كابوس دمشـق وســماواتها: يوميات سورية

[??? 2012 ???? ?????? ?.?] [??? 2012 ???? ?????? ?.?]

كابوس دمشـق وســماواتها: يوميات سورية

By : Hoshang Waziri هوشنك وزيري

العودة إلى الشام

14  آب/أغسطس 2011 

وقفتُ في الدور قلقاً بعض الشيء. لطالما أثار فيَّ مطارُ دمشق، أنا الكردي العراقي بجنسيتين عراقية وأخرى أمريكية مع اسم عليّ أن أردده أكثر من مرة قبل ترجمته، خليطاً غريباً من مشاعر التوجس والقلق وصولاً إلى الخوف. تُعتبر المطارات واجهة مصغرة لمدنها وهي بمثابة بوابتها التي تمنحك نكهة روح المدينة. مثّلَ مطارُ دمشق بالنسبة لي بالوجوه العابسة لضباطه وشرطته غرفة تحقيق هائلة وظيفتها بث القلق والخضوع  استعداداً للدخول الى فضاء المدينة العام.   

وقفتُ في الصف حاملاً حاسوبي المحمول منتظراً دوري لكي يختم الشرطي جوازي. بدأت أتمرن على إجابات وأنا أحاول التهيؤ لمواجهة عاصفة من الأسئلة المستحيلة. قبل سفري مغادراً المدينة كنت قد شُحنت بقصص تم نسجها في فضاء الرعب حول كيف أن شرطة مطار دمشق تطلب من صحفيين أو كتاب، خصوصاً المغادرين، فتح حواسيبهم المحمولة لتبحث عن صور أو مقاطع فيديو بل وتطلب منهم في بعض الأحيان فتح صفحاتهم الشخصية على موقع الفيسبوك. ومن هنا جاءت النكتة التي كان يتداولها بعض السوريين عن أن ضابطاً في المطار سأل أحد المسافرين من الذين كانت تتدلى من على أكتافهم حواسيب محمولة: تعا لهون شو معك؟ انترنيت لو الفيسبوك؟ فما كان من المسافر وهو يعرف مدى خطورة الفيسبوك، الذي يعتبر أحد المتهمين البارزين بإشعال حركات الاحتجاج في الأوطان العربية، إلا أن يرد: ما معي الفيسبوك سيدي بس معي انترنيت. 

كان في الدور أمامي رجل وزوجته، أجنبيان من الجنسية الكندية، وحين قدما جوازهما إلى الشرطي حاول الرجل ان يسأل الشرطي سؤالاً باللغة الإنكليزية لكنهما لم يستطيعا أن يتفاهما فتقدمتُ للترجمة بعد أن سألني الشرطي إذا ما كنت أعرف اللغة الإنكليزية. بعد أن أتممت الترجمة له نظر إلي الرجل الكندي وقال بصوت عال ضاحكاً: "قضيتُ أربع سنوات في هذا البلد ولكن ربما سيكون يوم غد مختلفاً”. أجبْته هامساً مبتسماً "أتمنى ذلك." أعطيتُ الشرطي جواز سفري وباستثناء الاستفسار عن مكان إقامتي لم يسألني سؤالاً واحداً وحين سلمني جوازي قال بصوت خافت "ما بدك تكارمنا؟" لم أفعل متحججاً بعدم امتلاكي العملة السورية. هكذا ولأول مرة أدخل إلى "الجمهورية العربية السورية" بهذه السرعة والسهولة ودون إعطاء مكرمة.. 

دمشق تبدو هادئة

كان هذا انطباعي الأول لحظة وصولي إلى المدينة التي غبتُ عنها أقل من شهرين. رؤية أولية لظاهر المدينة تقترح أن كل شيء يبدو هادئاً في عاصمة تحاول جاهدة أن تتظاهر بعادية وطبيعية الأمور فيها وعدم اكتراثها بما يحدث من حركات احتجاج ومظاهرات ضخمة على أطرافها القريبة. فعلى بعد كيلومترات معدودات كانت دوما ومعضمية الشام وداريا وبلدات اخرى تنام وتصحو على قتل أبنائها وحملات الاعتقالات العشوائية والقنابل والرصاص. لكن سرعان ما يزول الانطباع العادي هذا عن دمشق  بمجرد أن تتمشى من ساحة السبع بحرات إلى تمثال يوسف العظمة في ساحة المحافظة لتكتشف خلال بضعة مئات الأمتار هذه كماً هائلاً من عناصر المخابرات الذين تم دفعهم إلى كل زوايا الشارع بالإضافة إلى ازدياد نقاط التفتيش التي بدأت تقطع أوصال دمشق عن ضواحيها. كان الرعب واضحاً على وجه السلطة التي كانت قد باشرت بدورها تدشين استعراض الرعب وبث القسوة في شوارع المدينة. 

