هناك من النقاد من لا يفتأ يفاجئك بمدى رومانسيته النافية للعقل، وللذوق أحياناً أخرى؛ ذلك العقل- المعيار الذي وضعوه لأنفسهم وأعلنوا عنه كشعلة يستضيئون بها أينما حلوا نصاً و/أو مكاناً. فها نحن نقرأ مقالة لفيصل دراج، الناقد الفلسطيني المخضرم، وقد يكون الناقد الأدبي المثابر الوحيد على خارطة الإنتاج النصي الفلسطيني، نشرت في موقع "الجزيرة.نت" بتاريخ 9 حزيران 2011، تحت عنوان لماذا تغير الأدب الفلسطيني؟ يقول دراج هناك إنّ الأدب الفلسطيني لم يعد كما نعرفه، بل أصبح شيئاً آخرَ، وهذا التحوّل لا يمكن له أن يحمل تراث الآباء المؤسِّسين، وهم بتعداده جبرا وكنفاني وحبيبي، وبالطبع درويش. يتساءل دراج ويرثي لحالنا:
فمن أين تأتي شرعية السؤال، ولماذا يبدو متأسيًّا، كما لو كان يرثي شيئًا جميلاً ذهب؟ تأتي الشرعية من اتجاهين على الأقل، يتضمن أحدهما المقارنة ويتمحور الثاني حول القائم وأعلامه. فلا يمتلك الأدب الفلسطيني اليوم ما يستأنف به تراث جبرا إبراهيم جبرا وغسان كنفاني وإميل حبيبي في الرواية، ولا ما يقترب من إبداع درويش الشاب، ولو بقدر، وليس لديه حتى الآن ما يشير إلى وعد كبير يتلامح في الأفق.
لست بصدد تصويب حكمه، أو مواساته بأنه ما زال هناك أدب جيد، أو ما شابه، بل للقول بأن تاريخ الأدب وإلى جانبه أدب التاريخ، تلك الأنواع التي عوّل عليها دراج ذات يوم في ذاكرة المغلوبين وغيرها، ليست ممارسة محصورة في الانتماءات الوطنية، فقط، بشكلها الذي تطوّر وساد في ربوع المنفى المزهر على حدّ تعبيره، بل نجد في عرف الجدل التاريخي أنّ هذه الأشكال الأدبية والجمالية والمعرفية تتغير وتتبدل كميزة أساسية لها، على الأقل، وفي حال أنها لم تتغير ولم تتحوّل عندها تتبادر إلى الذهن أسئلة محددّة من النوع الذي يسعى خلفه لوسيان جولدمان وآخرون: البنية الكونية للنصّ الأدبي. بمعنى: ما هي الحمولة التاريخية التي يحملها النصّ الجامد أدباً؟
في كل الأحوال، لا أعتقد أنّ هناك نصاً جامداً؛ كلّ نصّ هو سيرورة تتحوّل عبر عملية الكتابة/القراءة، لا لأنّ المؤلفة موهوبة أو ما شابه، أو أنها جزء من مشروع وطنيّ أو آخر، بل أنّ السبب الرئيسَ والمباشر للتحوّل هو طبيعة المادة المشكِّلة للنصّ، أي المادة اللغوية. فهذه لا تقف في المُعاش اليومي والمتخيل والمقدس، على السواء، بل تتدفق في كل لحظة انشباك بها ومعها. فهي في حالة ولادة وتوليد مستمرتيْن لكونها جزءًا من كلّ اجتماعيّ تاريخيّ متدفق. فالمادة تحدّد ماديتها الاجتماعية، ومادة الأدب هي الفضاء اللغوي، وعملها هو التشكيل، وأحياناً أفقها هو الاجتماعي التاريخي، وأحياناً أخرى قد يكون أفق آخر.
2
تشكلت أنواع أدبية مختلفة تدور حول ثيمة (موضوعة) البحث وأشكاله المختلفة. وقد يكون جورج لوكاش من أوائل النقاد الذي رفع هذه الميزة إلى معيار للرواية الحديثة. في سياق الإرث الأدبي الفلسطيني هناك عدة نماذج روائية تتخذ من مجاز البحث عامودها الفقريّ الأساسيّ، ومن ثمّ تقوم بتحويرات وبتظليلات متنوعة عليه، في سعيها للإمساك بقرون البحث المتعدّدة والمتشابكة بغية حلها أدبياً وجمالياً. قد يكون من أبرز النماذج الفلسطينية لهذا النوع من التشكيل الأدبي هو الجّسد الروائيّ الذي أنتجه جبرا إبراهيم جبرا (أنظر مثلاً السفينة والبحث عن وليد مسعود)، وذلك الذي أنتجه غسان كنفاني (أنظر مثلاً رجال في الشمس وعائد إلى حيفا). ورغم الاختلاف في الأسلوب والمرجعيّات وما إلى ذلك، إلا أنّ التشكيل الأساسي الذي يقف عليه النصّ الأدبيّ لكلٍّ منهما هو عملية الخروج من والسّعي إلى مكان/زمان آخر، يتحلى أحياناً بملامح شبه محدّدة وأحياناً أخرى تكون ملامحه مجهولة تماماً.
