أليس لها من دون اقتحام الداخلية كاشفة؟

[\"???? ?????? ???? \"????? ?????] [\"???? ?????? ???? \"????? ?????]

أليس لها من دون اقتحام الداخلية كاشفة؟

By : Amr Magdi عمرو مجدي

 

(1)

"بدأ كابوس الكنديين طارق اللوباني وجون جريسون عندما سألا عن الطريق في إحدى نقاط التفتيش التابعة للشرطة أثناء عودتهما إلى الفندق بعد محاولتهما مساعدة المصابين في مظاهرات رمسيس في أغسطس الماضي (...) وقال جريسون، إنه عقب وصوله إلى سجن طرة تعرض للضرب والركل حتى حُفرت إحدى الكدمات على ظهره، وكذلك صديقه اللوباني تعرض لذات المعاملة الوحشية (...) وأضاف، "أنهما كانا يتخذان الوضع الجنيني لحماية أنفسهما من الضرب، وأنه ظل يشعر بالألم لحوالى أسبوع"... 

... ينام الـ 38 سجيناً على الخرسانة وبينهم صنبور واحد فقط، وبحسب قول اللوباني كانت الرعاية الطبية يرثى لها، فقد وصل أحد المساجين وإحدى قدميه مصابة بكسر لم يتم علاجه لمدة ثلاثة أسابيع حتى تدهورت الحالة وتم بتر القدم". (تفاصيل باقي الكابوس في الشروق نقلاً عن الجارديان 12/10/2013

*******

"... بعد دقائق ازداد عدد رجال الأمن، وتم فتح باب الغرفة مرة ثانية، كرر الطبيب طلبه بإغلاق الباب حتى يُكمل عمله، فرد عليه الضابط "افرض إن العيان هرب"، أوضح الطبيب أن الغرفة ليس بها سوى شباك صغير مُغلق بالحديد (...) لم يهدأ الضابط الذي صرخ في وجه الطبيب "شوف شغلك وأنت ساكت"، وتطورت الأمور لمشادة كلامية، ثم دخل الضابط واعتدى على الطبيب بالضرب المُبرح، كما أكدت د. "منى مينا" أن هذا الاعتداء طال كل من حاول تهدئة الأمور من فريق المستشفى، حيث تم الاعتداء أيضاً على ممرضة وطبيبين آخرين، قام الضابط وقتها بوضع الحديد في يدي الطبيب "محمد مسلم" وسحله على بلاط المستشفى من غرفة الخياطة بالاستقبال حتى "بوكس" الشرطة أمام أبواب مستشفى المنيرة...". (من شهادة لجنة نقابة الأطباء التي جمعت شهادات واقعة اقتحام الشرطة لمستشفى المنيرة وسحل طبيبها في صحيفة الوطن 12/10/2013)

*******

"أدانت حملة «التحرش بالمتحرشين»، احتجاز الشرطة لعدد من أعضائها بنقطة شرطة سان ستيفانو على خلفية قيام الحملة بنشر أعضاء لها بمحيط أحد المولات التجارية لمنع حالات التحرش؛ التي ارتبطت بالأعياد. وأشارت الصفحة الرسمية للحملة إلى أنه تم احتجاز خمسة من أعضاء الحملة بنقطة الشرطة..."
(
صحيفة الشروق 16/10/2013

*******

"وصلت جثث 37 من أنصار الرئيس المعزول محمد مرسي، والذين قتلوا في سجن أبو زعبل، اختناقاً بالغاز، وفق ما أفادت التقارير الطبية الصادرة من مشرحة زينهم، والتي أوضحت أن القتلى أصيبوا بحالة اختناق شديدة تسببت في وفاتهم، وتبين من مناظرة الجثث وجود اسوداد بالوجه والجسم نتيجة الاختناق". (المصري اليوم 19/8/2013).

"... بدأت رحلة الموت بحشر 45 سجينا فى سيارة ترحيلات لا تسع أكثر من 24 فردا، وصلت إلى السجن العسكرى بأبو زعبل فى الساعة السابعة إلا الربع، ثم تركوا السيارة مغلقة عليهم لمدة عشر ساعات فى فناء السجن، وحسب رواية بعض الناجين (8) أن السجناء وهم مكبلون بالقيود، بدأوا يتساقطون إما مغشياً عليهم أو صرعى بعد ساعة واحدة من توقف السيارة فى فناء السجن، وجاء الختام المروع لهذه المأساة بهجوم شنه ضباط المأمورية ومجنديها بالغاز على السيارة دون سبب معروف حتى الآن حيث تم الإجهاز باختناق الغاز على من لم يمت باختناق الزحام وانعدام التهوية". (رسالة والد المرحوم شريف صيام إلى عمرو الشوبكي فيالمصري اليوم 1/10/2013).