حوالى منتصف الليل رأيت س (في مكالمة حديثة طلب مني س إخفاء هويته) وهو شاب من محافظة الرقة يسكن دمشق. كنت قد التقيت به قبل سفري مع شباب آخرين كان بعضهم من المنظمين الأساسين لتظاهرات الشعلان وساحة عرنوس وساحة المحافظة وتظاهرات طيارة أخرى داخل مدينة الشام. تم اعتقال س وهو يعاني من مرض القلب (ارتفاع التوتر الشرياني) بالرغم من أنه لا يتجاوز العقد الثاني من عمره، في أواخر شهر نيسان أثناء مشاركته في مظاهرة ساحة عرنوس بقلب دمشق حيث تم تعذيبه بشكل متواصل لمدة أربعة أيام. في اليوم الأول من اعتقاله في فرع أمن الدولة بالطلياني صادر عناصر الأمن أدويته مما أدى الى ارتفاع ضغط دمه، لكن أعيدت له الأدوية في اليوم التالي بعد ان بلغت حالته الصحية وضعاً حرجاً كاد أن يودي بحياته. تم نقلهم بعد يومين إلى إدارة المخابرات العامة داخل المربع الأمني حيث القسوة أكثر كثافة وشدة. وهناك صودرت منه الأدوية مرة أخرى ولم تعاد له بالرغم من تدهور وضعه الصحي بشكل في غاية السوء. كان س قد عاد من محافظة الرقة قبل يوم من لقائي به غاضباً محبطاً بعض الشيء من بعض الأهالي هناك الذين "يستغلون النازحين بشكل فاضح" حسب قوله. هؤلاء النازحين يلجأون إلى الرقة هاربين من جحيم القتل والاعتقالات في دير الزور ومدن أخرى تشهد عاصفة الثورة "يؤجر بعض أهالي الرقة البيوت والغرف بسعر أكثر من مضاعف للنازحين والفارين من ديرالزور" قال س بنبرة فيها الكثير من الغضب والخيبة. بل والمؤلم أكثر من هذا "هو وصمهم من قبل البعض بانهم أهل المشاكل ويستحقون ما حدث لهم وإلا فلماذا يخرجون ويتظاهرون؟" كان أحد معارف س يؤجر بيته بأقل من عشرة آلاف ليرة سورية قبل نزوح أهالي ديرالزور إلى الرقة، لكن بعد دخول أفواج النازحين إلى المدينة بدأ يطالب بأكثر من عشرين ألف ليرة.

ليلة 18  آب / أغسطس 

خرجت تظاهرة ليلية من عدة مئات الأشخاص أمام جامع أبو أيوب الأنصاري في حي الميدان. بدأت الهتافات بالتكبير ولا اله إلا الله لتنتقل بعدها إلى اطلاق شعار يجمع الوطن والله مع بعض حين صار الجمع يهتف "قولوا الله قولوا الله هاي سوريا مو حي الله."  لكن فجأة  وبعد عدة دقائق من الله وتكبيراته بدى الحماس والغضب اللذان هتفت الجموع بهما شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" أكثر نشوة وأكثر عمقاً في صدقيته من الشعارات الأخرى ومن ضمنها التكبيرات والهتافات الإسلامية والتي إذا ما قورنت بصيحات الإسقاط الغاضبة التي كانت يطلقها الحشد لبدت أكثر إنشائية ومونوتونية الصوت.    

- لي ما بتروح و تهتف معهم؟ 

كنت واقفاً على الطرف الآخر من الشارع أراقب من بعيد، حين التفتُ إلى مصدر الصوت الذي كاد أن يكون همساً من شدة خفوته رأيت أبو سعيد واقفاً إلى يميني. كنت قد التقيته مرتين أو ثلاثاً في ساروجة حيث كنت أقيم قبل أشهر. يقترب أبو سعيد من السبعين في عمره لكنه لازال يملك وجها طفولياً جميلاً مليئاً بالتجاعيد.

