تعود تماثيل الآلهة الأثرية لمملكة تل حلف السورية مرة أخرى إلى الحياة في متحف بيرغامون للحفريات التاريخية بعدما كانت قد تعرضت للقصف في برلين عام 1943 وتحطمت إلى 27 الف قطعة. سجل معرض «الآلهة الناجية من قصر تل حلف» في الأسابيع الثلاثة الأولى منذ إفتتاحه في شهر كانون الثاني ( يناير) حضوراً مميزاً تجاوز خمسين ألف زائراً، بالإضافة إلى اهتمام إعلامي ألماني واسع. عند الدخول إلى الصالة الأولى في جناح المعرض يفاجأ الزائر بألواح خشبية تتناثر فوقها حجارة من مادة البازلت. والهدف هو التذكير بحال هذه المعروضات الأثرية السورية، بعدما ضربت طائرات الحلفاء المتحف عام 1943 بقنبلة فسفور أثناء غاراتها على برلين النازية خلال الحرب العالمية الثانية، فأحرقته وهدمته.
ليس «الإحتفال» بـ «الآلهة الناجية» بقدر ما هو بحياة وعوالم البارون الألماني ماكس فون أوبنهايم ( 1860- 1946) وبمعجزة إنقاذ وإعادة تأهيل قسم من هذه الآثارالتي كان قد تم العثور عليها في منطقة تل حلف، على الضفة الغربية لنهر الخابور، بالقرب من راس العين، شمال شرق سوريا، والتي يقدر عمرها بثلاثة آلاف سنة. إستمر التنقيب لسنوات عديدة (1911- 1913 و 1927- 1929) وتخللته فترات إنقطاع طويلة بسبب الحرب العالمية الأولى والصعوبات اللوجستية. تجاوز عدد أفراد فريق التنقيب الخمسمئة من أهل المنطقة وعوائلهم إضافة إلى علماء أثار غربيين وطبيب ومصور كان يصطحبه أوبنهايم معه في هذه الزيارات. بعد انتهاء عمليات استخراج الآثار بقي قسم من الآثار في متحف حلب. أما ألقسم الأكبر فقد استولى عليه أوبنهايم وشحنه إلى حلب على ثلاث عشرة عربة قطار ومن هناك إلى ألمانيا.
كان أوبنهايم يرغب في افتتاح معرض كنوز تل حلف في 15 أب (أغسطس) عام 1930، الذي صادف عيد ميلاده السبعين. وكان له ذلك، ولكن ليس في متحف بيرغامون التابع للدولة، لخلافات حول العوائد، بل في متحفه الخاص الذي أقامه في قاعة لمصنع سابق في منطقة شارلوتنبورغ.
وكرس جزء رئيسي من المعرض لسيرة أوبنهايم، وهو سليل عائلة مصرفية أرستقراطية. و كان قد درس القانون وتعلم اللغة العربية وشغف بالشرق الذي زاره أول مرة عام 1886 عندما حل في المغرب وتلته زيارات لمناطق أخرى كالعراق ومصر حيث عاش في القاهرة فترة وتعلم العربية قبل أن يعينه القيصر الألماني دبلوماسياً في مكتب القنصلية الألمانية فيها ( 1896)، لكنه ترك عمله الدبلوماسي بعد ذلك بأكثر من عشر سنوات ليكرس وقته للسفر والتنقيب عن الآثار. كما عمل أثناء الحرب العالمية الأولى وفي فترات تلتها كرئيس لمكتب استخبارات الشرق الألمانية في أسطنبول. لكن المعلومة الأخيرة تغيب عن المعرض الذي تبتعد تفاصيله عن ماهو إشكالي في عمل وسيرة الرجل وتركز على أوبنهايم الإنسان والباحث. هكذا تأخذنا الصور الفوتوغرافية المعلقة في بعض الصالات إلى رحلاته إلى العراق وفلسطين وسوريا وغيرها وما اقتناه وجمعه في رحلاته من الحلي والسجاد والأقمشة واللوحات وحتى الأرجيلة التي جلبها معه إلى برلين. بالإضافة إلى صور أخرى تظهر المتحف الأول لآثار تل حلف في برلين وانطباعات المشاهير الذين زاروه قبل أن يتم قصفه. ومن هؤلاء الملك فيصل الأول والكاتبة الإنجليزية اغاثا كريستي والكاتب الإيرلندي صاموئيل بيكيت.
يدخلنا المعرض بعد ذلك إلى تاريخ وحيثيات استخراج هذه الآثار للمرة الثانية قبل عشر سنوات. حيث كان أوبنهايم قد أوصى بجمع ما تبقى من أشلاء الآثار بعد القصف والتي وصلت إلى 27 ألف قطعة ووضعها في صناديق في قبو متحف البيرغامون. وكان عليها أن تنتظر أكثر من خمسين عاماً لكي يبدأ العمل الشاق من جديد على تأهيلها بتكليف من مؤسسة أوبنهايم وبتمويل من متحف البيرغامون. وتبين بعض الصور وشرائط الفيديو والنماذج المصفوفة على عشرات اللوائح الخشبية مراحل العمل المختلفة والشاقة من فرز وإعادة تركيب وترتيب.
وبعد ذلك نصل إلى ما عثر عليه من تل حلف فتطالعنا الآلهة في القاعة الرئيسية بتماثيلها الرابضة، بالإضافة إلى منحوتات وزخارف تمثل أنصاف آلهة وحيوانات وطائر العنقاء وغيرها مما له علاقة بمعتقدات هذه الحضارة التي تعود إلى الألف الخامس قبل الميلاد عندما بدأ الاستيطان فيها ثم ازدهرت كعاصمة لمملكة بيت بحياني الآرامية مطلع الألف الأول قبل الميلاد. وتظهر الآثار والقطع الفنية تميزاً أسلوبيا عن مثيلاتها في المناطق الأثرية في سوريا والعراق، ويعود ذلك، برأي الباحثين، لاختلاف الموروث الحضاري لهذه المملكة.
يأخذنا المعرض في رحلة مثيرة إلى الشرق وحقبة مهمة من تاريخه الحضاري عبر مجموعة فريدة من الآثار التي دفنت مرة أخرى بسبب الحرب العالمية الثانية. لكن تاريخ هذه الآثار وطريقة عرضها يعيدنا إلى إشكاليات الاستشراق والدور الذي يلعبه ماضي الشرق في المخيال الغربي. فيخرج الزائر، العربي بالذات، من المعرض بمشاعر مختلطة. فالخطاب الذي يؤطر المعرض والطريقة التي غطته فيها بعض الصحف الألمانية لا تتعرض للإشكاليات السياسية والأخلاقية التي تكتنف استيلاء مؤسسات أو أفراد على كنوز ثقافية، خصوصاً ونحن في القرن الحادي والعشرين.
عن جريدة الأخبار