عندما شاهدت فيلم Mile 22 (إخراج بيتر بيرغ، 2018)، بطولة أيكو أويس ومارك والبيرغ. نبهتني أحداثه وحواراته إلى أسئلة فلسفية تتعلق بالسياسة. بحسب جان لوك غودار، المخرج الفرنسي وأحد أبرز أعضاء حركة الموجة الجديدة السينمائية، فإن السينما هي أجمل خدعة على الإطلاق، فكل فيلم يطرح رؤية/خدعة يمكن تأويلها/فهمها بطريقة ترفيهية أو فلسفية. أشار المخرج والمنظّر السينمائي أندري تاركوفسكي إلى فكرة مشاهدة الأفلام عبر عين فلسفية في كتابه “النحت في الزمن”: أننا لا يجب أن نكون من ضمن الذين يذهبون إلى السينما لمدة ساعتين ليشاهدوا عرضًا لمجموعة ظلال على ستار، ويبحثون عن الترفيه، فهناك الكثير من المُنظمات حول العالم تستغل السينما والتلفزيون وأشياء أخرى كمخدر، لهذا يجب أن نكون نحن ضمن أساسيات السينما المهمة، والتي تُعنى بحاجة الإنسان لتطويع ومعرفة العالم."
ولهذا يجب أن نبني علاقة معرفية مع أي فيلم نشاهده. وأنوه أن الحقل المعرفي المسمى بـ "فلسفة السينما" يعاني من نقص في الترجمة والكتابة في العالم العربي. "حيث يعد التحليل والنقد والدراسة الفلسفية الفنية من مظاهر الترف في الفكر العربي، على عكس الكثير من الفلاسفة الغربيين مثل أدورنو ودولوز وآلان باديو وجيجاك وآخرين اهتموا بمجال السينما وحللوا الأفلام وعملوا على تفكيك المشاهد والأفكار المطروحة في العديد من الأفلام.
لكن لماذا هذه المقدمة عن فلسفة السينما وعن فيلم Mile 22 ؟ - الإجابة تتلخص في أن أحداث الفيلم تقدم لنا رؤية حول حزمة من المفاهيم الفلسفية مثل "دموية للنظام الكوني الجديد، قدسية الحياة الآدمية، إشكالية السيادة في الدولة الحديثة، الإستثناء" ونجد صياغة وشرح هذه المفاهيم عند جورجيو أجامبين أحد أهم فلاسفة إيطاليا المعاصرين خصوصًا في كتابه «المنبوذ: السلطة السيادية والحياة العارية» كمحاولة منه لرسم التحولات في “السياسة الغربية”.[1]
دموية النظام القانوني
تشهد بداية الفيلم مقتل شاب صغير "روسي" لم يتجاوز العشرين عامًا بأمر مباشر من قائد وحدة أمريكية تقوم بعملية مخابراتية. يتردد الجندي ويطلب تأكيداً لتنفيذ القتل في العلن وبالفعل يحصل على الموافقة بالضغط على الزناد.
يضعنا هذا المشهد أمام سؤال عن مدى جدية القيم الأمريكية التي يقدمها اليمين الليبرالي ويدافع عنها، والتي لا تصمد أمام أي إختبار ويتم تجاوزها والتلاعب بها بشكل قانوني. فظلال أحداث 11 سبتمبر 2001 تخيم على الفيلم، والجميع يعمل لكي لا تتكرر.
ويظهر هذا بوضوح في أحد مشاهد الفيلم على لسان أحد مسؤولي السفارة الأمريكية في إحدى الدول الآسيوية مُعنفًا رجاله أنه لن يسمح بتكرار أي خطأ يؤدي لأحداث سبتمبر. ويعطي لرجاله أذناً بالتجاوز أو كما يطلق هو على الأمر "تحسين شروط عملهم"، وذلك بضرب أحد المحتجزين – طالبي اللجوء "غير الأمريكيين" ولكن بشرط "السرية".)
وهنا تظهر فكرة فلسفية طرحها جورجيو أجامبين تحت أسم "الإنسان المُستباح[2]" وهو النموذج الذي تتم من خلاله الممارسة السياسية المعاصرة بوصفها تقليد سياسي تعود جذوره إلى اليونان القديمة والتي أدت إلى معسكرات الاعتقال النازية المعاصرة. حيث يتم استبعاد/تعذيب/قتل البشر عبر حرمانهم أولًا من أي حق قانوني.
عند أجامبين، السلطة السياسية "الغربية تحديدًا " تؤسس نفسها من خلال إنتاج نظام سياسي يقوم على استعباد الحياة البشرية العارية "الحالة الأولى للإنسان عند روسو"، ويتحقق هذا من خلال فرض حالة "الاستثناء" الذي يتم فيه توقف العمل بالقانون، وتجريد الإنسان من الحماية القانونية وتحويله بالنسبة للسلطة السيادية إلى فرد دون أي حقوق.