- يالله امشي معي.

اقتربت منه وهمست في أذنه خوفاً من أن يسمعني أحدهم "عم يكبروا وعم يهتفوا الله الله وأنت شيوعي شو دخل الشيوعيين بالله يا أبو سعيد؟"

رفع سبابته ووجهها نحو النساء والصبايا اللواتي كن يسرن خلف الجموع ويهتفن بكل حرقة بإسقاط النظام "أنا الآن أكثر الناس إيماناً بهذا الله الذين يهتفون له."

 وبعد أن اندس أبو سعيد بين الجموع فكرت بأدونيس وجدلية الجامع والثورة متسائلاً مع نفسي هل هناك فضاء مثالي تنطلق منه ثورة مثالية؟ كان فضاء الجامع هو الفضاء الاجتماعي الوحيد الذي بقي متاحاُ ونشطاً للجميع ولتجمعاتهم بحرية تامة بعد إغلاق الفضاءات العامة الأخرى في دولة الأسد أو الهيمنة عليها وبعثنتها كلياً.

بعد عدة أيام التقيت بالصديق الشاعر السوري (م.ع) في شارع العابد. كنت متلهفاً لمعرفة رأيه فيما يحدث. عبر عن اعتقاده بوجود أياد خارجية وراء الحركة الاحتجاجية، كما قال بوجود مسلحين داخل المظاهرات يقتلون القوات الأمنية "وإلا كيف يموت الجنود وعناصر الأمن خيو؟" سؤاله الذي بدا تكراراً فجاً آلياً لكلام المحللين السلطويين من أمثال د. طالب ابراهيم وأحمد الحاج علي وشريف شحاده لم يغرني في دخول النقاش معه لكنني قلت له بنوع من الشرود: "بس عم ينقتل العشرات والعشرات من المتظاهرين كل جمعة بل وكل يوم”. رد علي م. قائلا "هناك متظاهرين بس في مسلحين كمان." وحين سألته عن رأيه في المدة الزمنية التي من الممكن أن تستغرقها الأزمة قال بتفاؤل كله ثقة بالذات:”هناك سيطرة على الأوضاع باستثناء بعض المناطق الجنوبية ولكن ثق أن الأمر سينتهي قريباً." أفزعني هذا التفاؤل بالنصر القريب الذي يهيمن على رؤية الطرفين ويتشبثان به، التفاؤل الذي لم يكن سوى علامة مبكرة على أن الوضع سيستغرق سنوات دموية قاتمة. لكن ما أرعبني أكثر هو الشرخ الذي كان يتعمق يوماً بعد آخر في النسيج المجتمعي الذي لم يتورع عن الإعلان عن ذاته جهاراً عبر اللجوء السريع للناس نحو هوياتها الصغيرة والانكفاء داخلها. بعد يومين من عودتي جوبهت بأول سؤال طائفي من صديق كان يسكن في جوبر "زوجتك السورية سنية؟" بينما لم يتورع مثقف آخر عن تصريح طائفي مقيت وهو يحاول شرح الوضع لي بلغة مليئة بسخرية طائفية مقيتة: "أهل دوما لا يصلحون للثورة بل لزراعة الزيتون والبطاطا. لك حتى زيتونهن محجب يا أخي".

اعتقال مطر

4 أيلول/سبتمبر

رأيته يوم أمس يعلن عن نفسه جهاراً وهو يتأبط ذراع حبيبته في شارع الصالحية. كان هناك تحدي واضح في مشيته وضحكته التي كانت تملأ المكان هو الذي يبرع في إتقانه فن التحدي والاستفزاز. كان متيقناً أن السلطة تبحث عنه لكن ومع ذلك كان بارعاً في الاعلان عن نفسه في وضح النهار وفي قلب دمشق متحدياً الدولة وكتبة تقاريرها ووشاتها: الناشط عامر مطر تم اعتقاله اليوم للمرة الثانية.

