السودان: «السياسي» و«الاقتصادي» متداخلان

 [?????? \"?????? ??????\" ???????? ???? ???????????] [?????? \"?????? ??????\" ???????? ???? ???????????]

السودان: «السياسي» و«الاقتصادي» متداخلان

By : Alsir Said Ahmad السر سيد أحمد

  في العشرين من أيلول/سبتمبر الماضي، أكملت بعثة صندوق النقد الدولي زيارتها إلى السودان، وفي الرابع والعشرين منه أعلنت الخرطوم بدء تطبيق حزمة إجراءات اقتصادية أبرز ملامحها رفع الدعم عن المحروقات، وتعديل سعر الصرف الرسمي للدولار الجمركي. وفي الرابع من الشهر الجاري أعلن مجلس مديري الصندوق في تقييم له عن الوضع الأقتصادي أنه «يرحب» بالإجراءات التي اتخذها السودان. والغريب أنه رغم هذا الترحيب، إلا أن الإجراءات الاقتصادية الصارمة التي اتخذها السودان لم تأت في إطار اتفاق مع الصندوق كما هي العادة، وذلك لأن السودان يُعدُّ من أكبر المدينين للصندوق أصلاً، مما أدّى إلى وقف التعامل الإقراضي معه. وكل ما يحصل عليه في الوقت الحالي هو بعض العون الفني والزيارات المتتالية لوفود الصندوق، لتقييم الوضع الاقتصادي وتقديم بعض النصائح.

بانتظار إعفاء من الديون؟

تقدّر ديون السودان الخارجية هذا العام بنحو 45.6 مليار دولار، معظمها موروث منذ عهد الرئيس الأسبق جعفر النميري، والجزء الأكبر منها عبارة عن فوائد متراكمة. ومن النصائح التي قدّمها الصندوق أن يسعى السودان إلى طلب إعفاء هذه الديون حتى يمكنه ولوج سوق المال مقترضاً مرة أخرى، والحصول على القروض بفوائد مناسبة. لكن عقبات سياسية تقف أمام إعفاء الديون، تتمثل في علاقات الخرطوم المتوترة مع العواصم الغربية، وخاصة واشنطن. وهكذا تجد الحكومة السودانية نفسها عاجزة عن استثمار خطوة رفع الدعم والقيام بإجراءات اقتصادية قاسية تتردّد الكثير من الدول في القيام بها، كما أنها لا تستفيد من خطوتها هذه بسبب سيفي العقوبات والديون المسلطيَن عليها. وترى الحكومة السودانية أن الإجراءات الأخيرة قد تسهم في الدفع بقضية إعفاء الديون، خاصة أن الاتفاقيات المبرمة مع جنوب السودان تتضمّن بنداً ينص على قيام الدولتين بجهد مشترك يتوج بتحمل جنوب السودان لجزء من هذه الديون،
وذلك ابتداء من العام المقبل
إذا لم ينجح السودان في حل هذه المشكلة قبل ذلك.

ونتيجة للقرارات الجديدة، ارتفع سعر غالون الغازولين المستخدم بصورة رئيسية في وسائل النقل الكبيرة
والقطاع الزراعي، من ثمانية جنيهات سودانية (1.8 دولار أميركي) إلى 14 جنيهاً (3.18 دولارات)، وغالون البنزين، الذي يستعمله أصحاب المركبات الخاصة من 12 جنيهاً (2.70 دولار) إلى 21 جنيهاً (4.70 دولارات) وأسطوانة الغاز التي تستخدم في المطبخ من 14 جنيهاً (3.20 دولارات) إلى 25 جنيهاً (5.60 دولارات). واذا كانت هذه الرسوم هي التي استقطبت النظر والاهتمام فإن الإجراءات شملت جوانب أخرى مثل رفع سعر الدولار الجمركي، الذي تُحسب على أساسه الواردات بنسبة الثلث، وكذلك ضريبة القيمة المضافة 13 في المئة، ورسوم تنمية 13 في المئة، ورسوم إنتاج 10 في المئة وغيرها... يتوقع لهذه المعدلات أن تسهم في رفع متوسط الأسعار بنحو 50 في المئة بداية، في مرحلة الصدمة الأولى، ثم ترتفع فيما بعد بفعل الآثار التراكمية الى 60 في المئة على أقل تقدير.

تلخص رد الفعل الأولي في مظاهرات تلقائية بدأت في مدينة «مدني» وسط السودان وانتشرت إلى مناطق أخرى، وصحبتها أعمال تخريب قابلتها السلطات السودانية بعنف هائل أدى الى مقتل ما بين 60 و70 شخصاً وفق الإحصائيات الحكومية، وأكثر من 200 شخص وفق أرقام لمنظمات حقوقية محلية ودولية.

