هاهي الليبرالية المصرية تعيد تقديم نفسها للساحة السياسية عقب ثورة جماهيرية في صورة أحزاب عديدة تحت التأسيس. وبمجرد إنطلاق المبادرات، وأهمها أحزاب المصري الديمقراطي الاجتماعي والعدل والمصريون الأحرار، اندلعت المواجهة السياسية والفكرية بين رموزها وبين الإسلاميين من أنصار الدولة الدينية أو المرجعية الدينية للدولة. يخوض الليبراليون المصريون الجدد هذه المواجهة من منطلقات بناء دولة المواطنة لكل المصريين، و "الدفاع عن الحرية" ، التي كانت دوما المنطلق الفلسفي الرئيسي لليبرالية.
في الوقت نفسه تتراجع قضايا المساواة والتحركات الاجتماعية دفاعا عن الأجر وحق تأسيس النقابات المستقلة، على الأقل للمرتبة الثانية أو الثالثة بعد استعادة عجلة الإنتاج وغيرها، على أجندة الليبراليين، الذين خفتت أصواتهم كثيرا، في مواجهة مرسوم تجريم الإضرابات والمظاهرات العمالية. فلم يقع تحت يدي بيان سياسي واحد من أي من هذه الأحزاب يدين هذا المرسوم، وهو اعتداء صارخ على الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان بمعايير كل العالم الديمقراطي الليبرالي الحديث، خاصة بعد ثورة كان في صلبها الاحتجاج والتمرد على سياسات كرست عدم المساواة الاقتصادية والاجتماعية لعقود. والحقيقة أن هذا يؤشر للمعضلة الكبيرة التي تواجه الليبراليين المصريين وهم يقدمون أنفسهم لقيادة مستقبل مصر.
فجميع هذه الأحزاب على إيمانها تؤكد باقتصاد السوق الحرة كأساس للتنمية. لكنها تحاول التعامل مع حقيقة أن الثورة المصرية لم تنفجر سعيا للحرية أو للكرامة كقيمة مجردة وإنما أيضا كواقع عملي يمد جذوره في توزيع عادل لموارد المجتمع، بإقران اقتصاد السوق الحرة بالنزاهة والشفافية والعدالة الاجتماعية، وأحيانا بتدخل الدولة لضمان الأمان الاجتماعي.
والأكيد أن الاقتران بين الحرية السياسية والحرية الاقتصادية، المتجسدة في حرية السوق، هي عنصر أصيل في الفكر الليبرالي بدءا من أليكس دي توكفيل منظر الديمقراطية الأمريكية إلى فريدريك حايك ثم في صورته الأكثر تطرفا عند ميلتون فريدمان. تقوم هذه الفكرة على الربط بين حرية الفرد السياسية وحريته في الاستثمار والعمل في مواجهة الفاشية وفي مواجهة الستالينية كتجسيد لسيطرة الدولة على الاقتصاد وشموليتها في السياسة. تقول هذه الفكرة بوضوح إن تحرير الأسواق بما يجلبه من تنمية مؤكدة يفتح الباب إن عاجلا أو آجلا للديمقراطية السياسية. وتقول أيضا إن الديمقراطية السياسية لاتزدهر إلا على خلفية من اقتصاد السوق الحر.
غير أن الليبرالية، كمشروع سياسي يقوم على هذه الفكرة، تواجه أزمة هائلة بفعل التطورات في العالم وفي مصر. فلقد انفصمت تلك العلاقة على الأرض بين الديمقراطية وحرية السوق والتنمية. فهاهي الصين، وهي نظام قمعي من الناحية السياسية تتبنى سياسات تحررية في الاقتصاد تجلب نموا اقتصاديا هائلا، بينما تحتفظ في الوقت نفسه بسيطرة الحزب الشيوعي وحده على السلطة. من ناحية أخرى، يمثل النموذجان المصري والتونسي دليلا آخر على هذا الانفصام بعد أن كان اقتصادهما قصة نجاح من زاوية النمو الاقتصادي وحرية الأسواق. واحتلت مصر مثلا مرتبة متقدمة دائما في تقارير البنك الدولي عن الدول الأكثر اصلاحا من الناحية الاقتصادية، بينما اقترن ذلك بفساد وقمع وتزوير للانتخابات. بل اقترن تحرير الأسواق في معجزتي النمو العربيتين بتزاوج هائل بين الثروة والسلطة افترق على أساسه النمو عن التنمية خالقا درجة غير مسبوقة من الفقر وعدم المساواة.
