لم تقتصر آثار الثورة العربية على مفاعيلها السياسية المباشرة التي تمثلت في تغيير أنظمة الاستبداد، بل ألقت الضوء على أشكال ثقافية وفكرية جديدة، انبثقت على هامش الثقافة السائدة، ثقافة السلطة والخطابات القائمة التي تشكلت في الحقل الدلالي والإيديولوجي لـمجتمع النخبة، الذي تشكل منذ الستينيات في ظل مرحلة الاستقلال الوطني، وأسس شرعيته على أساس مفهوم الشرعية التاريخية بمختلف مرجعياتها الوطنية والانقلابية والإسلامية.
أهم إنجاز ثقافي للثورة العربية أنها كشفت عن انبثاق نخب ثقافية جديدة تشكلت خارج سلطة نسق النماذج القائمة، تشتغل بأدوات جديدة متحررة من النموذج الفردي، القائد الأوحد (الزعيم التاريخي في قيادة الحزب، الحاكم الأبدي، الشيخ في القبيلة، الأب في الأسرة).
لقد كشفت الوسائط الثقافية الجديدة عن فجوة عميقة تفصل الأجيال الجديدة عن جيل النخب القديمة، تلخصها بكثافة شاعرية نوستالجيا الصورة المرئية، لذلك الرجل التونسي التي احتلت مشهد الفضائيات العالمية وهو يردد بدموع تاريخية هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية. ما تعودت عليه النخب القديمة من سلطة وتكيف مع ثقافة النظام القائم في ضوء شروط اللعبة القائمة، لم يعد الشباب قادرا على القبول بقواعدها. بالنسبة لهم انتهت اللعبة، استراتيجية الحكم بالتخويف. وفي الخروج على هذه الاستراتيجية استند الشباب الى وسائط جديدة وعلى تنظيمات مغايرة وعلى هوية جديدة تمثلت في وسائط الفيسبوك والشبكات الاجتماعية الجديدة. استبدل فضاء التواصل المألوف بفضاء الشبكة العنكبوتية الذي ينتهك أنظمة الرقابة التقليدية. فضاء لا محدود للتواصل، ويمتلك قدرة خارقة على تبادل المعلومات وعلى بناء علاقات وتجمعات خارج أنظمة الاستقطاب الإيديولوجي. داخل هذا الفضاء ـ الافتراضي، فضاء الانتشار سيكتسب الشباب هويته الجديدة التي لا تعترف بالحدود .
في ضوء هذا السياق الثقافي الجديد الذي دشنته ثقافة المعلوميات يمكن أن نؤطر مواقف المثقفين العرب تجاه موضوع الثورة في ثلاث مجموعات:
مثقف السلطة الذي وجد نفسه بحكم ارتباط مصالحه بالسلطة يدافع عن النظام حتى أنفاسه الأخيرة. هذا المثقف قيد نفسه في مشهد كاركاتوري، أشبه ببغاء، وهو يردد الرواية الرسمية للنظام الذي لم ير في ثورة الشعوب سوى مؤامرة خارجية بأيدي مجموعات محلية مخربة (القاعدة، الإرهاب). بدون أدنى حس بالمسؤولية تنازل مثقف السلطة عن نظام المعرفة في استقصاء الحقيقة والتحيز لمبادئ الحرية، وانخرط في لعبة السلطة، بل تحول إلى موظف في وزارة الداخلية ينطق بلسانها ويردد بياناتها.
في سياق مأدبة المديح التي تفنن فيها هذا المثقف، ينبثق سؤال أخلاقيات المعرفة التي تقيد دور المثقف بالمسؤولية الأخلاقية في الالتزام بمعايير الحرية والحقيقة والمعرفة. وحين يدوس المفكر على هذه المعايير يفقد شرعيته ومصداقيته.
المثقف النقدي، وجد نفسه منذ البداية بحكم وظيفته المعرفية النقدية ملتزما بحرية الشعوب، لذلك انخرط في صيرورة الثورة من موقع أخلاقية المعرفة، حيث تمثل دوره في إلقاء مزيد من الضوء على مشروعية الثورة، بغاية تأكيد أصالتها من مداخل فكرية متعددة، سوسيولوجية واقتصادية وثقافية. ولقد كانت هذه المهمة الفكرية حاسمة في مواجهة آلة الدعاية الرسمية التي انخرطت بكافة وسائلها الضخمة في تشويه صورة الثورة، بنزع الشرعية عنها. في مقابل استراتيجية التعتيم والتضليل اشتغلت مهمة المثقف التنويري كاستراتيجية مضادة بهدف التنوير وكشف الحقيقة.