الميزة الثانية لهذا النوع من البحث أنه جماعيّ، أي أنّ البحث يتشكّل عبر تدفق الأحداث الروائية الناتجة عن علاقات بين أفراد وجماعات. من هنا، فالذائقة الحسّيّة المطلوبة لدى جمهور القراء هي حدّ أدنى مشترك للجمع الاجتماعيّ، والذي قد يكون وطنيًا أو طبقيًا أو جنسيًا وغيرها، وفي حالتنا هو الجمع الفلسطينيّ. اللافت للنظر في الحالتين- جبرا وكنفاني- أنهما أتقنا البناء النصّيّ بشكل يبحث في هوية النصّ عينها ومادته، أي أنّ العمل المُشَكِّل لمادة الأدب عبر بنية البحث يردّ إلى البحث في عملية التشكيل الأدبية ومادته.
3
فيما يلي سأقوم بمحاولة عرض للمداخلة التالية: نصوص راجي بطحيش، عامة، ونصّه بر-حيرة-بحر، خاصة، تبني تحويراً أدبيا جمالياً على ثيمة البحث، وهي إذ تتناصّ مع نماذج فلسطينية سابقة، تحاول تشكيل إحداثيات حسّية-لغوية مختلفة، بمعنى أنّ جسدها اللغوي مقطوع من طبقة جيولوجية اجتماعية أخرى. الاختلاف يتم عبر انتشال المينوريّ من الحياة والارتقاء به إلى مقولة أدبية جمالية عامة. بهذا فهو استثنائي، ولكن في قبوله للتمييز بين الماجوري والمينوري فهو إلى حد ما يغازل بنية القوى القائمة وأشكال الفضاء المتاخمة لها. لا ينفي راجي القمع، وإنما يبحث في مخلفاته ليستشف مبناه؛ يشبه ذلك كمن يستشف مأدبة الطعام التي أكلها الجيران من أكياس القمامة التي ألقوها صباحاً بعد تنظيف البيت من حفلة الأمس. فهو يقول كلوا ما شئتم من الطعام، واتركوا لي ما أشاء من الحياة، نوع من الصفقات المشبوهة. وفي صراعات القوى على أنواعها المختلفة، وتحديداً الأدبية الجمالية التي هي محط حديثنا هنا، لا تجوز الصفقات، أو قد يكون أننا نقف أمام بنية جمالية من نوع آخر ترد إلى تلذذ الضحية بلعق جروحها لتتألم أكثر. أو الإمكانية الثالثة أننا أمام تحوير على مقولة جان جينيه من لم يخن لا يستطيع أن يعرف ما هي المتعة.
في باكورة أعماله، وهي عبارة عن ديوان شعر بعنوان الظل والصدى، يحدد راجي المواضيع التي ستؤرقه لاحقاً وستشكل بؤرة الطاقة الأدبية التي سيتحرك فيها ومن خلالها؛ لنستمع:
من مسارات الخلاص
حتى كان ذلك الصباح من نيسان...
فتى يتجرد...
من صحراء العباءات البيض...
جسدٌ فارٌ...
إلى كون يبدأ في الضفة الأخرى.
***
بحرٌ...
يلاقح رملاً...
يعانق جبلاً...
لفضاءات الآلهة
***
فتى يتعرى...
من كهانِ قبيلته على ضفاف دجلة.
جسدٌ تائهٌ...
في مسارات الخلاص الموحشة.
***
بحرٌ...
وشرايين بحرٍ...
ترقب حرية الموج...
وانكساره...
***
فتى غضٌ
يسجد للمدائن...
ويهديها فحولته...
حتى كان ذلك الصباح من نيسان...
والفتى الغرير يهرب...
إلى نزق الموج...
وانكساره...
على أرض مأساة المطر.
-2-
حتى كان ذلك الظلام في أيلول...
وامرأة تلتقط النسمات... تضعها...
في سلال الزيتون
خيمة سوداء...
تظلل كينونتها... من حر الغزاة.
***
امرأة...
مغروسة...
في حقلها...
على ضفة الطريق الممتد إلى المدينة
***
عرائش تخبئ
عسل العيون...
وزيتون الرجوع...
***
هي... هي الأرض
امرأة...
وشرايين امرأة...
تتجلى...
في ثورة الثمار
***
فتاة عارية تسجد...
للخيمة السوداء...
وتمنحها خمارها.
***
حتى كان ذلك الصباح من نيسان
وفتى غرير...
يُصلي...
