كانت تلك هي المرة الأولى التي أرى فيها هذا الكم الهائل من قوات الجيش والشرطة تنتشر في أغلب أحياء بلدة الطيبة التي كبرت بها، والتي تقع حوالي اربعين كيلومتراً شمال يافا. لا أدري كم عاماً كان قد تركني في حينه، ربما ثمانية أو تسعة. واعتقدت، وكان الصباح في آخره، بأن الحرب قد قامت. فسألت أمي عما إذا كان الجنود ينتشرون في البلدة لأن حرب ال 67 قد عادت من جديد، تلك الحرب التي كان أبي يحدثني عنها كثيراً لأنه يعيها ويعرف تفاصيلها التي حفرت في ذاكرته أكثر من تفاصيل النكبة التي ولد قبلها بأعوام ثلاثة. ضحكت أمي وقالت إنهم مجرد جنود سيغادرون عند الصباح التالي ويتركوننا في حالنا إلى أن يأتي العام القادم.
أعوام قليلة تلت ذلك العام، وكنت فيها من بين الطلاب الذين خرجوا للتظاهر في يوم الأرض. ولم يعد إسمه طلسماً على لسان يختلط مع يوم ” عيد غرس الأشجار“ والذي كان يوم عطلة رسمية على ما أذكر. وكان ذلك ربما في عام 87 أو 88، في تلك السنة شممت لأول مرة عن كثب رائحة الغاز المسيل للدموع، وسقط قلبي، ليس خوفاً من الجيش، فقد بدا لي في حينه بعيداً وضبابي كدخان المسيل للدموع الذي كنا نحاربه بشم قطعة من البصل حيث شاع أن ذلك يساعد على مقاومة تأثيره، بل كان خوفي لأننا، أنا وأخي، خرجنا من البيت بحجة زيارتنا لبيت عمي ولم نخبر والدينا بنيتنا بالخروج للتظاهر لأنهما لن يوافقا. وخفت أن اقع أرضا عند الكر والفر من الجيش أو أن يمسكنا وينفضح أمرنا. كان والدي قد فرض علينا منعاً باتاً لا نقاش فيه بعدم الخروج للمظاهرات. ليس فقط بسبب الخوف من الإصابة أو السجن بل أيضاً لأن من يُضبط متلبساً بعمل سياسي مثل الاشتراك في التظاهرات يمنع من الدخول إلى الجامعات في البلاد. ولم يكن يهم مدى دقة هذه المعلومات في تسعينيات القرن المنفرط، فالأهم إنها كانت البعبع الذي يخيف الكثير من الأهالي. فالتخويف تذكرة الدخول إلى لعبة السيطرة على أي فرد أو شعب.
أصبحت ملامح يوم الأرض واضحة وكانت المسيرات تخرج في قرى ومدن المثلث والجليل والساحل لتحيي ذكراه. بالإضافة إلى المناطق الباقية من فلسطين وخارج حدودها. لكن خصوصيات يوم الأرض تكمن في كون تلك المظاهرات إنطلقت لأول مرة بهذه الكثافة بعد النكبة من الداخل الفلسطيني، أي عام 76 بعد مرور 28 عاماً على النكبة.
” لا تشريد ولا تهويد... عن أراضينا ما بنحيد.“ كان أحد الشعارات التي كنا نهتف بها. ويعود إلى أول يوم أرض عام 76 حينما أطلقت السلطات الإسرائيلة خطة ما يسمى بتهويد الجليل ( وثيقة سرية معروفة تحت إسم وثيقة كينغ وأعدها يسرائيل كينغ متصرف لواء المنطقة الشمالية في إسرائيل.) كانت هذه الخطة تهدف إلى مصادرت آلاف الدونمات وخاصة في مناطق سخنين وعرابة ودير حنا في الجليل إضافة إلى إحتوائها على توصيات أخرى لتقويض شوكة الفلسطينيين بالداخل. أعلن الإضراب العام وخرجت المسيرات بالآلاف وكان الرد من قبل القوات الإسرائيلية حاسماً. دخلت الدبابات وقوات الجيش والشرطة إلى حيث لا تدخل بالعادة. هناك حيث قرانا ومدننا في الداخل عبارة عن غيتوهات.
سقط ستة قتلى برصاص قوات الشرطة والجيش ومعهم عشرات الجرحى. كتبت الكثير من المقالات التي تشرح البعد السياسي والوطني والإجتماعي لهذه الإنطلاقة لكن الأهم ربما هو كسر حاجز الخوف. وإنتشار هذا اليوم ليكون إنطلاقة في باقي فلسطين وللفلسطينيين عامة. كما أن إنطلاق هذا اليوم كان بمثابة حصن أمام محاولة الرهان على اسرئلة الفلسطينيين في الداخل، رهان ما زال قائماً ومحاولاته لا تتوقف.
يحضرني اليوم وأنا أعيش في برلين ذلك اليوم وأراني في شوارع مدينتا المليئة بالحفر وفي الطرقات التي سئمناها وكانت تحملنا نحن وهمومنا، وتعلمنا أن نحب حفرها ونحملها معنا وهي تتسع أكثر فأكثر كل يوم. تحضرني كذلك الهتافات التي كنا نرددها كأبيات أبي القاسم الشابي ”إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر“. ولا أنكر أنني عندما رأيت الشعب التونسي يهتف بها عادت بي الذاكرة إلى ذلك اليوم. الكثير من المحاولات التي حصدتها السنين، كانت وما زالت تحاول”تمييع“ هذا اليوم. محاولات تريد أن تضفي عليه صبغة إحتفالية بتحويله إلي يوم ”إحتفالي“. كي نخرج في ”بيكنيك“ ونغني ونرقص، ويستحضرني هنا خطاب لتوفيق زياد الذي قال بعد سنوات على إنطلاق يوم الأرض في أحد خطابته ”إنهم يريدوننا أن نحتفل بنكبتنا فهل يعقل هذا؟“
وتوفيق زياد (1929-1994) الذي إرتبط إسمه بالكثير من الأشعار التي نحفظها ونعرفها كما نعرف تفاصيل الطرقات وأزقة بلادنا التي نزج فيها ونلاحق كما تلاحق الفئران والذي ناضل من أجل حقوقنا هو الذي قال مقولته الشهيرة عن يوم الأرض:” الشعب قرر الإضراب وهذا ما سيكون.“ وهو الذي قال أيضاً ” لا ندعي بأننا افضل شعوب العالم، لكن ما من شعب على هذه الأرض أفضل من شعبنا العربي الفلسطيني، ولو خيّر لنا أن نولد من جديد لما اخترنا إلا ان نولد فلسطينيين، في جليل ومثلث ونقب وساحل، هذا الوطن الجميــــــــل.“
ف ”باقون“ يا زياد ونولد من جديد.