ولم يقتصر عدم المساواة هذا فقط على الدول النامية. فهاهو الاقتران الكاثوليكي بين حرية الأسواق والحرية السياسية ينتج خللا هائلا في الديمقراطية والأنظمة الحزبية في دول الديمقراطية العتيدة في أوروبا والولايات المتحدة.
يرصد الاقتصادي الأمريكي الحائز على جائزة نوبل جوزيف ستيجليتز في مقال له نشر مؤخرا في مجلة فانيتي فير الأمريكية تحت عنوان "عن ال1% ، من ال1% لل 1%" كيف خلقت سياسات تحرير الأسواق خللا هائلا سياسيا واجتماعيا في المجتمع الأمريكي بعد أن زاد نصيب ال1% الأغني من الأمريكيين إلى ربع الدخل و40% من الثروة مقارنة ب12% و33% عام 1985. ويمكن تعميم هذه الظاهرة على عالم الأسواق الحرة بصورة أو بأخرى. ولا يمكن الفصل بين هذا البحر الهائل من عدم المساواة الذي يعكس نفسه في تمويل ثم ميول الأحزاب السياسية، وبين تصاعد ظواهر التطرف اليميني والعنصري وعزوف المواطنين عن الانخراط في أحزاب ولا عن تراجع نسب التصويت في الانتخابات في العالم الحر، وهي ظواهر تهدد الشرعية الديمقراطية لهذه الأنظمة السياسية.
في خطاب له في اجتماعات الربيع الشهر الماضي في واشنطن قال رئيس البنك الدولي روبرت زوليك تعليقا على ثورات الشرق الأوسط إن "السياسة والاقتصاد مختلفان. لكنهما تقريبا نفس الشيء في مناطق عديدة. الناس، الحوافز، الحالة النفسية، الطبيعة الإنسانية، الحوكمة، الاختيارات، النتائج، المحاسبة، الشفافية، الأمن، النوع، المشاركة، الصوت. هل هذه سياسة أم اقتصاد؟ أم ربما الاثنان؟".
إن هذا التداخل والتضفير بين ماهو سياسي وماهو اقتصادي، الذي بات حتى البنك الدولي يعترف به، هو الذي دفع المصريين للثورة. ولم يعد من الممكن الاكتفاء في بناء المجتمع الديمقراطي الذي نحلم به بإعطاء حريات المساواة القانونية المجردة. الثائرون يريدون تنمية تعمل لصالحهم بشكل مباشر ويريدون سيطرة مباشرة على مقادير عيشهم وليس مجرد الحق الدوري في الاختيار بين ممثلي ال1% على الطريقة الأمريكية. ويعني هذا أنه سيكون على أحزاب الليبرالية المصرية الجديدة أن تستعد بإجاباتها على سؤال المساواة في ظل السوق، وهو سؤال موجه أيضا للحركة الإسلامية بأجنحتها. إذ أنه بعد أن تنجلي سحابة كاميليا والمادة الثانية وتنكشف فزاعات الظلامية والكفر العلماني، سيواجه الجميع درس الثورة الذي لامهرب منه: لا حرية سياسية دون مساواة اجتماعية ولا عدالة في الرزق دون الحق في الاختيار والحق في التنظيم النقابي وفي الإضراب والاعتصام.
عن الشروق