لنزق الموج...
وانكساره...
على أرض مأساة المطر.
(تموز 1996)
الزمن والجسد والمدينة هي الموضوعات التي، ومنذ بداية التسعينيات، أخذت تحتلّ واجهة النصوص الأدبية لراجي بطحيش. أما كونه تشرّب الإيقاع من آبار التجربة الفلسطينية بالذات، وحمل إرثها في حركة النص المتوالد، فلنسمع الآتي (الظل والصدى، ص 53):
معمودية الصخر والماء
مهداة إلى روح جبرا ابراهيم جبرا
"وانفلق النبع عن صبيين عاريين من الجن...
مستغرقان في معمودية الصخر والماء"...
أنت وفايز...
إلى عين كارم... صعوداً
تتفجران زهراً من صلابة الأرض...
وتمتدان حتى كهف سلوان...
أنت وفايز...
تقتحمان البريق المنعكس...
***
ألا زلت تبحث عن بحركَ
في بركة السلطان...
من هذا تبرز ملاحظتان أساسيتان: الأولى، أنّ هذا المشروع الأدبي الجمالي يحمل الإرث الفلسطيني ولكن يحمله عبر إعادة تشكيله كرافد أساسي وإن لم يكن هو الرافد الوحيد؛ ثانياً، نلاحظ أنّ هذه الثيمات والأشكال الشعرية والنثرية لم تبرح تقلق نص راجي إلى يومنا هذا وإن كانت التحويرات تختلف بين نص وآخر، وبمدى متانة وجمالية الصقل، أو الحرفة إن شئتم. أما بالنسبة لموضوع الصقل هذا فسأعود إليه لاحقاً من مواقع نصية مختلفة. والآن أريد أن أنتقل إلى المستوى النصي عبر الزمن، الجسد والمدينة كإحداثيات أو مفاتيح قد تساعدنا على رصد الحركة التشكيلية الأساس في بر-حيرة-بحر.
4
إذا كان الزمن يتشكّل من إيقاع الأحداث التي تؤطر النص وتبنيه فإننا في هذا النص أمام أربعة مستويات من الأزمنة المتشابكة، وزمن خامس كأنه خارجها، لكنه يضبطها كمرجع واقعيّ (التحديد الزمني الذي يذيل الفصول)، أولها حدث النصّ ككلّ حيث يتم التعبير عنه بمستوى اسم المؤلف والعنوان المركزي وملحقه الثانوي، وهذا الحدث الغلافيّ يحدّد زمن النصّ كوحدة زمنية ذات معنى بذاتها كما بعلاقاتها المتشابكة مع نصوص راجي الأخرى. أما بالنسبة لحقول المعنى والشكل التي يستحضرها هذا الحدث الغلافيّ، فمن الممكن القول إنّ البرّ في علاقاته المتشابكة بالحيرة لا يستطيع إلا أن يكون بحراً. فالبورتريه بما هو برّ، تحوّل وأصبح منثوراً وهي حالة تنفي الملامح المتشكّلة عبر الرّسم الخطيّ لتعطينا حالة هي أقرب إلى التبعثر منها إلى التشكّل. وهنا يتبادر إلى الذهن السؤال: ما هو شكل زمن التبعثر؟ وحول هذا تدور حكاية النصّ، مقاربات في تقصي أشكال التبعثر الممكنة والمحتملة. المستوى الزمني الثاني هو الفصول الأربعة الرئيسة والمعنونة بحسب فصول السنة ابتداءً من الصيف فالخريف فالشتاء فالربيع الذي يقفل النصّ. في هذا المستوى من التأطير الزمنيّ الحدثيّ للنص نقف أمام دائرية: الحدث يشمل دورة كاملة من الأرباع، أي أربعة أرباع، وهذه تردّ إلى دورة الحياة بما هي كذلك وبما هي هنا حياة نص كامل، وإن تقلّبت مساراته المختلفة فهو وحدة واحدة، وترد كذلك إلى ماهية الموسيقى تحديداً كما يقول الفارابي حول ذلك الذي بالأربع، ولا أعتقد أنّ راجي لم يسمع الفصول الأربعة لأنطونيو فيفالدي، ويجوز أنّ جانباً من القضية هنا محاولة التخاطب مع اللا-ديني زمناً. وفي كل وحدة هناك أحداث يتم التعرف عليها من خلال عناوين كأنها فصول أو قطع من أحداث أو ما شابه.