وكمثال لتبسيط الفكرة بعيدًا عن حيز الفيلم والكتاب وربطها بالواقع، نجد أن أمريكا لم تتعامل مثلًا مع أنور العولقي وأبنه وتم اغتيالهما عبر هجمات بواسطة طائرات بدون طيار بعد تجريدهما من كل حقوقهما كأمواطنين أمريكيين وهذا مخالف للدستور الأمريكي، وقد كتب الصحفي الأمريكي جيريمي سكاهيل في كتابه الحروب القذرة، بإسهاب عن هذا، بالإضافة لعمليات قتل أخرى خارج القانون في دول مثل الصومال وأفغانستان واليمن.
وهذا ما يتكرر في تاريخ مواقف الدول الغربية في التعامل مع قضايا مثل التعذيب في غوانتانامو وفي أبوغريب بالعراق، حيث لجأ الأمريكيون إلى إعادة تعريف التعذيب بحيث يتضمن أقسى درجات الأذى الجسماني والنفسي، مثل الألم القاسي الذي يرتبط عادة بالموت، وفشل الأعضاء والتلف الشديد للوظائف الجسمانية أو المعاناة النفسية الشديدة التي تنتج أذى نفسياً مزمنا. وقد سمح هذا التعريف للتعذيب بالكثير من الممارسات والأفعال المؤلمة والمهينة وغير الإنسانية.
ومن هنا يظهر المجتمع الغربي السياسي – القانوي في شكله الجديد. عبر ما يسمى "الاستثناء السيادي" حيث يتوقف القانون، ويتحول الاستثناء ذاته إلى قانون – وهذا يعني أن النظام الغربي صار يعلق صلاحياته، ويحافظ على نفسه من حيث علاقته بالاستثناء، ومن خلال إقصاء الآخر. لهذا يقول أغامبين بإقتضاب: هكذا كونت الدولة الغربية الحديثة نفسها.
سياج وهمج
نعود للفيلم حيث الإشارة لملف اللاجئين إلى الغرب، حيث يتوقف قانون الحريات والمدنية، ليبدأ نقاش يتم فيه ستثناء حقوق الإنسان من أجل المصلحة.
في الفيلم تنتقل الوحدة المخابراتية الأمريكية للعمل في السفارة الأمريكية بإحدى الدول الآسيوية، وتظهر السفارة الأمريكية في هذا البلد الآسيوي الذي تعمه الفوضى كدولة مُحصنة داخل الدولة. ولا يكاد يخلو مشهد عن السفارة من السياج الحديدي وصفوف من طالبي اللجوء الهمج والمشتبكين مع الحرس المدجج بالسلاح وبالزي الرسمي العسكري الأمريكي.
وهذا المشهد مطابق لفكرة أساسية لأجامبين عن السياسة التي لم تعد تتمثل في المدينة والمؤسسات البيروقراطية، بل تتجلى في نموذج يشبه معسكرات الإبادة، التي أصبحت سمة العصر الحديث.
فيمكن أن نتعانل مع السفارة الأمريكية في فيلم Mile22 كحيز مكاني يظهر فيه الفرق بين ما هو داخل السياسة وبين ما هو خارجها، بين التحضر وبين التوحش من المنظور الغربي الحديث المتمثل في ثلاثية الدولة والشعب والأرض، والذي أضاف له أجامبين عنصرًا رابعًا هو المعسكر. وأعاد أغامبين بناء فكرة أن اللغة هي التي تميز الإنسان عن الحيوان والتي يتواصل بها مع من حوله، إلى أن الفرق بين الإنسان وبين الحيوان هو في السياج الذي يفصل الناس به بعضهم عن بعض.
يظهر في الفيلم نوعان من طالبي اللجوء، أحدهم متعاون مع رجال المخابرات والآخر فاسد، يسرق من ثروات بلاده الآسيوية ويريد الهرب، والآخر كان هنا سيدة جاهلة، لا يمكنها التحدث جيدًا ولا تعرف شيئاً والضابط المخابراتي الأمريكي يعرف كل شئ ويصحح لها كل معرفتها" وهذا المشهد يعيدنا لفكرة ساذجة باقية من "كانط"[3] -أي من قبل أجامبين- وهي أن الذات الغربية هي الذات العارفة وعلى الآخر، المستعمَر "أفريقي – أسيوي ..إلخ" عليه أن يجلس ليستمع ويتعلم من الغربي.
لكن فكرة أجامبين تعالج "اللجوء" كحياة عارية، و"اللاجئ" كشخص "[4] homo sacer" أي "إنسان مُستباح أو حرام – بترجمة دكتور ناصر إسماعيل" وهو مصطلح قانوني يعود تاريخه إلي العصور الرومانية السحيقة السابقة علي ظهور روما نفسها وكان يستخدم للإشارة إلي ذلك الشخص الذي يتم استبعاده من المدينة ونفيه منها والسماح بقتله دون أن يحاسب قاتله. ويتشابه مع مصطلح " الخَلِيعُ" في الجاهلية حيث يطلق علي الشخص الذي تخلعه قبيلته وترفع عنه حمايتها وبذلك يمكن قتله دون عقاب، وهو بذلك يبدو مشابها للهومو ساكر في القانون الروماني القديم.
