خلال سنوات تألقه السياسي، وقبل أن تسحبه أزمة اﻻقتصاد اﻻسباني إلى قعر شعبيّته وآماله، راهن ثاباتيرو، رئيس الوزراء اﻻسباني، على إنشاء ودعم ثبات ونمو "اﻻتحاد من أجل المتوسّط"، فاستضاف في برشلونة اجتماعات اﻻتحاد التأسيسيّة وعمل جاهداً على اتخاذ ذات المدينة مقراً للمنظمة الوليدة. كانت السياسة الخارجيّة اﻻسبانيّة بحاجة للانعطاف نحو إطارٍ مغاير لذلك الذي اختاره أثنار، رئيس الوزراء السابق، بعلاقته الذيليّة بإدارة بوش ودعمه لغزو العراق عام 2003، ووجد الحزب اﻻشتراكي الحاكم في مشروع إقامة منظمة تجمع الدول الأوروبيّة والدول العربيّة المطلّة على البحر المتوسط فكرةً مقبولة لدى القاعدة الشعبية لليسار الاسباني، لكن الأزمة اﻻقتصادية الخانقة التي ظهرت لتجثم على صدر أغلب الدول الغربية بشكل عام واسبانيا بشكل خاص، بالإضافة إلى خلافات سياسيّة خاصة بموقف الحكومات العربيّة من مشاركة إسرائيل في المنظمّة أدّت إلى تجميد المبادرة حتّى إشعار آخر، أو إلى غير عودة.
لم يغب الفتور الذي قوبل به مشروع اﻻتحاد على المستوى الشعبي عن أنظار المحللين، فرغم الكلام الجميل عن التضامن والتعاون بين ضفتي المتوسّط كان هناك حقيقتان واضحتان لم يكن هناك أدنى اعتقاد بأن هذا المشروع سيكون علاجاً لهما، بل على العكس، بدا منذ اللحظة الأولى وكأنه مجرد تجميل أو إعادة إنتاج لشكل هذا الواقع الثابت. الحقيقة الأولى هي أنه ليس هناك مفهوم سياسي واقتصادي واحد لحوض المتوسّط، بل أن هناك شمالاً غنياً وجنوباً فقيراً، والمتوسط بينهما يشكّل أحد أكثر الحدود إشكاليّة في العالم، إلى جانب حدود الولايات المتحدة مع المكسيك، فيما يخص موضوع الهجرة، والثانية هي الخاصة بسجل أغلب دول جنوب وشرق المتوسط بما يخص الديمقراطيّة وحقوق الإنسان، فقد رأى المنتقدون أن اﻻتحاد ليس إﻻ إطاراً يغسل ويلمّع صورة علاقة ديكتاتوريي شمال أفريقيا بأوروبا، والتي تعنى بجوانب اقتصادية تحضر فيها النخب الاقتصاديّة التي أفرزها فساد الأنظمة العربيّة من جهة، وجوانب أمنية تخص مكافحة الإرهاب و الهجرة "غير الشرعيّة" ليس للحساسيّات الخاصة باحترام حقوق الإنسان مكانٌ فيها من جهة أخرى.
مالم يتوقّعه ثاباتيرو، ولم يتوقّعه أحد، هو أن يظهر اﻻهتمام الشعبي بالمتوسّط كإطار تواصل في سياقٍ مغاير تماماً لذلك الذي عمل من أجله، بل في سياق مضاد واحتجاجي على منتجي السياق الأول. نقصد اﻻحتجاجات الشعبيّة (الشبابيّة خصوصاً) القائمة حالياً في اسبانيا، والتي بدأت في الخامس عشر من مايو (أيار) الماضي مطالبةً بـ "ديمقراطيّة حقيقيّة الآن!” وأخذت منذ ذلك الحين منحى تصاعدياً يقف ضد الأزمة التي تعاني منها كل جوانب الحياة العامة اﻻسبانيّة، مثل أزمة التمثيل السياسي وانخفاض الثقة بالطبقة السياسيّة، ونسب البطالة العالية جداً، خصوصاً في الفئات الشبابيّة، واستهداف اﻻنفاق العام من قبل السياسات اﻻقتصادية التقشفيّة، ما يؤثر بشكل سلبي للغاية على آليات الدولة لحماية الحد الأدنى من العدالة الاجتماعيّة. تلاقت اﻻحتجاجات في اسبانيا مع احتجاجات قطاعات واسعة من الشعب اليوناني ضد السياسات اﻻقتصاديّة التقشفيّة التي يفرضها اﻻتحاد الأوروبي على بلادهم مقابل تقديم المساعدة الماليّة للاقتصاد اليوناني المنهار في توجيه إصبع الاتهام نحو دوائر صنع القرار السياسي واﻻقتصادي في القارّة العجوز ورفض توجهات وقرارات هذه الدوائر، حتى لو أدى هذا الرفض إلى الخروج من الأطر اﻻقتصاديّة الأوروبيّة الموحّدة.
ليس القول بأن اﻻحتجاجات اﻻسبانيّة أو اليونانيّة لها نفس القراءة المستخدمة في الربيع العربي صحيحاً وﻻ منصفاً، فلا المشكلات هي نفسها وﻻ المطالب متشابهة وﻻ تعامل أجهزة الدولة مع المحتجين الاسبان أو اليونانيين له علاقة مع ما يحدث في الدول العربيّة، لكنّ أوجه الشبه فيما يخص الجانب الرّمزي والإطار الإيديولوجي والعمليّاتي موجودة بما يكفي لتكون مرئيّة، والطريقة التي ظهرت فيها اﻻحتجاجات وتصاعدت وعبّرت عن نفسها هي مثالٌ بارز عن أوجه الشبه والتلاقي.
