يعيش المغرب حاليا دينامية تغيير تتعدد تجلياتها. هناك حركة احتجاج، وحركة تفاوض، ونقاش عمومي ينتشر عبر فضاءات متعددة. والواقع أننا أمام مستويات لا ينفصل بعضها عن بعض، إذ أن الاحتجاج هو في حد ذاته عملية تفاوضية، والتفاوض يمر عبر تطوير وتعميق أشكال النقاش العمومي. وتوجد مسألة بنية الدولة وطبيعتها في صلب كل هذا الحراك الذي لم يسبق له مثيل منذ حصول المغرب على استقلاله.
رفعت حركة 20 فبراير شعارات تحمل أكثر من دلالة، مثل "كرامة، حرية، لا مخزن لا رعية"، و"لا لدولة السلطان، نعم لسلطان الدولة". هناك إذن، في مقابل الدولة الديمقراطية المنشودة، موروث سياسي يتلخص في مصطلحي السلطان والمخزن، ومطلب التحديث والدمقرطة الذي يتلخص في الانتقال من دولة المخزن إلى دولة المؤسسات. لكن ما هو مدلول المخزن والدولة المخزنية؟ من المفيد أن نوسع دائرة التعريف والتشخيص لكي نحاول الإمساك بهذه البنية في تاريخها الطويل، ومن زوايا متعددة، وهي أشكال السلطة، وأشكال المشروعية، وعلاقة الدولة بالمجتمع، والتحولات والمنعطفات التي غيرت و/ أو حافظت على البنيات المذكورة.
من الصعب أن نكشف عن طبيعة الدولة عبر تشريعاتها ودساترها المتتالية، بل لا بد من الانتباه إلى العلاقات الفعلية بين النصوص وطريقة الاشتغال. غالبا ما تميز الدراسات التاريخية والاجتماعية بين ثلاث مراحل أساسية، وهي النسق التقليدي، والنسق الاستعماري / الحماية، ونسق ما بعد الاستعمار. وعبر المراحل الثلاث، يبدو لي أن هناك ظاهرة عامة، وهي ازدواجية الدولة وتوفيقها بين منطقين متساكنين.
بين السلطنة والمخزن
يقترن الحديث عن الدولة التقليدية في المغرب بالدولة التي نشأت في بداية الحقبة الإسلامية خلال العصر "الوسيط". وإذا كان المغرب قد انتقل آنذاك من وضعية إقليم تابع لسلطة المشرق إلى هوية سياسية قائمة بذاتها، فإن مسلسل تبلور الدولة مر من مرحلة تعدد الكيانات السياسية (الأدارسة، خوارج سجلماسة، برغواطة) إلى مرحلة بناء الدولة المركزية مع تجربة المرابطين التي لعب فيها فقهاء المالكية دورا هاما منذ طور التأسيس. وهكذا اتخذ نظام الحكم في المغرب وجهين، وهما الدولة السلطانية والدولة المخزنية.
فالدولة المغربية أصبحت قائمة على مبدأ الإمامة. تقوم سلطة الحاكم على عقد البيعة. وتتجلى الهوية الإسلامية في تنظيمات مثل الوزارة، وخطط مثل القضاء والحسبة، ونظام الجبايات الشرعية مثل الزكاة والأعشار والجزية. وترتبط كل هذه المؤسسات بمرجعيتين أساسيتين، وهما كُتب "الآداب السلطانية" التي ترسم تقنيات الحكم وتدبير الجند والمال، و"سياسة الرعية" في أفق العدل الذي يخلق المناخ الملائم للعمران، وكُتب "السياسة الشرعية" التي ترسم الإطار العام للتشريعات والأحكام وإقامة الحدود. وقد شكلت هذه المقومات أساس نفوذ الكتاب والفقهاء والعلماء، على أن هذه الفئات كانت توفر للدولة السلطانية أطرها الإدارية والإيديولوجية، وكانت في آن واحد حارسة القيم والمثل العليا. وقد برزت من حين لآخر أصوات تتجرأ بانتقاد الجور والفساد، عملا بمبدأ النصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
دولة السلطان هي في آن واحد دولة جهاز سياسي- اجتماعي يحمل اسم "المخزن". في مستوى أول، سجلت الوقائع التاريخية أن الدائرة السلطانية ظلت تتحكم في المجال الاقتصادي، ولاسيما تجارة الذهب في إطار الوساطة بين إفريقيا جنوب الصحراء وأوربا. وقد سبق لابن خلدون أن نبه إلى أن مشاركة العائلات المالكة في التجارة تتسبب في الاحتكار، مما يضر بالإنتاج والعمران. وفي مستوى آخر، توجد نواة النظام في قصر السلطان الذي يمثل "دار المخزن" التي تخضع لعدد من التنظيمات والمراتب والطقوس، ويلعب "عبيد المخزن" دورا هاما في توفير أمن العاهل والسهر على مناصب استراتيجية مثل الحجابة.