ليست المرة الأولى

ومع أن السودان قام بخطوات محدودة لرفع الدعم في منتصف العام الماضي، شملت أيضاً تقليصاً له في مجال المحروقات وخفضاً للإنفاق الحكومي، الا أن الأداء الاقتصادي خلال العام الماضي والنصف الأول من هذا العام ـ وهما يشكلان محكاً للبرنامج الاقتصادي لثلاث سنوات ـ لم يكن جيداً، الأمر الذي دفع الحكومة إلى القيام بإجراءات أكثر راديكالية هذه المرة. وهو ما يعني اعترافاً متأخراً من قبل الدولة بالآثار الضخمة للصدمة الاقتصادية التي أحدثها انفصال الجنوب قبل عامين. فالفارق بين السعر الرسمي للدولار وسعره في السوق الحرة ظل في حدود 20 في المئة، رغم الإجراءات التي اتُبعت وعمليات ضخ سيولة أجنبية في الصرّافات، كما أن العجز في الميزان الخارجي، الذي وصل الى 6 مليارات دولار، يعتبر الأكبر في تاريخ السودان، وهو ما تنبغي مواجهته وإلا أدى الى انهيار اقتصادي شامل.

أشارت الكثير من الدراسات والتوقعات الى الصدمة المتوقعة، لأن الانفصال سحب معه نحو 75 في المئة من الاحتياطيات النفطية التي كانت معروفة في السودان. وخلال العقد الماضي، شكلت الإيرادات النفطية أكثر من نصف إيرادات الدولة، إلا أن الحكومة عملت وقتها على التقليل من أهمية تبعات الانفصال السياسية والاقتصادية مشيرة، إلى أن عائداتها من التعدين في الذهب، حتى في مرحلته الأولى، قادرة على تغطية الجزء الأكبر من عائدات العملة الصعبة التي كان يوفرها النفط. وهو ما كان يمثل رسالة وجهداً للتقليل من تحميل نظام الإنقاذ تبعات انفصال الجنوب.

الشيء نفسه حدث في العام 2008 مع الأزمة الاقتصادية العالمية، التي قال النظام أنه لم يتأثر بها لقيامه بأسلمة نظامه المصرفي. لكن تلك التصريحات التي قُصد منها الكسب السياسي أوقعت مسؤولي المصرف المركزي في حرج، إذ تكثفت الضغوط عليهم للوفاء بالتزامات السودان، سواء فيما يتعلق بتسديد بعض مستحقات القروض أو التحويلات الخارجية... ما دامت البلاد لم تتأثر بالأزمة المالية العالمية!

هذه المرة، ركز الخط السياسي الرسمي الدافع باتجاه رفع الدعم على فكرة انه يساوي بين الأغنياء والفقراء. بل ذهب الرئيس عمر البشير إلى القول إن السفير الأميركي يشتري غالوناً البنزين لعربته بالسعر نفسه الذي يشتريه به أي مواطن عادي. ومع أنه لا توجد معلومات مؤكدة، الا أن هناك مؤشرات تقول إن 50 في المئة من حجم الدعم المقدم يذهب الى أغنى 20 في المئة من الأسر السودانية، بينما يذهب 24 في المئة من هذا الدعم الى أفقر 20 في المئة من الأسر. لكن، ووفقاً لتقديرات صندوق النقد الدولي، فإن دعم المحروقات مثَّل 15 في المئة من جملة الإنفاق الحكومي في العام الماضي، كما أن هذا الدعم أصبح حافزاً لتهريب بعض السلع، وخاصة المحروقات، الى دول الجوار مثل تشاد الى الغرب وأرتريا الى الشرق.

على ان اقتصاديين كثيرين يرون أن المشكلة الحقيقية تتمثل في ضعف العملة الوطنية (الجنيه) الناتج عن ضعف الإنتاجية والتصدير. ومع استمرار ضعف الجنيه وتدهور قيمته مقابل العملات الأخرى، ستظل الحكومة تطارد سراباً بهدف الوصول الى سعر مقنع وثابت في السوق، وهو ما يعكس في نهاية الأمر حقيقة ان أساس وجذر الأزمة الاقتصادية في السودان يعودان الى اعتماد سياسات غير متوازنة، والتركيز على الاستهلاك أكثر من الإنتاج والتصدير وتنويع مصادر النمو الاقتصادي. وكمثال على ذلك، فإن الدولة اعتمدت استراتيجية للنهضة الزراعية في الفترة بين العامين 2008-2011 بكلفة 4 مليارات دولار، وهي الفترة ذاتها التي ارتفعت فيها أسعار النفط بسبب الطلب القوي من الدول الآسيوية وعلى رأسها الصين. وفي الوقت الذي كانت عائدات البترول تقدر على أساس 50 دولاراً للبرميل، تجاوز العائد الفعلي هذا المعدل في بعض الأحيان، لكن لم يستخدم الفائض في الزراعة أو في أي مشاريع إنتاجية أخرى، بل أعيد تدويره للاستخدام السياسي والاستيرادي. وأبرز مثال على هذا أن القطاع الزراعي بشقيه المطري والمروي، الذي حقق معدل نمو سنوي في حدود 10 في المئة في فترة السنوات العشر التي سبقت تصدير النفط، تراجعت معدلات نموه في عقد الحقبة النفطية (حتى انفصال الجنوب العام 2011) الى 2 في المئة فقط في المتوسط السنوي.

