وداعاً المانيا
في ساعات الصباح المبكرة وأنا في طريقي إلى العمل، حين يكون المترو البرليني مزدحماً، غالباً ما يستوقفني منظر أولئك الذين يجلسون على المقاعد ويغفون فوق زجاجة الجعة التي بين أيديهم. يبدو عليهم وكأنهم سيهوون أرضاً في أي لحظة من الثمالة. كل هذا وعقارب الساعة لم تصل التاسعة صباحاً بعد. لم يكن هؤلاء الألمان في بال المصرفي الألماني تيلو سارازين ( 65 عامًا) عندما كان يتحدث عن الألمان كشعب يكد ويعمل بشكل دؤوب وتمكن من بناء أحد أقوى الإقتصادات في العالم بعد الحرب العالمية الثانية. لا تكمن المشكلة في التعميم بحد ذاته بقدر ما نجدها في السياق الذي وضع فيه، وهو مقارنة "الألمان" بفئة من االمهاجرين وابنائهم. والمقصود هنا المسلمون عامة والعرب والأتراك خاصة. فهؤلاء هم الذين سيدمرون المانيا بالغباء والكسل! وكأنهم لم يشتركوا في بناء ألمانيا عندما إستقدمتهم كعمال.
المانيا تلغي نفسها" هو العنوان الرنان الذي إختاره سارازين لكتابه الذي سبقته مقابلات صحفية نارية شغلت المانيا فلم تبق وسيلة إعلام واحدة لم تتناول الموضوع بصورة أو بأخرى. والإلغاء أو التدمير الذي يتحدث عنه سارازين هو تدمير من الناحية "النوعية" بسبب الأجانب غير المتعلمين ونقص الكفاءات عند المسلمين عامة والعرب والأتراك خاصة ، الذين لا ينفعون لشيء كما يرى سارازين "إلا لإنجاب فتيات محجبات". هؤلاء سيحولون مكتبات ألمانيا إلى جوامع. كما يعتقد سارازين بأن المسلمين يمثلون عبئاً على المجتمع الألماني وبأن كل مشاكل ألمانيا الاقتصادية والثقافية سببها أربعة ملايين فرد ينحدرون من أصول إسلامية.
وسارازين هذا عضو مجلس إدارة البنك المركزي الألماني وشغل في الماضي مناصب عديدة حساسة ومرموقة منها وزير المالية في برلين. أثارت تصريحاته وكتابه جدلاً حاداً وانقساماً في الرأي العام في ألمانيا. كما سببت الكثير من الحرج للمستشارة الألمانية التي رأت أن هذه التصريحات تضر بسمعة ألمانيا وبالبنك المركزي الألماني. ولا أدري لماذا يتمسك سارازين بعضوية الحزب الاشتراكي الديمقراطي الذي من المفترض أن يكون المنتمين له أكثر حساسية تجاه الاحتياجات الاجتماعية للعمال والفئات المحرومة والمقموعة. هذا الحزب الذي حاول في العام الماضي إخراج سارازين، بعد إحدى تصريحاته المثيرة للجدل عن الأتراك، لكنه لم ينجح. وما زال سارازين متمسكاً بعضويته في الحزب.
تمكن سارازين بالجدل الذي أثاره من إحداث دعاية ناجحة لكتابه فنفدت الطبعة الأولى قبل خروجها إلى المكتبات عبر حجوزات النسخ المسبقة بحسب تأكيدات الناشر. وخصصت له أهم الصحف الألمانية كـ" دي زايت" و" دير شبيغل" مقابلات واقتباسات من كتابه على صفحاتها مما يثير الإستغراب لأنها بذلك أعطته منبراً جديداً وقوياً يساعد على إنتشاره. "إضطر" سارازين إلى التنحي عن منصبه والخروج إلى التقاعد سنة ونصف قبل الموعد المفترض. لكن هذا الخروج لم يأتِ إلا بعد التوصل إلى تسوية بحصوله على إستحقاقات معاشه الكاملة مع إضافة، ليصل ما يتقاضاه شهريا بعد الخروج إلى المعاش في شهر أكتوبر، إلى عشرة الاف يورو في الشهر، كما ذكرت إحدى الصحف الألمانية! في وقت لا تزيد فيه مستحقات البطالة في ألمانيا على ال 350 يورو في الشهر. وعلى الشخص أن يعيش منها ويدفع تأمين وفواتير وغيرها!
ما قد „يدمر ألمانيا" دون شك، لن يكون "عربي كسول" أو ألماني سكران في المترو أو أي شيء من هذا القبيل الذي قد لا يروق لبرجوازية سارازين المحافظة، بل هي العنصرية وكره الآخر سواء كان فقيراً أو أجنبياً أو من دين مغاير أو كلها معاً والتي تأكل أصحابها وتؤدي إلى متاهات من الصعب الخروج منها. ولا أدري كيف سمح سارازين لنفسه أن يغيب عن باله الدمار الانساني والثقافي الذي حل بألمانيا والذي ما زالت تعاني منه بطرق مختلفة حتى اليوم، وحل بها بعد حقبتها النازية البشعة وتدميرها لإنسانيتها وابناءها