ففي الشتاء، ثمة هناك خمسة فصول، وفي الربيع ستة فصول وهكذا. هذه الفصول أو القطع من الأحداث إما أن تبدأ بتاريخ ما مثل الفصل الأول من الصيف الذي يبدأ، بعد مخاطبة عامل المونتاج، بـ "صيف 09"، وإما يُدخل زمنًا محدّدًا داخل النص، و/أو تكون مذيلة بما يبدو على أنه زمن كتابتها بحسب الشهر والسّنة، وتتلاءم الأزمنة بالأساس مع فصول السنة الأربعة التي هي التقسيم الأول العام للنصّ. ويمتدّ زمن النصّ من صيف 2009، تحديدًا ص 19 ("أواخر آب 2009") ولغاية أيار 2010. في الفصل الأخير الزمن داخليّ، أي يأتي بعد العناوين الفرعية التي هي نوع من التوضيحات القلقة التي يقولها الراوي، وتبدو وكأنها مُوجّهة لعامل المونتاج، وهي داخلية بكونها ذات طابع تنازليّ، 30 دقيقة تنقص كل مرة 5 دقائق إلى أن ينتهي زمن الانتظار وتأتي نتيجة الفحص/الحقيقة.
يبدأ كل فصل بأمر ما من الراوي لعامل المونتاج، وهذا هو المستوى الزمني الثالث، زمن الراوي وعامل المونتاج، والحدث الأساسي بينهما هو حدث سلطويّ ولكنه من النوع القلق، فهو إلى حدّ بعيد يشبه سائق العائلة: فهو يقوم بالأعمال الجسدية التي تمكّن الراوي من أن يعيش أحداث حياته على شاشة ما. وبسبب من عُري الراوي أمامه فهو لا يفتأ عن شرح أو تسويغ بعض المشاهد للعامل/الخادم ويتعامل معه وكأنه أبله؛ مثلاً صفحة 82 وبعد مشهد جنسي يقول الراوي للعامل "هل استرحت الآن... لا تفهمني خطأ إنه مجرد عمل فني... وفي الفن كل شيء مباح". و/أو يقمعه لكي يغطي على مواطن ضعفه وقلقه. مثلاً في صفحة 28: "لماذا تقهقه؟ هذه حياتي يا غبي". الراوي السيد بحاجة إلى عامل المونتاج العبد ليبني مشروعه النصي، وحتمية الحاجة تضع الراوي بنيوياً على الأقل في موقع ضعف يبرز بشكل الصمت المطبق لعامل المونتاج.
الأوامر التي يعطيها الراوي إلى العامل تنقلنا إلى المستوى الزمني الرابع وهو الحدث الروائي\\النثري\\الشعري البؤريّ، إن جاز التعبير، الحاصل الآن في وعي الراوي المباشر. فمتن الحدث النصي هو تيار من الوعي يحصل في زمن القراءة، وككل صوت داخلي حين نعيه فهو تيار متدفق يتميز بأن جزءاً منه يعمل بحسب مبدأ الواقع، وأجزاءه الأخرى تعمل وفق مبادئ وقوانين متعددة من مثل قانون الحلم، الكولاج، التداعي السريالي، الفلاش باك وما إلى ذلك. من المهم التنويه إلى أنّ العلاقة بين هذا المستوى والمستويات الأخرى ليست مباشرة أو حتى غير مباشرة بهذا المعنى؛ فأنت لا تجد مثلاً في ربع الشتاء فصلاً بعنوان "يوم ماطر" وبه انشغال بالمعطف الأزرق الذي لبسه الراوي وهو ابن الثامنة في مدرسة راهبات في الناصرة قبل خروجه للمظاهرة الأولى في يوم الأرض، أو أن فردة الجزمة اليمنى، هدية من شريكه اليهودي الأول في الشتاء الأخير، كانت تؤذيه كلما مرّ من أمام مجمع اللغة العبرية في القدس التي لا يذكرها أبداً. بل هناك درزة خاصة للحدث البطحيشي سأعرض لها مثلاً وربما أعود لاحقاً لهذا الموضوع عند ربط الزمن بالجسد والمدينة. فلنسمع (ص 25):
الصيف
أكاذيب صيفية صغيرة
شغل الشريط واصمت!
الأربعاء مساءً، أجلس على إحدى البنوك العريضة التي أنشئت قرب "بيت صهيونيي أمريكا" في شارع إيفن جفيرول بعد ترميمه وتحويله إلى جادة مدينة حالمة في وسط تل أبيب، جاد تقطع المدينة من جنوبها البائس إلى شمالها المترف، كم تشبه هذه الجادة نظيرتها سان جيرمان في قلب باريس!...
كذبة1: لا تشبه هذه الجادة المرمّمة سوى شارع في أحقر ضواحي باريس التي تنتشر فيها روائح البول والشوارما ومخلفات السوائل المنوية.
هذا مبدأ الواقع، ومن ثم ينتقل المؤلف إلى مبدأ آخر:
أجلس ها هنا في مكان قرب المكان، عند عصرونة تختصر الوقت والسّابلة والحيوات المتقاطعة بعذوبة خياراتها، أمرر لحظاتي... وضوضاء صمتي عند زاوية تغترب فارّة من كل سؤال، لغات... لغات تداعب العبث المترقرق بين أناملي... عبرية، روسية، فرنسية، إسبانية، انجليزية...