عقد الطفرة النفطية

تقدر مختلف المصادر أنه خلال فترة الطفرة النفطية في السودان بين عامي 1999 وانفصال الجنوب في 2011 ، حصل السودان على مبلغ يقارب 60 مليار دولار لم تذهب كلها الى خزينة الدولة. بل أن جزءاً رئيسياً منها ذهب الى الشركات الأجنبية العاملة في الصناعة النفطية لمقابلة التكلفة التي تحملتها في إنتاج النفط وتحقيق بعض الأرباح. ولهذا يقدَّر أن ما عاد على السودان هو مبلغ يتراوح بين 30 الى 35 مليار دولار، كان نصيب الجنوب منه 12 ملياراً.

على ان الحقبة النفطية تأثرت أيضاً بما يجري على الجبهة السياسية، وعدم استقرارها، بدليل أنه في مختلف المراحل من الاستكشاف الى الإنتاج والتصدير، كانت الصناعة النفطية هدفاً عسكرياً لمجموعات سياسية مناوئة لنظام الحكم القائم. ومن هنا، كان سعي نظام الرئيس البشير الى ضمّ أكبر مجموعة من القوى السياسية الى ما يُدعى «حكومة القاعدة العريضة» وصلت الى 14 حزباً في الوقت الحالي، وذلك بهدف توفير ركيزة سياسية تمكِّنه من مواجهة خصومه الآخرين. وكان لهذا ثمنه أيضاً المدفوع من العائدات النفطية.

في تقييمه للأوضاع في ما تبقى من العام، لا يُخفي صندوق النقد الدولي تشاؤمه، إذ يصف الأجواء بأنها «غير إيجابية». فالنمو في القطاع غير النفطي يظل بطيئاً وفي حدود 2.3 في المئة، أي أقل من المستهدف وهو 3 في المئة، هذا مع استمرار تدهور قيمة الجنيه واحتمال انبعاث التضخم مجدداً بعد تراجعه الى 23 في المئة منتصف هذا العام من مستوى 44.4 في المئة بنهاية العام الماضي. وكل ذلك في الوقت الذي يتهيّأ فيه السودان الى الدخول في مرحلة صعبة سياسياً واقتصادياً خلال العامين المقبلين والاستعداد لانتخابات 2015 البرلمانية والرئاسية، التي أعلن البشير أنه لن يخوضها.

وبالرغم من الصورة الكالحة للوضع الاقتصادي، الا أن هناك بعض النقاط المضيئة مثل الاتفاق مع جنوب السودان على استمرار تدفق نفطه عبر خطوط الأنابيب في السودان، مما يوفر للأخير عائدات الى جانب توفير الإمكانيات، وتحسّن الأجواء السياسية بينهما لقيام جوبا بتسديد مبلغ ثلاثة مليارات دولار تم الاتفاق عليها بين البلدين في إطار الترتيبات المالية الانتقالية لدعم السودان. وإلى جانب هذا، تمَّ فتح المعابر التجارية بين البلدين، ويقدّر لها أن تعود على السودان بملياري دولار في المتوسط. بالإضافة الى أن السودان لا يزال يحظى ببعض الاحتياطيات النفطية التي يقدرها الكتاب الإحصائي السنوي لشركة بريتش بتروليوم بمليار ونصف المليار برميل، يسعى إلى استغلالها والاستفادة من خبرته وتوفر الكادر البشري في هذا المجال، إضافة الى النشاط المتوسع في مجال التنقيب عن الذهب، وفوق هذا تكثيف النشاط الزراعي وتوسيعه كماً وكيفاً.