وقد كانت الطبيعة المؤسساتية والاجتماعية للدولة محكومة ببيئة واقتصاديات المغرب. فقد ظل عدد سكان البلد مستقرا ولم يتجاوز أربعة ملايين في بداية القرن العشرين، وعشرهم فقط من سكان المدن، بينما قل نمط الاستقرار في البوادي، وغلب الانتجاع والترحال. وكان المخزن يتوفر على جهاز مركزي محدود، ولم يكن يمتلك الأدوات التي تمكنه من احتكار العنف، وممارسة مهام الدولة الترابية، وتغطية المجال بواسطة شبكة إدارية محلية. لذلك تعوَّدت المجموعات المحلية في كثير من المناطق على تدبير مواردها وأمنها، وتعوَّد السلاطين على التنقل باستمرار عبر الجهات لمباشرة عدد من القضايا المحلية العالقة. وكانت الأسر المالكة المتعاقبة محكومة بطبيعتها القبلية، وكانت تقيم نفوذها على تدبير تحالفات تتغير باستمرار، وتضطر للتوافق مع بعض القوى القبلية التي تراقب الممرات الاستراتيجية ومناطق الأطراف، ولاسيما المناطق الواقعة جنوب الأطلس الكبير. وكان ممثل السلطان النموذجي في الجهات هو القائد الذي تنقطع أخباره عن المركز.
شهد القرن السادس عشر انتقالا من حكم العصبيات الأمازيغية إلى حُكم شرفاء واحات درعة السعديين، ثم واحات تافلالت العلويين. وأضافت المرحلة الجديدة عنصرا جديدا للمعادلة المخزنية، وهو عنصر الزوايا التي اكتسبت في بعض الأحيان صفة قوى إقليمية حقيقية، وتعاملت معها الدولة المخزنية بطريقة انتقائية، حسب تغير موازين القوة، بين التحالف والتطويع والتدجين.
بين المخزن و"سلطات المراقبة"
على إثر احتلال الجزائر سنة 1830، انخرطت الدولة المغربية في وضعية التبعية الاقتصادية تحت الهيمنة الأنجليزية، واستغلت التنافس الحاصل بين القوى الإمبريالية، وأخَّرت الاستعمار السياسي الذي أصبح أمرا حتميا بعد فشل محاولات الإصلاح. وفي هذا السياق، تطور الوضع الدولي لصالح فرنسا التي اختارت نظام الحماية لأنه كان أنسب من التجربة الجزائرية، وصاغت مشروعا يقدم السيطرة الاستعمارية على المغرب باعتبارها مجرد مساعدة للدولة المستعمَرة على إصلاح أعطابها.
هكذا نشأت ازدواجية جديدة. فقد تولت "سلطات المراقبة" الفرنسية (والإسبانية في المنطقة الخليفية في الشمال) أهم السلطات الحقيقية. هناك مقومات الدولة الترابية الجديدة، أي الدفاع، والأمن، والإشراف على الجهات. وهناك "المديريات"، أي الأجهزة الحكومية ذات المهام "التقنية"، مثل المالية، والفلاحة، والصناعة، والأشغال العمومية، والصحة، والتعليم، وكلها مؤسسات تسهر على "التحديث" وتوفير البنيات التحتية التي يتطلبها الاقتصاد الاستعماري الموجه نحو تلبية حاجيات المتروبول.