من الممكن القول إنّ هذا هو تيار الوعي، ولكنه ليس تماماً، فهو لا يزال مجبولاً بجوانب محدّدة من الواقع (اللغات مثلاً).
فما هو إذاً الزمن الناتج عن هذه المحاور الخمسة التي تشكّله؟ ما هي وحدة الزمن الأساسية في الانتقال من البرّ إلى البحر عبر الركون إلى الحيرة؟
ممّا لا شك فيه أنّ هذه المستويات الخمسة للزمن هي طبقات تتشكّل فيما بينها لتشكّل الكلّ؛ فمن الحركة العامة من الصّلب إلى السّائل عبر نار الحيرة، وبالعكس، من السّائل إلى الصلب عبر الكآبة الثلجية لليومي والمتشظّي، ومن هنا الفصول الأربعة، المستوى الثاني للزمن، لتنقلنا على أكفها في دورة لا تتوقف بين الناري والمائي، بين الصّلب والسائل، ومن ثم محاولة لضبط هذا التنقل الزمني عبر حدث سلطويّ لا ينجح حتى في تجاوز جملة مفيدة واحدة!! ومن ثم تتكثف حركة التنقل هذه إلى حركة عميقة قلقة تهزّ وجودًا لم يكن أبداً سوى هذا التنقل، ولن يكون إلا تنقلاً قلقاً، ولكن قلق البحث هذا مرعب من حيث أنه يشير إلى إمكانية حقيقية لعدم وجود حقيقة ما (أنظر الفصل الأخير من النصّ). وهذا الرّعب يحتم تغليفه بعدة مستويات زمنية، لا يمكن قراءتها عبر مبدأ الواقع، فقط، بل تُحتِم علينا قراءتها بمبدئها هي، وهو ما سنسعى إليه هنا.
5
سأنتقل للحديث عن مفتاح النصّ الثاني، الجسد. فماذا ينقل الجسد؟ كيف يُنقِل الجسد؟ هل هناك علاقة بين ثيمة الجسد وتحولاته وبنية النصّ؟ بودّي التنويه مسبقاً، إلى أنّ هناك علاقات متشابكة ما بين جسد النصّ، الحرفيّ والمجازيّ على حد سواء، ومن الغلاف إلى الغلاف، وبين جسد الراوي وأجساد الشخصيات الأخرى التي يتحدث عنها الراوي، وجسد من نوع رابع متخيل على أنه مفقود، من حيث أنه مثاليّ. لا يمكن تحديد الجسد من حيث هو مفتاح نصّيّ إلا من خلال وحدة جسدية تتحرك بين هذه المسطحات الأربع.
الحدث الجسدي في هذا النصّ هو تحوليّ، ومنطق التحوّل الأساسي فيه هو إعادة تشكيل تقسيم العمل للجسد في خط التماس القلق أبداً بين المادّيّ والاجتماعيّ. ومن اللافت للنظر، أنّ ذلك يتم في أكثر من مستوى للنصّ سأحاول عرضها منفصلة ومن ثم ربطها بمنطقها الخاصّ، أي منطق الجسد المادّيّ-النصّيّ. ويعني ذلك أنّ هناك بنية للحدث الجسديّ تُشتق منها عدة تحويرات جمالية حاملة للقلق، ولكنها كتحويرات نراها محمولة وكامنة في القلق المادي الاجتماعي ذاته. بنية الحدث هنا هي انتقال من حالة جسدية ما إلى حالة جسدية أخرى تمرّ عبر فتحتي الجسد الأهم، العلوية الفم، والتحتية الشرج. وما يميز هاتين الفتحتين بالأساس هو العمل، وذلك بغضّ النظر عن طبيعة تقسيم العمل العينيّ. فمن أجل أن يعيش الجسد مادياً واجتماعياً على هاتيْن الفتحتيْن أن تبذلا طاقة مؤطّرة بوعي تستثمر في المادة لتعطينا شكلاً اجتماعياً قابلاً للاستعمال. ويبدأ النصّ من خطّ أوليّ هو حقل التناقضات القائم (الأبوي/الهترو/الطبقي) بين المادي والاجتماعي، ليعود من ثم إلى المادي مسائلاً الاجتماعي، وعليه فإنّ هذه التحولات ذات طابع تطوريّ لولبيّ، سنحاول فيما يلي تخليص وعرض بعض منها.