فترة ما بعد عيد الأضحى ستمثل اختباراً لكل من الحكومة ومعارضي سياساتها، إذ ستتم إعادة فتح المدارس والجامعات، كما أن الأبعاد الكلية للإجراءات الاقتصادية وتأثيراتها ستتضح بصورة جلية. فالأمر يتوقف على قدرة النظام على مد يده بصورة جدية لبقية القوى السياسية، وبدء التعامل السياسي مع الأزمة الاقتصادية في إطار مشاركة فاعلة، بمقابل قدرة القوى المعارِضة على ترتيب تحالفات سياسية تضمّ حتى الإصلاحيين من «حزب المؤتمر الوطني» الحاكم، وتطرح بدائل مقنعة تجد في الوضع الاقتصادي الشعلة التي تنير طريقها لتغيير النظام.

[يعاد نشره ضمن اتفاقية شراكة وتعاون بين جدلية و”السفير العربي“.]

 

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • ذهب السودان بعد نفطه: لمن؟

      ذهب السودان بعد نفطه: لمن؟
      تتجه أنظار السودانيين الى فبراير/شباط المقبل لمعرفة امكانية تحقيق الوعود التي أطلقها وزير المعادن الشاب، أحمد الصادق الكاروري، ببدء الإنتاج الحكومي من الذهب بمشاركة روسية. ففي أواخر يوليو/تموز المنصر

تنظيم المخلّ بالنظام؟ الباعة المتجولون والدولة التنمويّة

 عندما أصدر الرئيس مرسي في العشرين من تشرين الثاني (من العام الماضي) مرسومه المثير للجدل والذي يقع خارج صلاحياته الدستورية، والذي قام لاحقاً بإلغائه جزئياً جرّاء ضغط شعبي هائل، وعد باستعمال صلاحياته التشريعية الإستثنائية الممنوحة له فقط في حدود مقلصة للغاية. وعندما قام فعلياً بممارسة هذه الصلاحيات، قام بذلك سريعاً من أجل سنّ قانون رقم 105/2012 وذلك في خضم ما بات يوصف –دون مغالاة- باللحظات الأكثر حسماً في تاريخ مصر الحديث. حتى المحلل السياسي الأكثر تمرّساً يمكن أن يغفر له إذا ما افترض من باب السذاجة أن هذا القانون يتعلق بالاستفتاء الوشيك على مسودّة الدستور التي أدت الى استقطاب حاد البلاد، أو أنه يتعلق بدور الجيش في الاقتصاد. إلا أن ما يثير الاهتمام هو أن قانون 105/2012 كان قد صُمم من أجل زيادة الإجراءات العقابية ضد الباعة المتجولين، فقد رُفعت العقوبة على الإخلال المنصوص في القانون رقم 33/1957، والتي كانت، حتى ذلك الوقت، تنظم عمل ما يقدر بخمسة ملايين بائع متجول في مصر؛ من شهر واحد إلى ثلاثة أشهر سجن والى خمسة آلاف جنيه غرامة بدلاً من ألف جنيه. لكن، هل كانت هذه على ما يبدو واحدة من إخفاقات مرسي اللانهائية في الأسابيع الأخيرة التي تعكس عدم تواصله بتاتاً مع الحقائق السياسية؟ أم أن هناك المزيد مما يمكن قراءته في مثل هذا القرار من حيث طبيعة علاقات الدولة والمجتمع، الاقتصاد والحيز العام في المرحلة الثورية الحالية؟

إن ثورة 25 يناير، والثمانية عشر يوماً الصاخبة في ميدان التحرير والمسيرات والاحتجاجات العملاقة والاعتصامات التي تلتها والتي اجتاحت البلاد منذ ذلك الوقت، قد أدت الى أكثر من مجرد إسقاط حسني مبارك. فهي تطرح تحديات لهؤلاء الذين خلفوه. الثقافة السياسية الجديدة التي نشأت في صحوة هذه الثورة، كانت قد أبرزت في المقام الأول، الحسّ الفردي والجماعي للمطالبة بالحرية. وعليه فقد قامت بتغيير ممارسات وإدراكات حول الحيز العام. فقد قام النظام التقليدي للحفاظ على الأمن في الحيز المديني المصري، معززاً بكل من قانون الطوارئ المشهور وحضور بوليسي مكثف في الشارع والجدران العالية المنتشرة حول المجمعات السكنية المسوّرة ومراكز التسوق، بإرهاب المواطنين لوقت طويل وحدّ من قدرتهم على استملاك الحيز العام. سواء كانوا نشطاء يدفعون للتعبئة ضد النظام أو كانوا عشاقاّ يبحثون عن لحظات حميمية سريعة، أو فقراء يأملون بلحظات من الراحة من شقائهم اليومي الطاحنّ؛ فقد مُنع المصريون جسدياً من الوصول إلى الحيز العام. الإحساس بالقوة الكامنة الذي تم الحصول عليه أثناء الخروج الى الشوارع على مدى العاميّن الماضيين لم يتمكن من إلغاء حكم السيطرة بالكامل ولكنه بالتأكيد أدى الى ما بات يسميه الكثيرون "إعادة الاستيلاء" على الحيز العام. لا يمكن بعد اليوم تقييدالملايين التي اختبرت الحرية عبر الخروج الى الشوارع للتظاهر، للتناقش وتبادل الأفكار مع رفاقهم من المواطنين الذين لم تتح لهم فرصة التلاقي علناً من قبل، من قبل النظام القمعي ذاته، على الأقل ليس بشكل تام.

