لم تكن النكبة تعني لي شيئاً. مالي أنا وعام 1948 الذي لم اشهده ولا علاقة لي به أصلاً؟ كان لحلول ذكراه في كل عام طعم ورائحة كريهة، كانت تأتيني على هيئة تضامن وشفقة من قبل من أصر والداي على تسميتهم "إخوتنا العرب." لكن هذا التعاطف سرعان ما كان ينكشف على حقيقته بعد أيام من مرور "عيد الحزن": كنتو هربتو ليه وسبتو بلدكم؟ مش لو كنتو فضلتو كان اشرفلكو؟ ما كانش حالكم بقى كدة... هيه، على العموم إحنا عملنا اللي علينا وزيادة والباقي عليكو انتو.
كنت أقص حذافير هذه المحادثات المتكررة على والديّ بحماس واستنكار وبواقي انتماء عروبي يأبى أن يتلاشى. لكن أسئلة رذيلة لم تكن لتتركني وشأني بعد كل ذكرى سنوية: حقاً، لماذا هربتم؟ هل كان الهجوم الصهيوني بهذه الشدة؟ وإن كان كذلك لماذا لم تبقوا مثل من بقي ليستشهد معززاً مكرماً على أرضه بدلاً من تشرده في بلاد (اللي يسوى واللي ما يسواش)، وتوريثه لوصمة الهروب والجبن لأبنائه؟ ثم هناك من بقي في داره وبلده، واحتفظ بأراضيه. لماذا لم أولد أنا لعائلة من عائلات ال٤٨؟
لم اجرؤ في طفولتي أن أزيد هموم والدي هماً، وقد شهد كل منهما قصص تهجير وهزائم وأرق على عائلتيهما المشتتين في كل أطراف العالم. لم يكن من حقي أن أستخفّ بما جرى لهما، أنا التي لم اشهد جوعاً ولا تشرداً في مخيمات اللاجئين. لقد بذلا قصارى جهدهما ليؤمنا لي ولإخوتي حياة مستقرة وآمنة. ولم يورثاني من حزمة الأسى سوى رائحة الخوف من العساكر والحدود.
لم تكن النكبة تعني لي شيئاً لسنوات لأنني لم أكن هناك. لكن طيف النكبة زارني مرة، خلال زيارتي الأولى ليافا، التي أحاطتني بهوائها الناعم المالح. لا أدري لماذا شعرت بحزن عند دخولي المدينة القديمة. كانت قد هدأت تحت حرارة الظهيرة، ولم نسمع في أزقتها إلا صوت تطابق الصحون بعد الغداء وصوت أحد السكان الاوربيين يرافق الغيتار. مشينا نحو بيت العائلة الذي بقي رغم إضافة طابق أو طابقين حسبما حكت لي أمي. وتجرأت على أن أسأل إحدى السيدات التي ظهرت على التراس بالإنكليزية: كان هذا البيت لعائلة أمي في السابق، فهل تسمحين لنا بتناول الشاي فيه؟ حدّقت فينا لثوان طويلة، ثم دخلت دون جواب. ربما لا تتقن الانكليزية، ظننت، وربما لم يعد لديهم شاي!