11 أيلول/سبتمبر

بينما كنت أقوم بمعاملة إقامتي في دائرة الهجرة والجوازات في البرامكة دخلت إلى غرفة من أجل توقيع لكن الشرطي أمرني بالانتظار عند الباب. كانوا منشغلين بامرأة آسيوية جميلة تجلس معهم متحدثة بعربية منكسرة. قالت لهم المرأة " شفت مظاهرة في التلفزيون.." وهنا حين سمع عناصر الشرطة كلمة المظاهرات بدت علامات الاستفزاز واضحة على وجوههم. قاطعها أحدهم مباشرة قائلاً :”هؤلاء لا يتعدون عشرة أو خمسة عشر شخصاً وسنفرمهم تحت صبابيطنا." لا أدري ان كانت المرأة الآسيوية التي كانت بالكاد تتحدث العربية فهمت "سنفرمهم" و"صبابيطنا" لكنها بدت غير مكترثة بما كان العناصر يتسابقون في قولهم لها. "شفت مظاهرة ولافتة تقول ان الصين تز تز باد باد وشفتهم حرقوا العلم الصيني. انا بخاف كتير اذا سألني واحد بالشارع من وين أنا لن أقول من الصين سأقول لهم انا من الفلبين!" 

22 أيلول/سبتمبر

كان شون مكالستر قد عاد قبل حوالى أسبوع ليكمل فلمه الوثائقي "قصة حب سورية" عن عامر داوود ورغدة حسن واستأجر بيتاً في حي ساروجة. تعرفت على شون وهو مخرج وثائقي بريطاني في 2010 في دمشق. توطدت علاقتنا حيث أصبحتُ جزءاً من عملية إنتاج الفلم منذ بداياته. لكن علاقة الصداقة هذه لم تخلُ من تعرجات ومنعطفات عاصفة كادت أن تودي إلى القطيعة لأكثر من مرة. 

التقيت بعمر البغدادي والناشط الكردي في مجال الأمن الإكتروني دلشاد عثمان ليلة الخميس في 22 أيلول في ساروجة في بيت شون. عمر شاب وسيم يبدو في أواسط العشرينيات من عمره وهو أحد الشباب الناشطين البارزين من منظمي التظاهرات في مدينته دوما. بدا وهو يتحدث عن الثورة وكأنه عهد نفسه كليا لها. تحدث عن مخططه لحرق علم البرازيل في مظاهرات يوم الجمعة مع دعوة صحفي برازيلي لتصوير عملية حرق العلم. قال عمر وهو يروي قصص التعذيب التي تعرض لها رفاقه في سجون الدولة إنه يفضل أن يردى بالرصاص أو أن يطلق النار على نفسه على أن يتم اعتقاله. حين سألته عن المظاهر المسلحة التي بدأت الثورة تكتسبها في بعض المناطق من ضمنها مدينة دوما قال إنه لا يفصح لأي صحفي أجنبي بأنه هناك ناس يحملون الأسلحة للدفاع عن أنفسهم. "هناك ناس ينتقمون من ضباط أمن وشبيحة الذين قتلوا أخوتهم أو آباءهم او أبناء عمومتهم أو أي أحد من العائلة، ولكن عليك أن تعرف أن دوما مدينة إسلامية سنية حنبلية محافظة ومتدينة جداً تعتبر قتل النفس البريئة من الكبائر ولهذا لا يتم قتل أي شخص إلا حين يتم التأكيد أن الهدف قاتل بالفعل. نعم هناك ناس يأخذون بثأرهم ولكن ليست هناك جماعات مسلحة منظمة." 

جمهورية الخوف

26 أيلول/سبتمبر 

في حوالى الساعة الثامنة مساء من ليلة 26 اتصل صديقي رياض نعمة وقال بصوت مرتجف قليلاً: "لا تذهب الى صديقك في حي ساروجة." لم أفهم ما يقصده فقلت له تعال إلى البيت. بدت علامات الاضطراب والخوف على وجهه 

- أبو موسى قال لي إن رجال أمن سألوا عنك.

- مجرد أسئلة أو يطلبونني؟

- أعتقد مجرد أسئلة من قبيل من أنت و شتشغل، أشياء من هذا القبيل. 