إلا أن إكتشاف فرص وموارد جديدة عادة ما يؤدي إلى معارك على الملكية والاستحقاق. لذلك فالمقدرة على إستعادة الحيز العام سرعان ما خلقت نقاشات حادة حول أحقية الوصول لهذا الحيز، من يتوجب إقصاؤه وما هي قواعد التواصل التي يجب اعتمادها بين المواطنين من ذات الدولة. الفئات السياسية المتحاربة قدمت مثالاً لهذه المعركة الجديدة في حملاتها للمطالبة بنسب مواقع تجمّع معينة لها، وعلى رأسها ميدان التحرير الذي بات موقعاً أيقونياً. وكان رسم كاريكاتوري تم تناقله بشكل واسع على الفايسبوك بعد الصدامات بين القوى المعارضة والمؤيدة لمرسوم مرسي الرئاسي حول استعمال ميدان التحرير كبؤرة الزلزال لحملاتهم الشعبية لتعبئة الجماهير، قد عكس هذا النزاع بشكل كبير. ويقترح الرسم الكاريكاتوري مجموعة من القواعد "لجدول ميدان التحرير"، حيث يتم حجز أيام السبت والإثنين والأربعاء لمؤيدي السلفيين والأخوان المسلمين، بينما تُحجز أيام الأحد والثلاثاء والخميس للثوار. وأخيراً فإن يوم الجمعة قد تم تحديده للصيانة والتنظيف وتبادل أسرى "الحرب". إلا أنه، ومنذ 25 يناير 2011، تعدّت المعارك حول ملكية واستحقاق الحيز العام إلى ما هو أكبر من الصراعات الدائرة بين القوى السياسية المتحاربة. الإمكانيات الجديدة لاستحقاق الحيز العام أحيت مخاوف مجتمعية متأصلة وخطوط تماس بين مجموعات اجتماعية وسياسية مختلفة. واحدة من الأمثلة الأكثر صلة بهذا التماس كان السؤال حول حضور المرأة في الحيز العام والمضايقات المتكررة التي عانت منها خلال وما بعد الثورة. الحالات الأخرى التي أثارت قلقاً متواصلاً تتعلق بمكان مجموعات مهمشة أخرى مثل "أولاد الشوارع" والباعة المتجولين.

\"\"

[الصورة من صفحة "منتديات الشاب كول" على الفيسبوك]

 

منذ الأيام الأولى للثورة، توافد الباعة المتجولون إلى ميدان التحرير حيث خلقوا إقتصاداً محلياً مزدهراً زود ملايين المحتجّين الذين ارتادوا ميدان التحرير لاحقاً بوجبات خفيفة ومشروبات بأسعار معقولة. سواء كانوا عائلات أو مجموعات من الأصدقاء الذين جاؤوا للانضمام للاحتجاج أو للتمتع بالإحساس بالحرية والتفاؤل الناضح من الميدان أو كانوا من المقاتلين المستميتين الذين جعلوا من ميدان التحرير بيتاً لهم، فإن كل هؤلاء اعتمدوا على الباعة المتجولين بدلاً من القهاوي والمطاعم المكلفة في وسط البلد في القاهرة. مع الوقت، إنضم اليهم المزيد من الباعة الذين يبيعون مختلف البضائع وسرعان ما تناثروا جميعهم على أرصفة وشوارع كامل منطقة وسط البلد.

