في غاليري « آرت لابوراتري» البرلينية إلتقى الألم العراقي بالفلسطيني في معرض جمع أعمال كل من الفنان العراقي فاضل العكرفي ( مواليد 1957، البصرة) والفنان الفلسطيني عيسى ديبي (مواليد 1967، حيفا). تجارب مختلفة للتعبير عن الألم تميزها محاولة الجمع بين الشخصي والسياسي والإجتماعي على نبض الألم. «أحلامي دمرت حياتي» هو العنوان الرئيسي الذي حمل إسم المعرض وكتب بالنيون ليتوسط حائطا صبغ بالأزرق الداكن. هذه الجملة إستوحاها الفنان العراقي فاضل، والمقييم في سويسرا منذ عقود، من رسالة لأخيه أحمد كتبها له من العراق يتحدث فيها عن التكنولوجيا والحاسوب وكيف غير هذا الأخير حياته.
قتل أحمد، أخ الفنان فاضل، في إنفجار قنبلة عام 2006 في بغداد بعدما إنتقل إليها للعيش والعمل في شركة للحواسيب. وجه أحمد يطالعنا من صورة أخرى أراد لها الفنان أن تكون خالية من الألوان، باستثناء الأسود والأبيض مكبرة ( حجم اربعة بثلاث أمتار) تحتل الحائط المقابل للحائط المصبوغ بالأزق. يجلس فيها أحمد بخجل بجانب الدكتاتور السابق صدام حسين مع أبيه عام 85 سنتين بعد مقتل أحد أخوته في الحرب مع إيران. « يعتقد الكثير من الحكام أن الهدايا والتعويضات المالية لعائلات الشهداء من الممكن أن تعوضهم عن مقتل حبيب لهم فيصبح الإنسان بالنسبة لهؤلاء كأنه مجرد سلعة.» قال الفضل للأخبار وصوت أخيه في الخلفية يسمع من شريط الفيديو في تعليق له كتبه عن المشاعر التي إستحوذت عليه أثناء تلك الزيارة، بعدما طلب منه أخوه فاضل ذلك.
بعد خروج فاضل العكرفي من العراق قبل أكثر من عقدين إنشغل في جزء كبير من أعماله الفنية بتوثيق قضايا المهجرين إلى أوربا لكنه وبعد الإحتلال الأمريكي للعراق وجد نفسه ينشغل بهذه المأساة الجديدة لتحتل مساحات أوسع هي وحقبات أخرى من تاريخ العراق في أعماله سوأ كانت الفيديو أو الفتوغرافية.
وكان فاضل العكرفي و عيسى ديبي قد تعرفا على بعضهما البعض لأول مرة في تايوان عام 2005 ضمن فعاليات فنية. لكن هذا اللقاء البرليني أول حوار بين أعمالهما . « لقد أردنا الحديث في هذا المعرض البرليني والتعبيير عن الألم الشخصي من وجهة نظرنا كفنانين، فأنا فقدت أخي بعد أن قامت الشرطة الإسرائيلية بالقبض عليه وتوفي بعد 12 ساعة من إعتقاله والشرطة تدعي أنه إنتحر. وهو لا يمكننا تصديقه». قال ديبي وهو ينظر إلى أحد الصور المعلقة على الحائط في الغرفة المجاورة لتلك التي جمعت أعمال الفضل ويفصلها عنا باب من الزجاج. عيسي ديبي إبن حي وادي النسناس في حيفا التي تركها قبل عقدين للعيش في نيويورك ومن ثم تنقل بين مدن كثيرة في العالم آخرّها القاهرة، التي يعيش ويعمل بها حالياً كمحاضر في قسم الفنون في الجامعة الأمريكية.
أراد عيسى ديبي أن يعبر عن ألمه من خلال تصوير المنطقة التي كان يمر بها هو وأخوه المتوفي هاربين من المدرسة في طريقهم إلى البحر ومنطقة تل السمك. هذا الطريق الذي لم تطله أفواه الجرافات التي تنكش أينما إستطاعت لتمحو وتغير معالم فلسطين. فحيفا، يقول ديبي، كما غيرها من أراضي فلسطين في الداخل، تعيش تحت سياسة تمييز عنصري منظم وتغيير مستمر يهدف إلى محو ما تبقى من صور وذاكرة المدن الفلسطينة في الداخل.
إختار ديبي التصوير ثلاثي الأبعاد وقسّم صوره إلى ست محطات كان يقف بها هو وأخيه في رحلة الهروب الإسبوعية من المدرسة إلى البحر. لم يقم عيسى بالتقاط الصور بنفسه بل طلب من صديقة له تعيش في فلسطين أن تقوم هي بالمهمة بعدما رسم لها خارطة من ذاكرته عن المكان والطريق الذي سلكه مع تعليمات محددة لالتقاط الصور المحفورة بذاكرته.
يطرق العراقي فاضل العكرفي والفلسطيني عيس ديبي باب مواضيع كثيرة وحساسة، من ضمنها الألم والحروب والذاكرة الشخصية والجماعية، لفتحها على مصراعيها. وعلى الرغم من العدد القليل نسبياً للمعروضات إلا أنها تأخذ الزائر إلى تلك العوالم الشخصية فلا يكاد يشعر بالزمن ويذهلنا هذا الكم من الألم الذي يعبر عنه كل من الفنانين بصوت منخفض، لكنه يصفع في الصميم بتأثيره وقدرته على التعبير عن جرح عربي بلا قرار، من فلسطين إلى العراق.
* عن الأخبار اللبنانية