إلى جانب ذلك، أطاحت الثورة العربية بمفهوم المثقف الأكاديمي الذي يجرد المعرفة من سياقها التاريخي، بإقامة منطقة عازلة تفصل بين المعرفة والسياسة والتاريخ. ينطلق هذا النموذج المثالي من ديالكتيك (جدل) مؤسس على منطق وهمي يجرد المعرفة بإلغاء دور المفكر، إذ يعتبر حقل المعرفة مغلقا ومستقلا، معزولا عن ديناميات الواقع. ينتهي هذا النموذج المثالي بإلغاء عقل المجتمع لصالح عقل نخبوي متواطئ مع الأوضاع القائمة، ولكنه لا يجد حرجا أخلاقيا في الاستفادة من امتيازات الوضع القائم الاجتماعية والثقافية المؤسسة على حرمان ومعاناة الشعوب.
بالإضافة إلى هذه النماذج الكلاسكية، كشفت الثورة عن نموذج ثالث، نسميه بالمثقف الجمعي الميداني بمفهوم أوسع من مفهوم بورديو ليشمل ليس فقط الأفراد الذين يشكل جماع أبحاثهم ومشاركتهم في مواضيع بحثية مشتركة نوعا من وحدة تعاونية، بل أيضا النخب الميدانية التي لا تقيد تدخلها الاجتماعي بإيديولوجية النظرية، وتشتغل في ميادين أوسع من ميدان الثقافة العالمية، حيث تتخطى الفصل المثالي بين النظرية والممارسة، بين النخبة والشعب، بين المفكر والمواطن العادي. هذا النموذج الدينامي بديل لمفهوم المثقف الأكاديمي وأيضا لمفهوم المثقف الكبير الذي هو بمثابة شيخ مفكرين يتمتع بموارد فريدة لفكره المتميز، أو بواسطة ناطقين رسميين باسم جماعة أو مؤسسة يفترض أنها تتكلم باسم أولئك الذين لا صوت لهم أو نقابة أو حزب. هنا يستطيع المثقف الجمعي.. أن يلعب دوره الذي لا يعوض بالمساعدة على توفير ظروف اجتماعية من أجل الإنتاج الجمعي للطوباويات الواقعية.
في ميدان التحرير سقطت الإيديولوجية النخبوية التي ترى أن النظرية هي بالضرورة تلك اللغة النخبوية التي يلهج بها أصحاب الامتياز الاجتماعي والثقافي، وأن المفكر هو الذي يحق له وضع استراتيجيات التغيير، بل على العكس أثبت ميدان التحرير أن أشكال التمرد والتحريض الشعبيين غالبا ما تكون أشد هدما وخرقا حين تبدع عبر ممارسات ثقافية معارضة.
تجسدت هذه الفاعلية التاريخية في جرأة مطالب الشباب التي تجاوزت سقف مطالب النخبة السائدة المنضوية في قواعد اللعبة، كما تفرضها شروط السلطة. وفي هذا الانتهاك كانت النخب الجديدة، تكشف عن نخب جهوية تعيش على هامش المركز، لكنها بدت أكثر فاعلية وجرأة من النخب القيادية في المركز. في الحالة التونسية لعبت النخب النقابية المحلية والجهوية التابعة للاتحاد العام للعمال دورا متقدما في الالتحاق بالثورة في بدايتها بالمشاركة فيها ودعمها، مما أعطى زخما عماليا شعبيا للثورة، في حين ظل موقف القيادة المركزية للاتحاد العام ملتبسا، بل إنه في البداية تنصل من الاضرابات التي تدعو لها النخب المحلية، ولم يلتحق بالثورة إلا بعد أن شقت طريقها نحو النصر. هذه التجربة التونسية استفادت منها الثورة المصرية، حيث لاحظنا التحاق هيئات المجتمع المدني، أطباء، محامين، إعلاميين، نجوم سينما، مهندسين، منذ البداية بالثورة، ورأينا كيف تحول ميدان التحرير إلى مجتمع داخل مجتمع. مجتمع بديل لمجتمع السلطة، يعيش زمنية الثورة والحرية، تسقط فيه الحدود بين النخبة والعامة، بين العمل الفكري والعمل اليدوي، بين الهلال والصليب. الكل يتعاون في زمنية الثورة ويساند بعضه البعض من أجل ضمان قوة الدفع المعنوية والروحية للثورة. رأينا مشهد الأطباء وقد حولوا الخيام بميدان التحرير إلى مستوصفات لعلاج الجرحى، وبعض الخيام تحولت إلى ورشات إعلامية تنقل يوميات الثورة إلى العالم. ورأينا كيف كان يتناوب على تنظيف ميدان التحرير المهندس والعامل البسيط والفلاح والطبيب، الرجل والمرأة، بدون تمييز وبدون اعتبارات تراتبية. كنا أمام روح واحدة، روح الثورة التي تهدم ثقافة السلطة، وتفكك ذلك" التمييز المبتذل بين النظرية والممارسة لمصلحة وحدة جديدة بين الاثنين، فكرةعن العمل الفكري الملموس."