تناقشنا أنا ورياض في تلك الليلة، ووصل الأمر إلى ملاسنة متوترة حادة بيننا. رياض كان أكثر مراعاة للوضع الأمني مني وهو بالرغم من شيوعيته وإعلانه الإلحاد بدا أنه يفضل أن "يمشي الحيط الحيط ويقول يا ربي السترة". بعد نقاش منهك نظر إلي وكأنه تعب من كثرة التوتر والصراخ قائلاً: "يا أخي أنا أؤمن بالمثل الذي يقول إن للجدران آذاناً. لقد تعلمت أن اعيش هكذا في العراق البعث وأعيش هنا في سوريا البعث هكذا. ثم أنا ليس لي أي جواز أجنبي أو أي مكان أذهب إليه" فهمت ما يقصده تماماً لكنني لم أحاول أن أقول له إن الجواز الذي تلمح إليه سيكون نقمة مرعبة عليّ في حال حدوث أي شيء. 

لكن أثبت لي مازن ربيع في وقت متأخر من الليلة نفسها ونحن جالسون في مطعم نينار في باب شرقي صواب خوف رياض ومنطقه الحذر ونظريته بأن في دول شمولية قاسية مثل سوريا الأسد وعراق صدام ليس فقط  للجدران آذان بل حتى للشوارع والأرصفة والسرافيس والطاولات والكراسي في المطاعم والبارات آذان وعيون وأنوف ترى وتسمع وتشتم كل ما يقال وما يحدث أو ما سيحدث وتنقلها إلى الدولة معلومة معلومة. 

 كان مازن قد اعتقل مع علا رمضان وعامر أبو حشيش وبيسان جاسم في تموز وهم في طريقهم إلى بيروت. قضى خمس ليال وستة أيام في سجن فرع كفر سوسة لكن دون أن يتم تعذيبه. روى مازن كيف واجهه المحققون بتفاصيل كلام قد قاله في جلساته مع أصدقائه في مطعم نينار، بل أنهم واجهوه بحكاية السرفيس الذي أوقفه الشباب بعد منتصف إحدى الليالي أمام مدخل باب شرقي وسألوه ما الذي كان يعنيه بسرفيس الحرية؟ ذات ليلة بعد أن خرج مازن وأصدقاؤه من مطعم نينار حث مازن أصدقاءه أن يسرعوا الخطى قليلاً "يالله شباب سرفيس يرموك- كراجات واقف." كان هناك شابان خلفه مباشرة فلاطفهم مازن "تفضلوا باشباب" فرد عليه أحد الشابين بملاحظة في غاية الطائفية قائلاً "هادا سرفيس سنة- كراجات" بينما هما ينتظران سرفيس "علوية- كراجات." وكان يقصد منطقة التضامن- عسالي. حينذاك ترجل مازن من السرفيس (الباص الصغير) بعد أن كان قد صعد إليه واقترب من المقدمة رافعا يده اليمنى وهو يشير إلى العلامة الضوئية المكتوبة ويقول لهما بلغة هادئة تقترح الصداقة " هادا السرفيس مو سنة كراجات ولا علوية كراجات هادا سرفيس حرية- كراجات تفضلوا في محل للجميع." وبينما كان في غرفة التحقيق معصوب العينين أصابته رعشة خوف حين سأله المحقق عما كان يعني بسرفيس الحرية. 


7 تشرين الأول/اكتوبر 

زارني الدكتور جلال نوفل وخولة دنيا مساء. لطالما مثل لي جلال وخولة بتمردهما المجتمعي ورفضهما السياسي سورياي الخيالية المثلى التي أعشق. كان الاثنان قد اعتقلا في زمن الأسد الأب حين كانا ينتميان إلى حزب العمل الشيوعي وتم تعذيبهما في السجن. تم اعتقال جلال في نيسان 2011 في بداية شارع الحمرا بعد مشاركته في مظاهرة ساحة عرنوس. بدأت عملية تعذيبه هو ومن كان معه من المعتقلين ومن ضمنهم (س) من اللحظة الأولى من القبض عليهم بلكمهم وضربهم على وجوههم و رؤوسهم ومناطق حساسة أخرى من أجسادهم من قبل عناصر الأمن وهم يحشرونهم في السرافيس الواقفة في شارع الحمراء. استمرت عملية التعذيب لأربعة أيام متخذة أشكالاً قاسية في فرع الأمن بالطلياني ومن ثم في إدارة المخابرات العامة.  