فور سقوط مبارك، شرع الجيش والحكومات المتعاقبة في حملة لإخلاء ميدان التحرير، ليس فقط من المحتجين وإنما أيضاً من الباعة. كان الهدف من هذه المحاولات حفظ النظام العام في الشوارع والأهم من ذلك استعادة صورة الدولة القوية "ووقار" المجتمع المصري، الذي يعتبره هذا المنطق مهدداً نتيجة إحتلال الحيز العام. ونادرة هي الحالات التي لا تؤدي بها الإزالة القسرية إلى تصادم عنيف، يعتبر فيه الباعة و"البلطجية" (غالباً ما تم خلط/استعمال الاثنين بالتبادل) بكونهم الملامين على العنف. جهود سلطات الدولة لإخلاء الباعة من التحرير والشوارع المحيطة شكّلت جزءاً واحداً فقط من حملة شاملة طويلة الأمد تمتد لكافة أطراف البلاد لقمع الظاهرة، والتي يعزو إليها الناس مواطن الشر بما في ذلك الفوضى في الشوارع وأزمة المرور والإخلال بالقانون وعلاوة على كل هذا "تشويه" المظهر الحضاري المصري. يدعم أصحاب المحال التجارية والطبقة الوسطى من سكان المدينة مثل هذه الجهود. فبالنسبة لأصحاب المحال التجارية، من الواضح أن الباعة يشكلون مصدر تهديد لهم لأنهم يبيعون بضاعة بأسعار معقولةعند عتبات محالهم. بينما يرى سكان الحارات التي تقطنها الطبقة الوسطى في المدينة الباعة المتجولين كتهديد لأنهم يعيقون انسياب حركة السير ويسّدون الأرصفة مما يجعل تنقل المارة بسهولة أمراً مستحيلاً. وهناك أيضاً بُعد آخر "أخلاقي" متعلق بشعورهم بالقلق الذي يثيره الفقر وعدم النظام المتجسد بالباعة المتجولين. ومن نافل القول، أنه لا يمكنه عزو السبب الحقيقي للزحمة المرورية الخانقة في القاهرة وفوضى الشوارع وإلقاء اللوم في ذلك على الباعة المتجولين. وإنما نجد تلك الأسباب في غياب نظام ناجع ومعقول للمواصلات العامة، وفي شبكات الشوارع الرديئة، وفي أخطاء كبيرة في التخطيط المديني ونظام رأسمالية المحاسيب. على أية حال، فسكان المناطق المرفهة في مصر عازمون على القضاء على حضور الباعة المتجولين "غير الحضاري" والمهدد أخلاقياً، موظفين لذلك كل التبريرات. عليه، فهم يدعون الشرطة بشكل متكرر حيث يرونها حليفهم الطبيعي في حماسهم ضد الإخلال بالقانون وانعدام النظام، وذلك لقمع الباعة المتجولين ومنعهم من العمل في أحيائهم.

جاء قانون مرسي المذهل كخطوة يائسة في معركة طويلة الأمد للتخلص من الباعة المتجولين. فعلى سبيل المثال، في مارس/آذار 2011 قامت قوات من الجيش والحرس المدني بإخلاء باعة متجولين بالقوة من ميدان رمسيس وإعتقال الكثيرين منهم، فيما قُدِم بعض منهم للمحاكمة لاحقاً حيث حوكموا في المحاكم العسكرية. مؤخراً، وتحديداً في أوكتوبر/تشرين الأول 2012، لقي بائع فاكهة شاب يبلغ من العمر 22 عاماً حتفه في صدامات عنيفة خلال هجوم شنته قوات تابعة للشرطة في محاولة منها لتطهير دوار الجيزة من كل الباعة. الأمر الذي أدى الى احتجاج نظمه زملاؤه الباعة أمام مكتب المدعي العام مطالبين بالاقتصاص من المسؤول.

هذه المعركة المستمرة ليست بالجديدة أو الفريدة والخاصة بمصر وحدها. ولكنها شكلت جزءاً متكاملاً من بناء وعمل الدولة التنموية منذ الخمسينيات والستينيات في أغلب الدول النامية. روجت الدولة التنموية عند الأمم المستقلة حديثاً، والنظام الإقتصادي الذي دعمها في النصف الثاني من القرن العشرين لمشروع تحديث يعتمد على العقلانية والنجاعة والتكنولوجيا ووسائل الإدارة الغربية، بالإضافة إلى النظام. بناء على هذا، فقد اعتبروا الإقتصاد غير الرسمي والباعة المتجولين في صلبها كنقيض لمشروع الدولة ووجودها. الباعة المتجولون جسدوا كل ما هو مخالف للحداثة: عدم النجاعة، الفوضى، والطفيلية وعدم الانضباط. صورة المدن غربية الطراز الحداثية وحسنة التخطيط كانت مهددة بفعل ربطها بالفقر والإخلال بالقانون والفوضى التي يخلقها باعة تقليديو الملبس والعمل. الباعة تجولوا في الشوارع، ولم يكن لهم أماكن تجارة ثابتة ولم يتبعوا أي قانون، كما يقضي بذلك المجتمع المتحضر والحداثي.