شاءت صيغة نظام الحماية أن تستمر السيادة الشكلية للدولة المخزنية، بيد أنها ظلت في واقع الأمر جهازا ينقص من تكاليف السيطرة الاستعمارية. فقد تم الاحتلال العسكري باسم المخزن، وكانت القرارات الكبرى تتخذ بواسطة ظهائر السلطان، واستفادت السيطرة الفرنسية من المشروعية الدينية للسلطان. وفي آن واحد لم يكن المخزن مجرد جهاز افتراضي، بل عملت الحماية على ترميم الدولة المخزنية فأحدثت مؤسسات جديدة مثل وزارتي العدل والأوقاف، واستقطبت من خلالها عناصر مؤثرة من النخبة العالمة. وساهم جهاز الباشوات والقياد في ترسيخ خضوع المدن والبوادي. وفي مستوى آخر، شجعت الحماية على إعادة إنتاج البنيات الاجتماعية العتيقة، وعملت على إحياء مجتمع الأعيان والحنطة والزاوية، وحرصت على أن تتجنب المدارس "الأهلية" تلقين تلامذتها مجموعة من المفاهيم مثل الثورة والحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.
هناك جانب زمني لا يخلو من أهمية، وله صلة بسنة 1934 التي تشكل منتصف حقبة الحماية. فمن جهة، شكلت هذه السنة نهاية مسلسل الاحتلال العسكري، ومعناه أن عددا من المناطق عاشت فقط نصف عهد السيطرة الاستعمارية، بل إن بعضها خضع بعد الاحتلال لقوى محلية، وتلك حالة منطقة نفوذ التهامي الكلاوي في الأطلس الكبير وبلاد درعة. ومعناه أن هذه المناطق عاشت استمرارية لافتة للثقافة المخزنية. وعلى إثر فشل المرحلة الأولى من المقاومة المسلحة، نشأت الحركة الوطنية في بداية ثلاثينيات القرن العشرين، وأسست الاحتفال بعيد العرش، وأطلقت شعار "عاش الملك"، وكان تبني هذا المصطلح الجديد إعلانا عن تطلع النخبة الجديدة إلى ملكية دستورية أقرب إلى النموذج الأنجليزي. وبذلك استعادت العائلة الحاكمة شعبيتها، وتقوت المكانة الرمزية للملك بشكل كبير بعد نفي محمد بن يوسف سنة 1953. غير أن سير المفاوضات التي أدت إلى الاستقلال خلقت ميزان قوة جديد على حساب الحركة الوطنية، وبذلك سوف تحدد المؤسسة الملكية بعد انتهاء مرحلة الحماية نظاما يحمل ازدواجية من نوع جديد.
بين الملكية الدستورية واستمرار النسق المخزني
ورثت دولة الاستقلال جهازي المخزن وسلطات المراقبة معا : المديريات التي تحولت إلى وزارات "تقنية"، وأجهزة الأمن والمراقبة، وجيش نظامي خلف الجهاز العسكري الفرنسي . وإلى جانب هذه المؤسسات، استمرت البنية المخزنية العتيقة التي رممتها سلطات الحماية وزادت في بريقها. غير أن الازدواجية الجديدة لا تتمثل في التمييز بين ما هو حديث وما هو عتيق، بل هي ازدواجية تتخذ عدة أوجه.
عرفت الدولة المغربية في بداية الاستقلال ثنائية سوف تلازمه حتى الوقت الراهن، وهي تتمثل في مسلسلين متوازيين ومتزامنين. هناك من جهة ترسانة مؤسساتية وتشريعية توهم بمناخ دولة الحق والقانون، وهناك في نفس الوقت مسلسل من الإجراءات العملية التي ركزت السلطة في يد المؤسسة الملكية.