"وحدثت الكارثة عندما اقترح أحد الضباط أن تطلق قنبلة غاز داخل السيارة للسيطرة، ولم يفكر لحظة في أن الأمر يمكن أن يؤدى إلى مصرعهم لضيق السيارة والزحام بها وقلة التهوية." (من تحقيق بصحيفة الوطن نقلته المبادرة المصرية للحقوق الشخصية مع شهادات أخرى لعدد من الأهالي 23/8/2013).

*******

(2)

عزيزي القارئ، تلك الأسطر السابقة هي "كوكتيل" من جرائد ومواقع مصرية مختلفة لأحداث قتل وعنف تورطت فيها الداخلية خلال أقل من شهرين من الزمان، كان يمكن لواحدة منها فقط أيام مبارك أو مرسي أن تقيم الدنيا ولا تقعدها، وأن تصبح مادة رئيسية للصحافة وبرامج التوك شو لعدة أيام دون أن تنضب. 

هذه الوقائع مجرد عينّة... غيض من فيض، لم أجد أي عناء في جمعها، فأثناء تصفحك اليومي للأخبار يمكن أن تقع عينك بين الفينة والأخرى على خبر من تلك النوعية، تحاول الصُحف إخفاءه على استحياء في ركنٍ قصي، تستحث ألاعيب "اللاوعي" الكثيرة كي تتجنب عناء التفكير فيها، فلدينا الآن – وياللسخرية – حكومة "ثورة". لكن أبداً... الأحرف المكتوبة بالأسود تظل هناك... تملأ الشاشة وتنزاح لترى خلفها أماً تبكي وبيتاً استحال كئيباً.. وابناً تيتم.. ومُهندساً لن يذهب لشركته في الصباح، و"ديسكاً" في الجامعة لن يخط عليه صاحبه أي كلمة بعد اليوم، ووطناً يسير حثيثاً لمصير "القرى الظالمة".

*******

(3)

ربما لاحظتَ، عزيزي القارئ، أن العيّنة التي انتقيتها خلت من أخبار قتل المتظاهرين، نحن لا نتحدث هنا عن مظاهرة خرجت فأردت الداخلية بعضاً من المتظاهرين قتلى، فتلك العينة من الأخبار يبدو وكأنها استحالت "مسألة" عادية، ومادام المقتول من مؤيدي مرسي، فلم لا؟ انسَ إذن مسألة قتل المتظاهرين، حتى لو تحدثت المنظمات الحقوقية والشهادات الصحفية عن استخدام الداخلية للذخيرة الحية والعنف المفرط كما حدث يوم 6 أكتوبر وفاضت أرواح 51 مصرياً لبارئها، انساها تماماً، كما نسينا مذبحة رابعة، وحدثني عن أي مبرر أو سبب يستدعي إغفال تلك العينة السابقة من البشاعة والظلم؟

تنوّع الأنباء وتواليها فيه ردٌّ كامنٌ على من يحاول أن يعزلها فرادى، فهي تنضح بالمنهج، وتفصح عن عقلية مؤسسة كاملة، لا عقلية أفراد موتورين أو متوترين. فإن تفاديت قراءة خبر في بشاعة وهول ما حصل من تعذيب للطالب المرحوم "عمر خليفة" المعتقل في معسكر السلام على خلفية تظاهره في يوم 6 أكتوبر مع أنصار المعزول، ثم ادعت الداخلية أنه مات غرقاً، فربما لن تتفادى - ومن أجل التنويع والترفيه على الأقل - خبر اعتقال أمن الدولة لسيدة وابنتها (12 عاماً - يعني طفلة) بتهمة حيازة صورة الرئيس المعزول مرسي في منزلهم. وربما تنتهي مثلاً عند خبر اعتقال بعض النشطاء الذين أحيوا وقفة التضامن مع خالد سعيد في أثناء نظر قضيته بالإسكندرية، لكي تتأكد أن حكماً نهائياً بنهاية الظلم الميري في هذا البلد لم يصدر حتى بعد عامين ونصف على قيامها في العيد الميري 25 يناير، وثلاثة أعوام على ارتقاء روحه.