في أحد مشاهد الفيلم "يظهر طالب للجوء، ومتعاون مع رجال المخابرات الأمريكية، وهو يخضع لكشف طبي كامل لتأكد من خلوه من أي أمراض أو فيروسات." وقد أخذ أجامبين موقفاً شخصياً من هذا الفعل في الواقع وأمتنع عن دخول الولايات المتحدة منذ أن أقرت فكرة الكشف البيولوجي على القادمين للأراضي الأمريكية.
فأن تدخل السياسة في البعد الحيوي[5] "الإنساني" يضع كلا من الديموقراطية والشمولية في سلة واحدة بنظر أغامبين. حيث لا تدمج الديموقراطية الحديثة الحياة الحيوية في المجال السياسي كما يشير ميشيل فوكو في كتابه تاريخ الجنسانية بل إنها تملك القدرة على أن تسمح للسلطة السياسية أن تنتهك المجال الحيوي للإنسان بشكل غير مسبوق.
إنتهاك السيادة
في أحد مشاهد الفيلم يدور حوار داخل مبنى السفارة الأمريكية بين ضابط المخابرات الامريكية "بطل الفيلم" وأحد مسؤولي الدولة الآسيوية الذي يطالب بتسليم أحد طالبي اللجوء داخل السفارة، وفي خلفية المشهد صوت لطائرات مروحية. يتساءل الضابط الأمريكي: هل يجرؤ المسؤول الأسيوي على أن يجعل طائرات تحلق في أجواء أمريكية، ويسارع المسؤول الأسيوي بالنفي."
يفتح هذا المشهد باب التساؤل حول مفهوم السيادة أو، بمعنى أصح، السيادة المنتهكة. فالعلاقات السياسية في عصرنا الحالي، وفقاً لأجامبين، تقوم على فكرة أصلية هي الحظر. وقد بنى أجامبين مفهومه عن السياسة الحالية في ما يتعلق بالسيادة مستندًا إلى أعمال كارل شميت الذي يشير في كتابه «الثيولوجيا السياسية» إلى أن سيادة الدولة وجوهرها إن أردنا أن نعرفها تعريفًا قانونيًا دقيقًا هي إنها ليست احتكار القهر أو الحكم، بل احتكار قرار الحظر[6]. وهذا عكس ما تروج له الأنظمة الليبرالية "الأمريكية والأوروبية" حيث تحاول أن ترسم صورة تبين أنها تمارس السيادة داخل منظومة القوانين الدولية والقواعد الأخلاقية نافية بشدة أنها تتعداها، ولكن الواقع يثبت صحة نظرية شميت وبناء أجامبين عليها.
لهذا لا يمكن أن تتوهم الدول الأسيوية أو الأفريقية بأن نهاية الإستعمار قد أعطت لها السيادة، بل أعاد الغرب رسم فكر جديد لانتهاك هذه السيادة عبر منظومة "إستثنائية" قانونية، تتحايل على الشعوب، وتستخدم عند الحاجة. لتقف دول العالم الجنوبي مسلوبة الإرادة أمام تدخلات دول الغرب.
ليست النهاية
في نهاية الفيلم الملئ بالإشارات الفلسفية السياسية -سواء كانت مقصودة أو لا-، ينتهي الظابط من اعترافاته الغاضبة لفشل عملية "Mile22" ويسقط غضبه على الساسة ومشاكلهم التي يلقون بها على العسكريين، لكنه يأكد أن العملية لم تنته.
لكن لا يجب أن ندع فلسفة أجامبين تنتهي. هذه الفلسفة التي جمعت بين “السياسي” و“القانوني” و“الحيواني”، في محاولة راديكالية من أجامبين لتعرية سياسات الغرب، وفهم أصل النظام السياسي الحديث وحقيقته، وإعادة التساؤل والنظر في الكثير من المسلمات التي بُنيت عليها العلوم السياسية ونظرياتها في ظل غياب المقاومة الفعالة لحالة "الاستثناء" التي يقر من خلالها صاحب السيادة/السلطة توقيف القانون وتفريغه من معناه.
وهذا للأسف هو ما نراه من أغلب دول العالم التي تتخلى عن القوانين والمبادئ الأخلاقية وتتماهى مع التجربة الأمريكية في الحرب على الإرهاب، خصوصًا فيما يتعلق بمسألة قدسية الحياة الآدمية، والسلطة السيادية في عالم ما بعد الإستعمار.
هوامش
[1] الإنسان الحرام، جورجيو أجامبين، صفحة 12
[2] الإنسان الحرام، جورجيو أجامبين، صفحة 39
[3] هل يستطيع غير الأوروبي التفكير؟ حميد دباشي صفحة 29
[4] الإنسان الحرام، صفحة 25
[5] الإنسان الحرام، جورجيو أجامبين، صفحة 45
[6] اللاهوت السياسي، كارل شميت