بالرغم من أنّ المؤلف يحاول جاهداً أن يعطي النص بناءً صورياً إلا أنّ المفصل الجسديّ للنصّ يعصى على القالب الصوريّ السينمائيّ، وهذا ليس بصدفة، بل هو ناتج عن الشرط الموضوعي للوسيط النصّيّ المستخدم، أي الكتاب وجسده. فهذا عليه أن يبدأ من غلاف ما وينتهي بعد عدد من الصفحات، مرتبة بشكل تسلسلي خطي. فيبدأ الجسد الحدثيّ/النصّيّ بجسد الكتاب، وإن لا يتحدّد به ضرورة، ليسعى من ثم لأن يصبح فيلماً، وهنا عملية تحوّل غير ممكنة موضوعياً، وإنما هي مداخلة في تشكيل الرغبة، على حد تعبير باولو بازوليني، والذي في مقالته عن السنياريو يقول إن هذا النوع من الكتابة هو الوحيد الذي تسعى فيه البنية لأن تصبح حدثاً، أي أنّ وظيفة السيناريو الأساسية هي أن يتحوّل إلى فيلم، لا أن يُقرأ. وبالنسبة لراجي، فإنه مخضرم يحمل تناقضات المرحلة المطبوعة عاش الانتقال إلى البصرية ونحن الآن/هنا في مملكة المرئيات. يأخذ المؤلف من هذه العمليات السّهولة التقنية في عملية التركيب والشّبك والتفكيك للمشهد أو المشاهد الممكنة ليوظفها من ثم في سعيه في مسارات الجسد الأخرى.
العرض الأول للجسد وعمله يبدأ من كون الجسد يقبع تحت نظام أبويّ/هترو/طبقيّ. يقول في ص 9 في الفقرة الأولى من النصّ :
يخرج الجموع من الشاطئ بتخايل يشبه مرحلة ما بعد الترف المتكلف... ذلك الذي لا يطرح أوراقه على الرصيف الملتهب... فتاة مسكينة تقطع هي وطفلها وكلبها بالبكيني طريقا طويلة... (بعدها بسطرين)
يحتضن شاب مفتول العضلات فتاته الضئيلة ويسحبها كالشاة إلى الذبح أو إلى مبالغة توصيفية مطلوبة (ملاحظة: هم أيضاً شبه عراة)... تهبط طائرة... تقلع طائرة... أكاد أن أنهر عليه: هيا لماذا لا تناكحها هنا على الإسفلت قرب هذا المقهى الإنعزالي بإمتياز، يتدافع الجموع نحو ندوة جنسية قيمة... لا وقت لليل البحر وسذاجة بوحه... يتجمع المتشردون حول جثة فتاة غريق....
في هذه الفقرة يكثف راجي تناقضات تقسيم العمل الأبويّ/الهترو/الطبقي ، ويحلها عن طريق الغرق، وهي ميتة من نوع محدّد، تقوم فيها الطبيعة بقتل من لا يجيد العيش فيها وبحسب قوانينها. لكن الطبيعة الأم هنا تقتل جزءًا منها تصرف بحسب قانون غير طبيعيّ، وبذلك يقوم راجي باستخدام خطابيّ لمنظومة الهترو ليقلب السّحر على السّاحر، إن جاز التعبير. فالمرحلة الأولى من عرض التناقضات المنبثقة عن تقسيم العمل الأبوي/الهترو/الطبقي، عمل الرعاية والعمل الجنسي للأنثى، العمل الجسدي واستغلال جسد الأنثى من الذكر، هو ببنية جمالية تكثف دراما التناقضات وتشير إلى لا-طبيعيتها. ومن ثم في العنوانيْن الفرعييْن التالييْن يشير المؤلف، بشكل انزياحيّ ومكثف، إلى الحلّ الذي سيطوّره لاحقا بشكل جماليّ، وهو علاقة الراوي مع أبيه، ومن ثم علاقته مع ابنه. نقرأ في الصفحة العاشرة:
أستيقظ إلى صباح جديد... أقف أمام الصباح... أنظر إلى السقف. أين أنا اليوم؟ أحجية الصباح!! لديك أربع إجابات لا خامس لها... ولكن رائحة ملابس أبي الخاضعة لعملية توزيع عبثية تجيب لوحدها... وكذا أوراقه العتيقة التي لم أفرزها بعد... كسلاً ربما أو خوفاً...
هذا بالنسبة للأب، ولا أعتقد أننا بحاجة لشرح الشارح هنا، أما بالنسبة للابن، أي بداية الحلّ:
نمضي على طريق البحر الآن... أنا وذاك الصبي الأجمل... ينظر... يتأملني... يبتسم... يتثاءب... يغفو قليلاً... يصحو... يبتسم... يمد يده الضئيلة... (وبعد سطرين) أشتري لنا بوظة... –أرتكب خطأ فادحا- أحاول افتعال لحظة نخبوية أمام شاطئ الكرمل عن الأبوة والبنوة وما بينهما من أعماق... أسلمه البوظة الصفراء التي تم إنتاجها على شكل دمية الإسفنج الشهيرة... لا يحبها... يحاول إعادتها إلي بطريقته فيغرسها في قميصي الذي كلفني "الشيء الفلاني"... لااااااااااا... يتأمل بوظتي الشخصية التي أحمل والتي بدأت تسيل على أصابعي وكوعي ومفرش السيارة... يبكي... يريد بوظتي... تعلّم: لا يوجد حسابات شخصية بينك وبين طفل رضيع... أمضي بهندامي المصمم من جديد وبشكل... إلى لقاء قريب!