بدأت احتجاجات "ديمقراطيّة حقيقيّة الآن!” عندما نظّمت مجموعات شبابيّة، باستخدام وسائط الإعلام الاجتماعي بشكل أساسي، مظاهرات متزامنة في أكثر من خمسين مدينة اسبانيّة في الخامس عشر من أيار (مايو). فاقت المشاركة الشعبية في المظاهرات كلّ التوقّعات، ما شجّع مجموعة من المتظاهرين في العاصمة الاسبانيّة مدريد للتوجّه نحو ساحة "سول" الرئيسيّة والاعتصام فيها بشكل مفتوح، وقامت محاولة الإخلاء التي تعرّضوا لها في اليوم التالي بدور مكبّر الصوت أو مسرّع اﻻشتعال، والذي جعل الآﻻف يهرولون لاحتلال الساحات الرئيسيّة لأكثر من ستّين مدينة والاعتصام فيها. استمرت الاعتصامات، التي تحوّلت إلى مخيّمات في الساحات، عدّة أسابيع قبل أن يقرر المنظمون رفعها، بعد أن قامت بمهمتها في ترسيخ الخطاب اﻻحتجاجي وتوفير الذخر الرّمزي، والاهتمام بوسائل وطرق احتجاجيّة أخرى مثل اﻻجتماعات في الأحياء الشعبيّة والمظاهرات الدوريّة والتصدّي لتنفيذ الأحكام القضائية بإخلاء البيوت والشقق السكنيّة المُصادرة لصالح البنوك بسبب عجز أصحابها عن دفع أقساط القرض العقاري بسبب فقدانهم لعملهم أو أي سبب آخر له علاقة بالأزمة اﻻقتصاديّة.
كان العلم المصري أحد أوائل الأعلام التي ارتفعت في اعتصام ساحة "سول"، كما ظهرت الكثير من اللافتات والشعارات المتضامنة مع اﻻنتفاضات العربيّة بشكل عام والمصريّة بشكل خاص، وهذه الخصوصيّة لها علاقة بالتغطية الإعلامية الكبيرة التي نالتها الحالة المصريّة نتيجة تسليط الأضواء عليها منذ أول يوم وأيضاً بالرمزيّة التي اكتسبها ميدان التحرير خلال أسابيع الثورة المصريّة. سمّى معتصمو ساحة "سول" جزءاً من ساحة اعتصامهم باسم "التحرير"، وتبادلوا رسائل التضامن والبيانات ومقاطع الفيديو مع المتظاهرين في ساحة "سينتاغما" في أثينا ومع ميدان التحرير خلال أيام "المليونيّات" التي احتشدت في ميدان التحرير للمطالبة بتسريع وتيرة التغييرات، وأقيمت عشرات النشاطات التعريفيّة بالانتفاضات العربية والوقفات التضامنية معها في أغلب ساحات اﻻعتصام اﻻسبانيّة. كان من الواضح، رغم اختلاف الواقع، أنّ هناك شعوراً رومانتيكياً بالهدف الواحد: البحث عن مستقبل أفضل.
لا تقدّم الطبقة السياسيّة في دول جنوب أوروبا الغارقة في أزمات اقتصاديّة مثل اليونان واسبانيا والبرتغال خيارات كثيرة لإصلاح الأوضاع، وجميعها ليست إﻻ صيغاً، ملطّفة أو مشددة، لحلول نيوليبراليّة قائمة على إنقاذ النظام المصرفي دون مساءلة أو محاسبة باستخدام المال الذي يُسحب من أدوات ضمان العدالة اﻻجتماعيّة، وهذه الحلول مرفوضة من قبل القطاعات اﻻجتماعيّة المحتجّة، الشبابيّة منها خصوصاً. هذه الحلول هي نفسها التي أوصلت إلى هذه المشاكل حسب خطابهم، وﻻ يمكن، بذخرهم الإيديولوجي والأخلاقي ما بعد المادي والقائم على رفض سلطة المال والانحياز للمصلحة اﻻجتماعيّة، إﻻ أن يحتجّوا عليها ويتضامنوا مع من يحتج على أوضاع مشابهة، أكان الشبه قليلاً أو كثيراً. يرفضون منطق "اللهم نفسي" كما رفضه شباب الرّبيع العربي، الذين لم يتوقفوا، رغم أن أغلبهم عاش منذ ولادته أسير خطاب الأنظمة العربيّة الشوفيني والمعادي لكل ما ليس "الوطن" ( والوطن هنا يُختصر بالنظام الحاكم وزعيمه)، عن إظهار تضامنهم مع نظرائهم في دول عربية أخرى، وتبادلوا التضامن والتحيّة عبر البحار مع آخرين من دول وقارّات ولغات مختلفة. لقد حققت إرادة "الغاضبين" ما لم تحققه حكومات وأنظمة أكثر من ثلاثين دولة، وهذه الإرادة مرشّحة لكي تحقق ما هو أكثر خلال الأسابيع والشهور المقبلة.