الأحرف المكتوبة بالأسود، خرجت من المطبعة واضحة تتكلم بالحقيقة، يمكن أن تغيّر حجم الخط حسبما يرغب رئيس التحرير، وبإمكانك أيضا أن "تكبّر" أو "تصغّر" أثرها على ضميرك بأسئلة لا تختلف كثيراً عن نوعية الأسئلة المُؤمنة: "إيه اللي ودّاها هناك؟" لكن رغم حجم الخط أو حجم الضمير، تظل البشاعة كامنة في حجمها الطبيعي، تخبر عن الحاضر، وتنبئ بالمستقبل.

********

"قالت امرأةٌ في المَدينة

مَنْ ذلكَ الأمَوي الذي يتباكى على دمِ عُثمان!

مَنْ قالَ إنّ الخِيانة تنجبُ غيرَ الخيانة؟"

********
(4) 

الأعيب النفسية التي يمارسها عقل الإنسان الباطن تهدف إلى نزع فتيل الأزمات وإخمادها، فرؤية الظلم تؤلم الضمير الحيّ، وتستتبع عدداً من الأسئلة عن كيف؟ ولماذا؟ وإن كان الواقع كذلك، فما الحيلة؟ الـ "خِفة" التي يمنحها الإنكار والتجاهل والتبرير قد تليق بالتشبث بها ملاذاً للتحليق بعيداً عن الواقع الثقيل، والشعور بالـ"ثِقل" الذي يتبع الرؤية والمُعاينة والتدبر، شعور لا يستهان بألمِه.

إحدى تلك الألاعيب تتمثل في الصراخ المتناثر: ألا ترى قتلى الشرطة والجيش، من ضحايا العمليات الإرهابية في سيناء وغيرها؟ ثم يكاد يختم كما جنرالات هتلر: شايسِه.. شايسِه.. شايسِه! وهو صراخ يدل على أن أصحابه لازالوا في حيز الألاعيب العقلية، فوجود الوحوش لا يبرر تحولك إلى وحش، ووجود عصابات مجرمة لا يبرر تحول الدولة إلى ميليشيا مسلحة، تنتهج أساليب وحشية وغير قانونية، وبإمكان كلّ منا أن يقول للظالم لا، "كلٌّ على قدِّه"، لم يطلب أحد من الجميع أن ينزلوا الشوارع ليستغل وجودهم الإخوان ويقفزوا على أكتافهم في معركة تدور - حتى الآن - بين باطلين، أو أن يتحولوا إلى الرجل الوطواط منقذ البشرية من الظلم والدمار، لكن استمرار التجاهل والتبرير يُعجّل بالهاوية التي تجرنا إليها الداخلية جراً.

الحديث عن إرهاب بعض العصابات يملأ الصحف ويحتل العناوين الرئيسية، وإذا رغبنا في التفكير النقدي فعليك، على الأقل، أن تسمع شيئاً مختلفاً من حين لآخر، لأن الخفة التي تظن أنها ستحلق بك بعيداً لن تستمر طويلاً، ولن تنجيك من الطوفان حين يأتي أوان الأمم الظالمة.. أمّا ثِقل وعناء الأسئلة المؤلمة، فهي تنقلك بعد حينٍ من الألم إلى حيز الثقة وسلامة الضمير، وهي الضمانة الوحيدة للنجاة من الهاوية.

(5)

الهاوية.. أن تأتي لحظة يُسائل الناس فيها أنفسهم: "أليس لها من دون اقتحام الداخلية كاشفة؟" يبدو هذا السؤال في هذه اللحظة خيالاً، لكن المسألة "بهذا الأداء" ليست سوى مسألة وقت، ولا تحتاج إلى عرّافين للتنبؤ. فالثورة التي قامت في عيد الشرطة وكان من رؤوس أهدافها إصلاح هذا الجهاز، فشلت وعجزت حتى الآن عن إصلاحه، بل استمر في ظلمه وأدائه الوحشي بدرجات متفاوتة، بعد أن أحاط ساكنوه أنفسهم، رُعباً، بالأسوار في شوارع وسط البلد خشية من مستقبل توالت نبوءاته.