هناك في كل النص مشهدان حَدَثيان ذوا طبيعة حل جماليّ لهما طاقة خلق، هذا الحدث هو أحدهما، والثاني هو إلى حد بعيد تطوير تناظري لهذا المشهد وهو مشهد جنسيّ مثليّ. بين المشهدين هناك مسارات وتعرّجات مختلفة للجسد تهدم إما مباشرة و/أو بعدة خطوات انزياحية نظام الهترو لتصل نظام الواحد اجتماعياً ونظامًا جنسيًا مثليًّا، وهذه التطورات تتم عبر تفكيك منظومة العمل لفتحات الفم والشرج كما ذكرت أعلاه. مثلاً، في العلاقة السلطوية بين الراوي وعامل المونتاج، المنفذ الوحيد هو إما الأكل و/أو الضراط والتغوّط، وكعادته يبدأ المؤلف من التناقض المباشر (ص 44):
هل تريد استراحة تدخين أو تبوّل... يمكنك تتبول هنا أيضاً
أو (ص 59):
حاول أن تنفس الإيقاع المرتبك هنا وتحرره وكأنك تمارس الضراط لوحدك في غرفة معزولة بعد أكلة مجدرة
أو (ص 69):
حسنا ... استراحة تغوّط
أو (ص 81):
إن كنت متعبا يمكنك التدخين... آه آسف يبدو أنك منتصباً
ففي هذه الأمثلة تُبقي العلاقة السّلطوية القامعة على تقسيم العمل بين الفتحتين كما هو سائد في النظام الأبوي الهترو، من جانب، ولكن هناك درجة عالية من القلق والتوتر غير القابليْن للحلّ بسبب من تقاطع أنواع مختلفة من أنظمة تقسيم العمل: الجسدي والأبوي والطبقيّ الرأسمالي. الحل الذي يستخدمه المؤلف والذي يبدو إلى حدّ ما نوعًا من النكوص في بنية المضمون للتناقض المطروح، يأتي بعد مشهد من ممارسة الجنس المثليّ الفعليّ الوحيد في النص والذي من الممكن رؤيته كإشارة لحلّ جماليّ اجتماعيّ، حيث يفسّر الراوي المشهد لعامل المونتاج بشكل اعتذاريّ كالآتي (ص 82):
هل استرحت الآن... أرجوك ألا تفهمني خطأ إنه مجرد عمل فنيّ... وفي الفن كل شيء مباح.
في متن جسد النصّ هناك تيار من الوعي، أي حالة لا-جسدية بامتياز بحسب النظام السائد، وهذا التيار هو ما يجرف مُشكّلاً لبًا، أو للدقة لبّ السيولة الجسدية، للتجربة ككل. فإن كانت الأطر الزمنية للنصّ عبارة عن إحداثيات ثابتة لدائرية ما، فإن في هذا الجرف النهري -وهو، بعكس الفهم السائد، شكل من أشكال الجسد بتجليه كوعي- تُمارَس عملية جذريّة من تفكيك النظام الحسيّ-اللغويّ، وهذه التركيبة ما بين الحس واللغة هي من أسس العمل الأدبي الجمالي. والقصد هنا، بتلك الممارسات اللغوية وتركيباتها التي تقود إلى فتح مسامات الحس التي تكلّست، إما قمعاً و/أو بسبب العادة، وهي تقود إلى ذلك عبر المتخيّل الاجتماعي المشترك للجماعة/ات التي ينتمي إليها المؤلف. تصبح في هذا النوع من الكتابة ممارسة المداخلة في اللغة، من خلال قراءتها، ممارسة في تشكيل الذائقة الحسّية للجّسد، أي محطاته المادية الأولى. ويكثف العنوان هذا الجرف النهريّ ويعمل كنموذج ضابط له ولذلك سأعرض لبعض من مستويات العنوان ذات الصلة بالتراكيب الحسّية-اللغوية، وهي مثال ونموذج مكثف لباقي النصّ.