وضع زاغموند باومن إصبعه على جوهر الحداثة بوصفه إياها بـ "النظام كهوس". لقد عمل النظام، قبل أي شيء، كمحرك جوهري في إعادة إنتاج نظام إقتصادي سائد. في نظام رأسمالي حداثي، فيما تعمل الشركات الكبرى وفقاً لأسس سلم الإقتصاد، فإن الشركة وحتى رجال الأعمال الصغار ولكن المنظمين- يُعترف بهم كشركاء وعملاء للحداثة لكونهم يتلائمون ضمن نموذج عماده تمركز الانتاج والتوزيع. أما الباعة المتجولون، فهم لا يدفعون الضرائب ولا يحفظون السّجلات كما ويستحيل إدراجهم في المؤشرات الاقتصادية العامة مثل مؤشر الناتج المحلي الإجمالي؛ عليه فهم مضّرون للتخطيط القومي الإقتصادي. والأكثر أهمية من ذلك، فإن الشركات والمؤسسات التجارية الكبرى تكرس الدوّر التنظيمي للدولة لإدارة علاقات الإنتاج، حيث تزود الدولة بكونها"رأسمالي جماعي مثالي" الشروط السياسية المسبقة لعملية تراكم صحية عبر السيطرة على علاقات رأس المال لصالح منافع رأسمالية.

على أية حال وبالرغم من جهود الدول المستقلة حديثاً لدمج الإقتصاد غير الرسمي في منظومة مرتبة والقضاء على البيع في الشوارع، إلا أن كلاهما، أي الإقتصاد غير الرسمي والباعة- قد تابعا الإزدهار بمعزل عن الدولة في البلدان النامية. إن الفشل في التنظيم المركزي، والقطاع الخاص غير المتطور وحقائق إقتصادية أخرى في هذه الدول عنت أن القطاعات الأكثر تقليدية مجبرة على تقديم الحلول والرد على احتياجات الملايين المقصيين من مشاريع الحداثة؛ الاحتياجيات التي فشلت الدولة التنموية ذاتها بتلبيتها. هذا صحيح الآن في القرن الواحد والعشرين كما كان صحيحاً في العقود الأولى للاستقلال. لكن القطاع غير الرسمي يستمر بتوفير الوظائف لهؤلاء الذين يدخلون سوق العمل في كل عام والذين تنعدم أمامهم فرص العثور على عمل في القطاع الرسمي.

تغير معنى التنمية إلى حد كبير على مر العقود، وتغيرت ومعه أيضاً تعريفاتها وتوجهاتها التي تم توظيفها من قبل الحكومات الوطنية. التحولات في معنى التنمية كانت قد واكبت دائماً الإحتياجات المتزايدة للنظام الإقتصادي العالمي. بناء على ذلك، فإن الكثير من الحكومات الوطنية في الجنوب العالمي اضطرت الى تغيير افتراضاتها المبكرة عن التطور والسياسات المتبعة لتحقيق التمنية، وذلك بناء على تطور الإقتصاد العالمي. إلا أن التناقض الآن يكمن في أن الاحتياجات الأخيرة للنظام الرأسمالي العالمي أدت الى مأسسة عمليات من اللارسمية. فالتغييرات في هيئة منظومات التصنيع وفي قطاعات أخرى قد ولّدت منطقاً إنتاجياً جديداً. على سبيل المثال، يعتمد "خط الإنتاج العالمي"، على الإستعانة بشبكات من المصادر الخارجية، بالإضافة الى التعاقد الهرمي ومرونة سوق العمل. هذا النظام على أي حال، ينتج بشكل ثابت المزيد من الإستغلال في العمل، رواتب متدنية، شروط عمل غير آمنة والمزيد من عدم التوازن الوظيفي.

إن النقد المترتب عن هذا التطور وتأثيره على حياة الملايين من الفقراء على المستوى العالمي، حدا بالمؤسسات المالية الكبرى لابتكار سياسات تعزز فعلياً المزيد من أشكال "اللارسمية" من أجل تحسين نصيب هؤلاء العاملين ضمنها وذلك بمساعدة تدخل الدولة. السياسات النيوليبرالية المعززة من قبل "إجماع واشنطن" والمؤيدة بكل طاعة من قبل الجنوب العالمي، بما في ذلك مصر، تقوم، الآن –للمفارقة- بتعزيز مبادرات متواضعة عبر قروض صغيرة وغيرها من برامج التدريب والإقتراض باعتبارها حجر الزاوية المساند للاقتصاد. نتيجة لذلك فإن السياسات المنبثقة عن المؤسسات الإقتصادية إتجاه الإقتصاد غير الرسمي، تهدف إلى "تنظيم" القطاع ولكن ذلك بهدف تعزيزه وليس القضاء عليه.