ظل الحقل السياسي، طيلة عهد الحسن الثاني، يتسم بمشهد يقر من حيث المبدأ بالتعددية الحزبية، والانتخابات، والحريات الفردية والجماعية، وبواقع يعرف التحكم في القرارات السياسية الفعلية، بطريقة تزاوج بين القمع والاستقطاب، وتزاوج بين تزوير الانتخابات ومنع العمل الحزبي المعارض في البوادي وخلق قوى سياسية تتبنى اختيارات الدولة وتتعمد تمييع الخطاب السياسي، مما رسخ عند قطاعات واسعة من الجمهور صورة تجعل من العمل السياسي مرادفا للسجن أو الانتهازية الفردية.
مشهد الديمقراطية الافتراضية ظل باستمرار مجال التنازلات المحدودة التي قدمتها المؤسسة الملكية للقوى السياسية التي تنحدر من الحركة الوطنية، مع تناوب بين فترات تضييق شامل وفترات انفراج نسبي. ومصطلح المخزن يشير هنا إلى المجال المغلق الذي يمسك بخيوط اللعبة. ويتعلق الأمر بنسق مركَّب، يجمع بين الأجهزة الأمنية، ووزارة الداخلية، وبين استمرار بنيات اجتماعية عتيقة، وسيادة ثقافة التعليمات الشفوية على حساب المكتوب الذي يسجل مسؤوليات الأفراد والهيئات. نلاحظ مثلا هيمنة شبكات العائلات المخزنية التي تخترق في بعض الحالات مختلف مكونات الحقل السياسي، وهي تتحكم في آن واحد في قطاعات اقتصادية استراتيجية، إما في شكل مشاريع خاصة تتوسع خارج شروط المنافسة العادلة، أو في شكل مؤسسات عمومية تدار خارج مراقبة الجهاز الحكومي.
وإلى جانب ذلك، يلمس الملاحظ هالة خاصة تحيط بتعيين الملك للمشرفين على المؤسسات العمومية السياسية منها والاقتصادية. فبإمكان المسؤول أن يُشهر ظهير تعيينه لكي يرفض المساءلة من جانب المؤسسة التشريعية. والاستقالة ظاهرة تكاد تكون من المحرمات، والإقالة يحيط بها الغموض الذي يفتح الباب أمام الشائعات في غياب توضيحات رسمية. وحتى وإن شاع أن القرار كان يعبر عن تغيير في التوجه السياسي للدولة، أو كان بمثابة عقاب على سلوك فاسد أو مخالفة في أداء المهمة، فإن المسؤول المقال قد يعين من جديد في منصب آخر لا يخلو من أهمية.
امتدادات
حين كلف الملك الحسن الثاني عبد الرحمان اليوسفي بتكوين حكومة "التناوب التوافقي" في سنة 1998، كان السؤال الضمني وغير المعلَن هو: هل قررت المؤسسة الملكية أن تنخرط في مسلسل إصلاح عميق لا رجعة فيه ؟ أم أنها سوف تعرف مرة أخرى كيف تتكيف مع المستجدات، وتغير تحالفاتها، وتجدد نخبها، وتعلن عن الإصلاح من دون إنجازه؟ أما السياق الراهن، فهو يطرح رهانا حاسما على كل الأطراف، وهو إعادة تأسيس الملكية على قاعدة السيادة الشعبية. آنذاك سوف يُعطَى مضمون جديد للاستمرارية التاريخية للدولة، ويصبح المغاربة أمام مؤسسة ملكية تتخلص من الثقافة المخزنية، ولن يعود المُواطن يتعامل مع "مخزن" يقع خارج المجتمع ويتحايل معه الأقوياء والضعفاء، بل مع دولة تتقوى باحترام المواطن لها ، إذ يحس هذا الأخير بأنها تنبع من المجتمع، وتمثله، وتخضع للمحاسبة، وتدبر الشؤون الوطنية والمحلية وفق قواعد شفافة. وهكذا يمكن أن تكون نهاية ازدواجية الدولة دليلا على الإنجاز الفعلي للانتقال الديمقراطي.
عن جريدة "أخبار اليوم" المغربية