بدأت خولة التي كانت مشحونة بالأمل الثوري أنه لم يعجبها رأي في المعارضة السورية "المتشرذمة المتشتتة" في تلك الليلة وأنا انتقدت عدم قدرتها على التوحيد والاتحاد وانقسامها بين الداخل والخارج وتمزقها وتفتتها في جماعات صغيرة والانزلاق السريع لبعضها لفخ "الفتنة" الذي نصبته السلطة منذ تصريحات بثينة شعبان الشهيرة " الطائفية" واستعارة بعضها الآخر لغة النظام الديماغوجية في تصريحاتها ومؤتمراتها. كانت المعارضة تستعير لغة البعث وأدواته لتتهم الدولة السورية البعثية بعدم وطنيتها وعمالتها للغرب أو بمعنى آخر لطالما اتهمت المعارضة النظام بعدم كفاية معاداته للغرب. 

ربما لم يعجب "حشر أنفي" في الموضوع السوري بعضاً من أصدقائي المقربين الذين كنت أعرفهم لفترات طويلة. حين كان النقاش يتركز على الملامح الطائفية التي اكتسبها المشهد السوري مبكراً واستيقاظ الانتماء إلى الهويات الصغرى، غالباً ما كان يتم اختزال النقاش وحسمه بجملة "سوريا ليست العراق ولن تتحول إلى العراق" التي سرعان ما بدأ يرددها معارضون وموالون في نقاشاتهم ولقاءاتهم ومؤتمراتهم وبنفس المستوى من التفاؤل الذي كان ليس فقط مدفوعاً بثقة غبية عمياء بل بجهل تاريخي صريح باشتغال الدولة طائفياً ليس على مستوى السياسة فقط بل مجتمعياً أيضاً. 

كنت أفكر بين حين وآخر اذا كان حشر أنفي في الموضوع السوري يزعج أقرب أصدقائي الذين أعرفهم لفترات طويلة فيا ترى ما الذي سيكون رأي سلطة البعث الشمولية إذا ما نشرتُ مقالاً حول ما يجري الآن من قتل وتعذيب واذلال جماعي؟ فكرت في الصحافي الجزائري خالد سيد مهند الذي اعتقل في نيسان الماضي وقضى حوالي شهراً في كفر سوسة حيث تم تهديده لأكثر من مرة من قبل المحققين باقتلاع عضوه التناسلي وانتزاع قلبه من صدره إذا لم يجب على أسئلة المحققين. 

انتابني ما يشبه طمأننية الجبن وراحته وأنا أفكر في الكاتبة "بشرى سعيد" التي اختلقتها لكي أختبئ وراء اسمها حين نشرت لأول مرة قبل شهر من بدء الاحتجاجات مقالا باللغة الانكليزية"Damascus is Shaking "  باسمها في مجلة اكس بونتو الإلكترونية بتاريخ 10 شباط 2011. ظللت أختبئ خلف اسمها حتى خروجي من دمشق أواسط 2012 فظهرت اسمها في الأوان والحياة والمستقبل واوبن ديموكراسي. 

نوستالجيا للأب الدكتاتور

8 تشرين الأول/ اكتوبر 

في اليوم التالي حين دخلت نادي الصحفيين وجدت الباحة الخلفية مليئة بشباب وشابات عراقيين وهم يرقصون على أنغام أغنية "قلب قلب وين وين" وأغاني هابطة أخرى. وحين انتهوا من الرقص جلسوا منفصلين تماماً الشباب في الجهة اليسرى والشابات في الجهة اليمنى. رأيت إحداهن وهي لا تتعدى بداية العشرينيات من عمرها تلبس قلادة عليها صورة صدام حسين. بينما يحمل شاب آخر العلم العراقي القديم الذي كتب صدام حسين عبارة الله أكبر عليه بخط يده. شعوب تحاول التخلص من ديكتاتورياتها وشعوب تصاب بالنوستالجيا محاولة استعادة دكتاتور الزمن الغابر الجميل: صدام حسين الذي كان مهووساً بجسده وهو يظهر في أوضاع مختلفة بأزياء متنوعة وكأنه عارض أزياء فحل يحاول إلباس العراق جسده في عملية تماهٍ مرعبة بين الدولة والقائد الأوحد! 