في سياق مصر طالما اكتسب "التنظيم" دائماً معنى مختلفاً وذلك حسب من يتحدث عنه. ففي الوقت الذي يعتبر تشكيل نقابة للعمال بمثابة سلاح عظيم ضد الاستغلال، إلا أن الطريقة التي يفهم بها المسؤولون المصريون "التنظيم" تختلف بشكل كبير عن تلك التي يفهمها العمال. فبالنسبة لدولة مثل مصر، فإن تنظيم العمل لم يتعلق أبداً بلجم قوة التفاوض الجماعية للعمال، وإنما بتنظيمهم في هيئات قابلة للضبط. في حالة الباعة المتجولين، عنى ذلك تنظيم ظاهرة فوضوية ولكن أيضاً حتمية. وفقاً لهذا المنظور يتم التسامح مع الباعة المتجولين طالما يحتلون مكاناً محدداً، وعليه فيمكن موضعته، إقصاؤه والسيطرة عليه. مؤخراً، قامت كل من نقابة المهن التجارية سوية مع وزارة المالية والإتحاد العام لنقابات عمال مصر المعروف بفساده، بمسح لكافة الباعة المتجولين على صعيد وطني في محاولة منها لتنظيمهم. في الأسابيع الأخيرة، طالب إتحاد الغرف التجارية المصرية الحكومة بتخصيص سوق أسبوعية محددة في مناطق معينة وذلك من أجل "دمجهم في كيان الدولة الرسمي".

حاولت الحكومات المتعاقبة، بما في ذلك تلك التي كانت في فترة حكم مبارك، إبعاد الباعة المتجولين عن مركز القاهرة إلى مدن تابعة لها تقع على أطرافها مثل عبور، وستة أوكتوبر، والشيخ زايد وسلام. مع شبكة المواصلات العامة الضعيفة التي تربط هذه التجمعات السكانية الهانشية (مثال هائل على فشل التخطيط المديني)، فإن النقل يشكل حكم إعدام يحاول كل الباعة تجنبه.

من جهة أخرى، فإن الباعة المتجولين تواقون لتشكيل نقابة عمالية، وعلى الأقل تنظيم صفوفهم جماعياً ضد مضايقات الدولة، وفساد الشرطة والحماية من الاحتيال. وكان أحد باعة القاهرة المتجولين قد أخذ على عاتقه مبادرة للضغط لتشكيل إتحاد عمال مستقل، وتمكن من جمع أربعة آلاف توقيع من باعة من مختلف المحافظات. إلا أن إقامة إتحاد مستقل واجهت الكثير من التعقيدات من قبل وزارة العمل، ويأتي هذا كجزء من استراتيجية حكومات ما بعد مبارك لتوقيف تطور المئات من الاتحادات المستقلة، والتي ازدهرت في فترة ما بعد سقوط مبارك. أسوة بغالبية الحكومات الوطنية في الجنوب العالمي، المسؤولون المصريون اضطروا للعمل وفقاً لإملاءات المؤسسات المالية العالمية والتي صممت سياستها بشكل يدعم مصالح نظام رأسمالي عالمي. ومع ذلك، فإن بيروقراطيات هذه الدول هي أقل مرونة من الرأسمال العالمي فمسؤولو الدولة يلاقون صعوبة في تعلم خدع جديدة والتخلي عن العادات القديمة. لذلك ما تزال الدولة المصرية ملتزمة باللقضاء على الباعة المتجولين الذين يمثلون تهديداً لحفظها للنظام، ذلك في الوقت الذي تصرح سياساتها الرسمية بدمجهم كشركاء في التطور. ومن نافل القول، أن أياً من توجهات الدولة بالنسبة للتعامل مع "مشكلة" الباعة المتجولين لن تكون ناجعة، ففي تجريم قطاع ما غاية في الأهمية لسوق العمل وللسياسيات الاقتصادية الحكومية الرسمية، بدون طرح بدائل، لن تكون هناك نجاعة ولا حكمة. وفي النفس الدرجة، فإن إحتواء وتنظيم الباعة المتجولين عبر ابعادهم عن قلب المدن وإعادة موضعتهم في الهوامش المدينية بأمل تحويلهم إلى غير مرئيين، يعمل بعكس الأسباب التي تقف وراء نجاح القطاع غير الرسمي، وتلك مرونته، لارسميته وقدرته الجسدية على التنقل. حاولت الدولة التحديثية التي تعتمد التنموية منهجاً، في مصر وفي أماكن أخرى، حاولت جاهدة ملائمة الواقع الإجتماعي في إطار متخيًّل؛ إطار أتقصى مواطنيه وهمشهم بشكل ممنهج. لم ينجح هذا في الماضي، ولن ينجح الآن أيضاً.

[نشر المقال على "جدلية" باللغة الإنكليزية وترجمته حنين نعامنة إلى العربية]