مما لا شكّ فيه أنّ أول هذه التراكيب هو العنوان: بر-حيرة-بحر: بورتريه منثور. ففي المخيلة هناك ربط ما بين البرّ والبحر؛ فحين يقوم المؤلف بغرس كلمة "حيرة" بينهما تقف أمام تشكيل حسي-لغوي، أي أن التسلسل بر حيرة/حيرة بحر، حيث الحيرة هي الوسيط ما بين حالتين ألفنا العبور بينهما من دون تردّد حسّيّ-لغويّ، على الأقلّ، يثير بداية حقول من المعاني التي تجلس عادة في الخلفية ليتم استحضارها بقالب جديد إلى أمامية الوعي فتثار منظومة حسّية ما بطريقة متجدّدة، أحياناً، وجديدة، في أحيان أخرى، وذلك تبعاً لأنواع المتلقين وتجاربهم. إنّ الإثارة تبدأ من النسيج الصّوتيّ، أي البناء الجرسيّ للعنوان، فهو غير حاضر في المخزون السائد ولكنه ليس بغرائبيّ، وإنما منحوت من الجسد الصوتي للغة العربية، أي أنه امتداد حسّيّ مختلف. لتنتقل الإثارة بمستواها الثاني إلى غياب الشاطئ واستبداله بالحيرة، حيث أنّ الشاطئ لم يكن أبداً سوى "بين بين"، حالة هلامية غير معرّفة، تثير الارتباك والتردّد لأنّ من يقف عليه لا يدري أين هو بالضرورة. فالحيرة هي خلاصة الحالة الشاطئية، إلا أنّ الإثارة تأتي من اختيار وسيط ليس من مجموعة البر والبحر، أي من الطبيعة، بل من حالة هي وجدانية اجتماعية بالأساس. وبذلك فالتوتر الناجم عن مجابهة مفاجأة الوسيط، عبر القراءة، يفتح مسامات حسّية بين مكلسة وأخرى مقموعة وثالثة متجدّدة. أما المستوى الثالث للإثارة فهو السّرديّ، حيث أنّ البنية السّردية التي تنبثق من العنوان هي: الـ "بر" هو بر-صلب-ثابت وبهذا فهو مغلق، أما "حيرة" فهي حيرة-حالة وعي/طاقة-نشطة فهي فاتحة، أما "بحر" فهو بحر-سائل-متحرك وبهذا فهو مفتوح. سردياً، القول هو أن عمل الحيرة في البر تأتي بنا إلى البحر، أي أن نوع وعي ما ينقلنا من حالة المغلق نظاماً إلى حالة المفتوح تاريخياً، وذلك لأنّ الحيرة هي انبثاق عن مجمل الخيارات الوجودية بما هي عمل التاريخ الاجتماعي. وقد يكون العنوان الفرعي التعريفيّ -حيث عادة ما يتم هنا موضعة اسم النوع الأدبيّ للنصّ، من مثل رواية شعر مسرحية وما إلى ذلك- هو أول تحوير على هذه المستويات الإثارية الثلاثة. فبداية هناك النسيج الصوتي المنحوت والذي هو امتداد حسّيّ مختلف، ثم تتفاجأ بأنّ مصطلحاً غريباً دخل هذا الحيّز، وثانياً أنه مبني على علاقة تناقضية هي أنّ البورتريه هو ذو منطق تحديد، أي مغلق، بينما المنثور هو ذو منطق توزيعيّ غير محدّد، أي مفتوح.
إنّ هذه المستويات المختلفة للجسد، والتي تبدأ من جسد الكتاب ولا تنتهي بجسد اللغة، تمرّ بشكل تناظري متزامن بأحداث عدة من الممكن وصفها بأنها ذات طابع تحوليّ. وهذا ما يدفعنا إلى وصف الجسد في نص راجي بأنه تحوّليّ، بما هو في حالة تحوّل مستمرة لا تستقر على شكل واحد، ولعلّ الأهم في حالة التحوّل هذه هو العبور من الحالة البريّة، أي من كون الجسد برًا ثابتًا مغلقًا، إلى الحالة البحرية، أي كون الجسد متحركًا مفتوحًا، والعبور يتم عن طريق شكل محدّد من الوعي الوجدانيّ الذي هو حالة من الطاقة النشطة، الحيرة. في حال حاولنا فحص إمكانية ترجمة هذه التشكيلات النصية إلى خطاب الواقع الاجتماعيّ الأبوي/الهترو/الطبقي فإننا سنقف أمام مقولة نقد جذرية وعضوية اتجاه حالة نظاميّة ذات نسق قمعيّ بما هو إغلاق تام ستفتحه طاقة/عمل وعي باتجاه التحوّل نحو نوع من تقسيم العمل المتحرّك، والذي يبدأ بالجّسد الماديّ ولا ينتهي بالجسد الاجتماعيّ، وبهذه الحركة والتنوّع فهو لا يخضع لقوانين الملكية الخاصة بالضرورة. ولهذا الموضوع سأتطرق لاحقا في نهاية هذا المقال، بعد أن أمر على الجسد الجمعي في تشكله كمدينة في نص راجي الأخير.
للجزء الثاني أنقر هنا
عن موقع قديتا*