يصيب الدكتاتور ولع غريب بالوطن والديمقراطية والإصلاح أثناء الأزمات والثورات التي تهدد باقتلاع وجوده وكيانه ورميه خارج الوطن والسلطة. ويظهر هوساً مرضياً بكلمة "الوطن" وكأنه من مؤسسي هذا الوطن ومخترعيه بل ومالكه الوحيد. وربما يمثل علي عبدالله صالح وبشار الأسد أفضل إثبات على ذلك. فمنذ اندلاع الاحتجاجات في البلدين لم يتوقف الاثنان في كل خطبهما ولقاءاتهما وكأنهما مصابان بحمى الوطن وهذيان الديمقراطية  عن حرصهما الشفاهي على ترسيخ الإصلاح والديمقراطية في الوطن: السلطة لا تعني شيئاً إنه الوطن الذي نريد.

ظهر اليوم علي عبدالله صالح بقفازاته وحروقه معلناً استعداده للتخلي عن السلطة بعد 33 عاماً من احتكارها " هذا كلام، مش احنا نشتهي سلطة أنا أرفض السلطة وسأرفضها في الأيام القادمة وسأتخلى عنها" .

الجمعة 14 تشرين الأول/أكتوبر 

كنت قد رجوت شون أن يكون أكثر حذراً و ألا يخرج يوم الجمعة مع كاميرته وأن يتجنب بالمطلق التكلم في أمور سياسية حساسة في مكالماته الهاتفية الكثيرة. اتصلت به حوالى الثانية ظهراً رد علي بأنه مشغول واقترح أن نتناول الغذاء مع بعض في نادي الصحافيين في العفيف حوالى الرابعة وذلك بعد أن أذهب إلى ساروجة لأصطحب زينة الفتاة اللبنانية التي كانت تعمل معه. قالت لي زينة إن شون بدا مرتبكاً قليلاً وخرج مسرعاً مع كاميرته ليقابل ناشطاً. عاودت الاتصال به من جديد لكنه لم يرد. وبينما كنا أنا وزينة نتفرج على بسطة الكتب القديمة عند مدخل الصالحية تحت ملهى سميراميس اتصل شون قبل الثالثة تماماً وسأل عن مكان وجودنا ليلتحق بنا. انتظرنا قليلاً لكنه لم يأت. اتصلت به بعد حوالى ربع ساعة قال بأنه بالقرب من مقهى هافانا وإنه في في طريقه إلينا، لكنه عاد واتصل بعد دقيقتين ليقول بأنه سيستمر في التصوير وليس علينا أن ننتظره، فاتجهنا أنا وزينة إلى نادي الصحفيين. آخر اتصال وردني من شون كان في الساعة الرابعة والدقيقة الرابعة والثلاثين بالضبط. كان من المفترض أن يكون شون معنا قبل الساعة الخامسة، شعرت بقلق ولكنني سرعان ما اكتشف بأنني خائف أكثر من أكون قلقاً. تيقنت في الساعة السابعة بأنه تم تم اعتقال شون وذلك بعد عدة اتصالات ورسائل لم يرد عليها بالرغم من أن هاتفه كان مفتوحاً ويرن. حاولت الاتصال به مرة أخرى في الساعة التاسعة، كان التلفون لا يزال غير مقفل. اتصلت زينة من تلفونها غير السوري بعامر وسألت عن الشاب الناشط الذي اقترحته إحدى الصديقات لشون لمقابلته وأبلغت عامر بأن شون مختف منذ حوالى خمس ساعات. قال عامر بأنه سيتحقق من الأمر. عادت زينة اتصلت به بعد خمس دقائق ليخبرها عامر بأن تلفون الشاب "جهاد" مغلق وهذا أمر سيء. كان على عامر ورغدة أن يختفيا بأقصى سرعة. كانت زينة قد تركت أغراضها في البيت بساروجة خائفة من أن تعود إليه. اقترحت عليها ألا تعود وأنها تستطيع ان تقضي الليل هنا والسفر صباحاً إلى بيروت. اتصلت زينة بخطيبها وأصدقائها وأعلمتهم بالأمر. اتصلتُ بدلشاد وبعض الأصدقاء الآخرين واقترحتُ عليهم أن يختفوا، وأكدت على دلشاد أن يبلغ عمر البغدادي لأنني لم أكن أملك رقم هاتفه. 

