كيف نكتب "نكبة" بالعربية؟ ربما هذه أول مرة أكتب هذه الكلمة وأكتب عنها بالعربية. الآن، في منتصف العمر وفي آخر الدنيا، أجلس بجانب طاولة خشبية مستديرة في شقة استوديو تقع على تلة مرتفعة في غابة تشرف على مضيق بيوجيت في جزيرة "ويدبي".
أجلس في هذا الركن الساكن للشمال الغربي للولايات المتحدة، بالقرب من المحيط الهاديء، وأحدق برذاذ مطر أيار. أشعر بثقل في قدمي. هل مهّمة الكتابة عن النكبة مرعبة إلى حد التّسمر في المكان؟ أم هي القوة المغناطيسية التي تشق باطن الأرض لهذا القطب من العالم، لتشّدني بقوة إلى فلسطين وذكرى أيار آخر؟ أم هي الرهبة السحرية لانسجام السماء الرمادية والأمواج الضبابية مع الخضرة الدائمة لأشجار بلوط وسرو ترتفع إلى السحاب كشهادة شامخة على إبادة الهنود الحمر، الذين رعوها وتعّبدوا في ظلالها قبل مجيء الرجل الأبيض؟ الطبيعة لا تنسى!
لا أتذكر متى سمعت كلمة "نكبة" لأول مرة في حياتي! ربما كانت في السنة الأولى لدراستي اللقب الأول في الجامعة العبرية في القدس، خلال مشاهدة فيلم عن ناجي العلي في "أمسية توعية" نظمتها أحدى جمعيات الطلاب العرب. أو ربما عندما دخل "الدِش" إلى بيتنا قبل خمس عشرة سنة وجاءت قناة "الجزيرة" بصور وكلمات لم نرها على التلفزيون الأردني، ولم تحك عنها شهرزاد في فوازير رمضان على التلفزيون المصري، ولم تنقلها شاشات التلفزيون الأسرائيلي؛ لا "الأولى"، ولا " الثانية"، ولا الكوابل ولا يحزنون!
لم تكن كلمة "نكبة" ضمن الكلمات المطلوب حفظها في دروس الإملاء في مدرسة "إبن سينا" الابتدائية في الطيبة. كما أنها لم تدرج في دراستي الثانوية أو في برنامج إمتحانات “البجروت” في الجغرافيا والتاريخ، الذي أقرته وزارة المعارف والتربية الإسرائيلية. لم أحصل على تقدير عال في هذه المواضيع، لأن ميولي كانت علمية، ومع ذلك ما زلت أذكر تفاصيل ما "بصمته" أنا وزملائي وزميلاتي من تضاريس وأسماء وحوادث لأزمنة وبلاد لم نعش فيها، مثل صحراء أمريء القيس وحروب الجاهلية واضطهاد اليهود منذ العصور الوسطى.
لم أسمع الكلمة في البيت أو الحارة، فمنذ طفولتي وأنا أسمع الكبار من النساء والرجال يقولون "لما أجو اليهود"، "أيام الحرب"، "في اﻠ 48"، "عَ زمان عبد الناصر"، "خيانة"، "الإنجليز"، "يلعن أبوهم"، "نتانيا كان إسمها أم خالد وبيتح تكفا هي ملّبِس". والداي وأقاربي كانوا يرددون هذه الكلمات في جولاتنا ورحلاتنا العائلية خلال الربيع والصيف.
أبي، إبن الفلاحين البسطاء الذي لم يكمل دراسته الإبتدائية، إهتّم بالعلم والمعرفة وحرص دائما على إلمامنا بمعالم البلاد، ولذا صار كل مشوار سفر في السيارة درساً في التاريخ والجغرافيا. كنت أتسابق مع أشقائي في المقعد الخلفي على الإجابة الصحيحة لسؤالين تكررا بكثرة "وين إحنا؟"، و"شو إسم هذا المحل؟"، ولكن كلمة "نكبة" لم تُذكر في السيارة حتى ذاك اليوم في نهاية الربيع، كنت حينها في العاشرة من عمري. كنا في قافلة سيارات في رحلة إلى الشمال مع الأعمام والأخوال وعوائلهم. بعد قيساريا بقليل أشار أبي من خلف مقود السيارة إلى يساره وقال :"هذه الطنطورة. شطها حلو كثير. في اﻠ 48 صارت فيها مجزرة، فصلوا الرجال عن النساء والأطفال. قتلوا الرجال بالرصاص أمام النساء المعّريات وبعدها قطعوا صدورهن، كثير ناس ماتوا".
لم نذهب إلى شاطيء الطنطورة في ذلك اليوم. قال أبي إن الشاطيء صار خاصًا والدخول بفلوس و"بيحاسبوا عالراس وإحنا وباقي أولاد العيلة كتار. أحسن نروح على شط حيفا بننبسط ببلاش." وسكت أبي والجميع وأنا معهم ووضعت يديّ على صدري وتساءلت في نفسي: "كيف يعني مجزرة؟"