحدّ من حركتهم في اتجاه البلدة القديمة، تعمل أيضاً على ملاحقة التجار من خلال الضرائب، محذراً من "خطر تسريب محال تجارية في البلدة القديمة بداعي عدم القدرة على دفع الضرائب الباهظة."

[حركة خجولة أمام الباب]

تكرار سيناريو الخليل

ويعتبر الحموري أن السلطات الإسرائيلية تحاول أن تكرر السيناريو الذي طبقته في مدينة الخليل في الضفة الغربية بهدف السيطرة عليها.

ويقول: "الإجراءات هي نفسها إن كنا نتحدث عن نقاط التفتيش الثابتة وعمليات التفتيش غير الإنسانية، كما أن ما يجري في شارع الواد الذي يربط باب العمود بالمسجد الأقصى هو ذاته المطبّق في شارع الشهداء في الخليل، وما يجري في المسجد الأقصى هو تماماً ما جرى في بداية تقسيم الحرم الإبراهيمي، وإغلاق المحال التجارية هو عينه الذي يجري في مناطق وجود المستوطنين في الخليل."

ويضيف: "إسرائيل تنظر إلى باب العمود باعتباره شريان الحركة إلى البلدة القديمة، وهي تريد ضرب هذا الشريان بما يسهل سيطرتها على البلدة القديمة."

إجراءات تهويدية في القدس

يتزامن تشديد الخناق على باب العمود مع إجرءات إسرائيلية في عموم مدينة القدس تهدف إلى فرض ميزان ديموغرافي جديد لمصلحة اليهود في مدينة القدس.

فقد بدأت تتعالى الأصوات في إسرائيل لفرض إجراءات جديدة يكون من شأنها إخراج أحياء فلسطينية من مدينة القدس مثل كفر عقب ومخيم شعفاط وعناتا وغيرها من الأحياء التي يقطنها ما يتراوح بين 120,000 و150,000 فلسطيني، وهو ما يشكل أكثر من ثلث عدد المقدسيين.

كما تدفع وزارة الإسكان الإسرائيلية في اتجاه إقامة مستعمرة جديدة على أراضي مطار قلندية والأراضي المحيطة تشمل 10,000 وحدة استيطانية للمستوطنين المتدينين.

ووضع حزب الليكود الإسرائيلي الذي يتزعمه رئيس الحكومة الإسرائيلية نتنياهو، مخططاً باسم "القدس الكبرى" يهدف إلى ضم 5 مستعمرات كبرى في محيط القدس إلى المدينة، بما يزيد في عدد اليهود في المدينة بنحو 100,000.

ويقول خليل التفكجي، مدير دائرة الخرائط في جمعية الدراسات العربية: "إن مجمل هذه الخطوات الإسرائيلية يهدف إلى منع إقامة عاصمة للدولة الفلسطينية في مدينة القدس، وإلى تكريس أغلبية يهودية كبيرة في المدينة على حساب المواطنين الفلسطينيين الذين تخطط إسرائيل ألاّ تزيد نسبتهم على 20% من سكان القدس بشطرَيها الشرقي والغربي، وأيضاً إلى تقسيم الضفة الغربية إلى منطقة شمالية وأُخرى جنوبية، بما يقطع الطريق على إمكان تطبيق حل الدولتين.

[يعاد نشرها ضمن اتفاقية شراكة وتعاون مع "مجلة الدراسات الفلسطينية"]. 

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