سيستمر الظلم ويتسع ليشمل طبقات متفاوتة سياسية واجتماعية، تظن الداخلية أنها عادت سيدة للشعب لا خادمة للقانون، وستتسع دوائر الغضب والإحباط. وإذ تغيب وتموت أي آمال لتحقيق "العدالة الانتقالية" في مصر، فإن آمالاً أخرى ستملأ فراغ الإحباط قد يكون من بينها "العدالة الانتقامية". وحين تستنفذ الأشهر والسنون وتزهق الأرواح وتتراكم المظالم، ويتجذّر الشعور بالعجز عن الإصلاح، فإن الرغبة في عدالة مؤسساتية تنصهر، بفعل القمع، وتتوجه إلى وسائل صرف عشوائية، قد تتكثف في لحظة ثورية أخرى تشبه لحظات "محمد محمود" لكن تفوقها حجماً وعدداً... وفداحة.

*******

وبعد... 

إذا كان مبدأ "المحاسبة على ما مضى" هو ما يخيف البعض في الداخلية، فلماذا لا تقوم "وزارة العدالة الانتقالية" بمهمتها في إيجاد تسوية عبر حوار مجتمعي، يقوم أولاً على ثلاثة مبادئ: الاعتراف، الاعتذار، التعويض، مع ترك مسألة المحاسبة خاضعة للنقاش المجتمعي المطّول؟ هناك تجارب عديدة ناجحة، أُعليتْ فيها ثلاثية الاعتراف والاعتذار والتعويض على مبدأ المحاسبة الذي لا يخلو من طوباوية. (وهي مُقاربة لا يتسع السياق لتفصيلها، لكن تجد سنداً لها في الفلسفات النقدية الحديثة للعقوبات الجنائية، كما تجد سنداً لدى الأصوليين في قراءتهم للنصوص: "إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم") لكن حتى ذلك المسار، وإن أخفقت القوى الثورية في طرحه جذرياً، يحتاج إلى عقليات مختلفة وإرادة سياسية لم تتوافر حتى الآن في حكومات متعاقبة كانت سكناً للعجز وعنواناً للضيم والبخس.

الطرُقُ إلى دولة العدل سويّة مستقيمة، قد تكون طويلة، وشاقة، لكنها واضحة.. بيد أنه حتى ذلك الاعتراف البسيط، والاعتذار اليتيم المنشود، صار حلماً داسته بيادات "كهنة" الداخلية طوال عامين ونصف من التكذيبات المتهافتة عن استخدامها للذخيرة، ونفيها لارتكاب أي جُرم. وهي تبدو مصممة – إذن - على الاستمرار كما خلقتها دولة يوليو 52 في أسوأ تقويم، ما يقول إننا نحث الخطى في طريق الفوضى، إذ من العسير التصور أن مجتمعاً في القرن الحادي والعشرين، وبعد حراكٍ ثوري كحراك يناير الأعظم لم يخمد طوال عامين ونصف، يمكن أن يعود إلى بيوته ضارباً كفاً بكف، مكتفياً بالتأفف. فالأغلب والمرجح أنه طالما استمر الظلم فسيأتي اليوم الذي تظن الجموع فيه إنه "ليس لها من دون اقتحام الداخلية كاشفة".. 

إن لم تخشوا ربّ السماء.. فخافوا ربّ الفوضى.

 

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • الانتصار على برافر الحل رومانسي

      الانتصار على برافر الحل رومانسي
      الانتصار على برافر... "الحل رومانسي"(1)فرحانين... فرحانين... فرحانين.. كل ثورة وإحنا دايما فرحانين...****ليس الانتصار على مخطط "برافر" الصهيوني، بإعلان الحكومة الإسرائيلية&nb
    • السيسي كواجهة لن تملأ شقوق السُلطة

      السيسي كواجهة لن تملأ شقوق السُلطة
      ما يطرحه هذا المقال، في ابتسار، هو أن الجيش لا يحكم مصر فعلياً، ولا يريد الحكم، وربما – ببعض التخرُّصِ – يمكن أن نقول إنه لا يستطيع الحكم. إنه يريد رتق فراغ السلطة بأسرع ما يمكن وحسب، ولو على حساب دف
    • الجنرال الفاشل والجماعة الفاشية... أو العكس

      الجنرال الفاشل والجماعة الفاشية... أو العكس
      مقدمة إعلانية:الداخلية تعلن مقتل فرنسي داخل مقر احتجازه بأحد أقسام الشرطةالتحقيق في مقتل 37 من نزلاء سجن أبو زعبلالقبض على 6 نشطاء نظموا وقفة أثناء نظر قضية خالد سعيد بالإسكندرية**** أتفق مع الج

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