لم يتوقع المنظمون من معهد غوته وسينما آرسنال، في العاصمة الألمانية برلين، أنهم سيضطرون لإعادة بعض القادمين لمشاهدة فيلم ابراهيم البطوط ”عين شمس“، إلى البيت. كانت القاعة البرلينية الصغيرة في سينما ارسنال في شارع بوتسدامر المكتظ بالعمارات الزجاجية، قد إمتلأت بمحبي السينما فجلس بعضهم على الأرض لمشاهدة عرض الأمسية الأولى من الأمسيات الأربع التي خصصت كل ليلة فيها لفيلم مصري روائي آخر. وأضطر المنظمون إلى تخصيص عرض أخر لم يكن مقرراً مسبقاً لفيلم ” عين شمس“ في اليوم التالي بغية تعويض هؤلاء الذين عادوا أدراجهم في الأمسية الأولى ولم يتمكنوا من مشاهدة الفيلم.
سبقت الليالي الأربع هذه ليلتان للأفلام العربية القصيرة أو ما يعرف ببرنامج ”Arab Shorts” والذي يقوم معهد غوته بتنظيمه منذ ثلاث سنوات ويهدف إلى خلق تبادل بين سينمائيين عرب وأوربيين. وفي الوقت الذي كانت عروض Arab Shorts لمخرجين من دول عربية عدة كلبنان وتونس قرر المنظمون بأن تكون الأفلام الروائية الطويلة لسينمائيين مستقلين من مصر. أربعة أفلام لمخرجين مصريين أخذا على عاتقهما خوض التجربة السينمائية مع الكثير من المخاطر والإختلاف في عوالمهما السينمائية وهي ”عين شمس“ و“حاوي“ لإبراهيم البطوط و“هليوبوليس“ و“ميكروفون“ لأحمد عبدالله، وحضر كل منهما عروض الأفلام التي دار بعدها نقاش طويل وطرحت الأسئلة من جمهور مطلع على تجارب سينمائية عديدة ومتذوق إنتقائي في الغالب.
جاء اختيار الأفلام الأربعة في محاولة لعكس اجواء الإبداع السينمائي في مصر قبل الثورة ولكن لماذا مصر ولماذا هذه الأفلام بالذات؟ ”في مهرجان البرلينالة السينمائي الأخير قمنا وبسبب الثورة بتنظيم ندوة تناولنا فيها هذه الأفلام الأربعة دون عرضها في المهرجان بشكل كامل. وعندما توجه إلي معهد غوته وطلب مني وضع برنامج لعروض أفلام عربية مستقلة قررت أن آخذ هذه الأفلام وأن أركز على بلد عربي واحد وأن لا أتشعب في أخذ أفلام من دول كثيرة لأن ذلك سيحتاج لوقت وعروض مكثفة أكثر.“ قالت إيريت نايدهارت صاحبة مؤسسة ميك لتوزيع الأفلام من الشرق الأوسط والتي إختارت الأفلام الروائية الأربعة التي عرضت وأضافت: قررت أن أقدم التجربة المصرية كأحد الأمثلة وخاصة في
ذلك النقاش الذي يدور حالياً في مصر حول السينما المستقلة.
الوقوف عند أكثر هذه التجارب تميزاً ربما يجعل خصوصية السينما المصرية المستقلة واضحة ويظهر
الأفاق الواسعة التي تنتظرها، إنها تجربة إبراهيم البطوط في الحياة التي تنعكس في لغته السينمائية المميزة وحساسيته للصورة والرواية في أفلامه الثلاثة وآخرها فيلم "حاوي" التي كانت جميعها بميزانية منخفضة ومستقلة والفيلم الرابع عن الثورة المصرية في غرفة العمليات ينتظر الولادة.
عمل البطوط لمدة 18 عاماً كمصور تلفزيوني لمحطات أوربية وعالمية تنقل فيها بين 12 حرباً وأصيب مرتين خلال تصويره. الحرب الأهلية في لبنان وثلاث حروب في العراق وحرب البوسنة وفي فلسطين والقائمة طويلة. تركت جميعها مرارة عند البطوط فقرر أن يدير ظهره لعالم التوثيق ويترك التصوير في الحروب. ” كنت أتخيل أن التصوير والتوثيق في الحروب سيغير شيئاً في العالم لكن هذا لم يحدث والحروب مستمرة. وكأننا كجنس بشري نحتاج أن تكون الحرب على قائمة أعمالنا! لماذا؟ ربما لأن الحرب تجارة وفيها الكثير من المال“ قال إبراهيم وعلى شفتيه إبتسامة مُرة. فقدان الثقة في الوسيط التوثيقي حذا به إلى الذهاب لصناعة سينما روائية.
أبرز تجاربه الروائية كان فيلمه الأخير "حاوي" الذي أنتج عام 2010 وحصل على جوائز عدة ومن ضمنها جائزة مهرجان ترايبيكا في الدوحة وقيمتها مئة الف دولار وزعت على جميع العاملين بالفيلم. فهؤلاء والذين يصل عددهم إلى العشرات تجندوا لمساعدة إبراهيم لصناعة هذا الفيلم دون أجر مسبق. فيلم حاوي هو فيلم اسكندراني بإمتياز يقول ابراهيم فطاقم العاملين به هم جميعا من الإسكندرية.
وتدور أحداثه في الإسكندرية التي تصبح شوارعها وبحرها وبيوتها القديمة مسرحاً لمشاهد الفيلم. ابطاله هم أشخاص عاديون ( أغلب الأبطال ممثلين غير محترفين) وقصصهم الصغيرة في البحث عن حياة افضل في لغة سينمائية متمهلة تمر بسرعة على الرغم من طول الفيلم الذي يصل إلى ساعتين تقريباً لكننا لا نشعر بها إلى عندما ننظر إلى الساعة بعد إنتهاء العرض. أبواب كثيرة تلك التي يطرقها إبراهيم البطوط لنعيش مقاطع من حياة أصحابها عبر كاميرا تعطينا بعد ثالثاً للصورة وكأننا نقف على خشبة مسرح أو في تلك البيوت نشاهد صدفة ما يحدث مع شخصيات الفيلم. من الراقصة إلى العربجي إلى الفرقة الفنية التي تبحث عن طريقها وغيرها من القصص التي تتفتح وكأننا ندخل في صندوق العجائب ونكتشف هذه العوالم فتبقى خطوط حياتها تتقاطع أمام أعيننا في مونتاج مميز للفيلم قامت به بيري معتز يضرب عرض الحائط بالكثير من القواعد المتبعة ليأخذ لغة خاصة به كما يفعل مصور الفيلم والممثلين، الذين اختلفوا بتجربتهم السينمائية وادائهم فتميزوا كل على طريقته. وعلى الرغم من وجود بصمة المخرج ومصور الفيلم الواضحة فيه إلا أن فيلم حاوي يتميز بوجود حيز لبصمات أخرى فيه. ليشعر المشاهد أن هذا الفيلم هو عمل اوركسترا جماعي قاده البطوط بتميز.
* عن موقع الجزيرة نيت