وفعلاً ترك عمر سوريا متجهاً إلى تركيا في أواخر 2011 لكنه سيعود في 2012 لينضم إلى كتائب الطليعة المقاتلة ويتخذ اسماً جديدا "أبو هادي الدوماني" ويتحول إلى القائد العسكري لكتائب الطليعة المقاتلة في ريف حلب بحسب موقع تنسيقية دوما ومواقع أخرى. قتل عمر أثناء اقتحام مطار منغ العسكري في حلب في 24 آذار 2013. 

الكوابيس وطعم الخراء

لم أستطع النوم تلك الليلة. كنت أنتظر أن يطرق الباب في أية لحظة. حين نظرت إلى مكالماتي الصادرة والواردة خلال الأيام القليلة الماضية كان هناك أكثر من 37 مكالمة متبادلة بيني وبين شون. كنت أعرف أن أول ما تفعله المخابرات هو التدقيق في أرقام الهواتف والرسائل في تلفون الشخص المعتقل، هذا بالإضافة إلى كثرة مراسلة الإيميلات بيننا. تمددت زينة على إحدى كنبايات غرفة الجلوس وأنا ذهبت إلى غرفة النوم. لا أحد طرق الباب في تلك الليلة لكن كثرة وشدة الكوابيس منعتني من النوم. حين استفاقت زينة صباحاً روت لي كابوسها الذي بدا كشريط سينمائي قديم مغبر يكرر ذاته برتابة مخيفة دون توقف بسبب خلل ما في آلة العرض.. من شدة خوفها كانت تنهض من الكنبة وتأتي إلى غرفتي وتقول: "هوشنك أنا خائفة ولا أستطيع النوم”. لكنها فجأة ومن شدة جفاف فمها وارتعاش جسدها خوفاً تفزُ من النوم مرعوبة لتجد نفسها أنها لازالت متمددة على الكنبة في غرفة الجلوس وتبدأ بتفحص الأغراض: التلفزيون والمصباح العمودي ولوحة المقهى لجبر علوان لتتأكد من أنها لازالت في غرفة الجلوس ثم تنهض متثاقلة وتقطع الصالون وتأتي إلى غرفتي وتوقظني وتقول: "هوشنك أنا خائفة ولا أستطيع النوم." لكنها وبينما تحاول إيقاظي تستيقظ فجأة بجسد يرتعش وهو يتصبب عرقاً لتكتشف بأنها لازالت في غرفة الجلوس وتبدأ مرة أخرى بتفحص الأغراض الموجودة من حولها: التلفزيون و المصباح العمودي ولوحة جبر علوان لتكتشف بأنها لازالت متمددة على كنبة غرفة الجلوس فتستيقظ متثاقلة وتهرول مسرعة الى غرفتي وتبدأ باستيقاظي بصوت عال وهي مذعورة "هوشنك أنا خائفة ولا استطيع النوم" لكنها فجأة تفز من النوم وهي تغرق في عرقها.. وهكذا.. كان هذا كابوسها الطويل المكرر حتى الصباح وحين استيقظت صباحاً وخزت معصمها بدبوس وجدته على الطاولة لتتأكد من أنها مستيقظة وليست في كابوس دائري أبدي. أما أنا فكابوسي كان أكثر بساطة لكنه أشد رعباً، كان أحدهم يجبرني على أكل الخراء، خرائي أنا.

في حوالى التاسعة صباحاً اتفقنا أن تذهب زينة وحدها إلى البيت وأن أنتظرها أنا في الشارع العام تحت جسر فيكتوريا أمام فندق سميراميس لمدة عشر دقائق فقط وإذا لم تعد سأذهب أنا. عادت بعد 13 دقيقة وكان وجهها شاحباً مرعوباً. كان الأمن قد سبقوها الى هناك. في حوالى الساعة الثانية بعد الظهر اتصلت زينة لتخبرني بانها عبرت الى الجانب اللبناني. 

الأيام اللاحقة 

مرت الأيام اللاحقة ثقيلة بطيئة لم أخرج خلالها كثيراً ولم أستطع أكل أي شيء إلا وكان له مذاق الكابوس الذي كنت قد رأيته في تلك الليلة مع استعادة كاملة لتقاصيله البصرية المقززة. تم إطلاق سراح شون مساء 20 أكتوبر وتسفيره في الليلة ذاتها لكن خروجه لم يزل طعم الكابوس من لساني.

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