ظهر هؤلاء في مظاهرة 27 مايو بالتحرير التي سميت بـ "جمعة الغضب الثانية". مجموعة من الشباب طافت الميدان بحثا عن أي لافتات حزبية لانزالها بالقوة، "لأن الثورة فوق الأحزاب التي تولد الاختلاف وتقوم على المصالح الخاصة".
هذا العداء للحزبية، الذي يتسع للتوجس من الاختلاف السياسي عموما، لدى قطاعات من السياسيين والكتاب، وليس فقط بعض الشباب حديث العهد بالسياسة، هو امتداد لثقافة سنوات من القمع السياسي والتحريض الاعلامي على الحزبية والاختلاف، الذي لابد وأن يكون مأجورا ومعبرا عن مصالح سياسية أنانية وربما مؤامرة دولية.
ولا يمكن الفصل بين النزعة المتطرفة في البحث عن توافق سياسي عام، يكاد يصل لضرورة التوصل لاجماع، في كل القضايا الرئيسية والتحديات المطروحة على أجندة الثورة، وبين العداء للاختلاف. هذه النزعة، التي ترتدي ثياب العقلانية، تواجه معضلات عملية حقيقية تجعلها هي نفسها خطرا على الثورة.
مثلا، تقوم نزعة ضرورة بناء التوافق العام على عمل فوقي نخبوي. انظر الى الأغلبية الكاسحة من المبادرات المتعلقة بالدستور المقبل مثلا. إذ يجتمع عدد من خبراء القانون الدستوري والسياسيين لمناقشة وصياغة ما يعتقدون أنه الدستور الأمثل. أو حتى يدعونا البعض لخلق ما يسمى بالتيار الرئيسي الذي يعلنه ويصيغه مجموعة من الأكاديميين. وتصبح العملية هنا معكوسة. إذ عوضا عن خلق التوافق على مباديء عامة تشكل أساسا للدستور أو افكارا يمكن اعتبارها تيارا رئيسيا، على الأرض في خضم الصراع السياسي والاجتماعي بين الملايين، تصبح العملية في يد القلة العالمة. وهو مجهود مشكور لكنه سيواجه تحدي اقناع الجماهير، وهو مالا يحدث بسبب أن من يقومون بذلك لديهم في الغالب مشكلة تمثيل واضحة. فهم في نقاشهم هذا لا يعبرون عن اتجاهات محددة بين المصريين، ولا يمتلكون صيغة تنظيمية وسياسية تصلهم بهم لاقناعهم بما يتوصلون اليه من نتائج قد تكون عظيمة. وهكذا يصبح من الطبيعي أن تتعدد المبادرات بتعدد التوجهات بل أحيانا بحسب الميول الفكرية الفردية.
وتقوم نزعة بناء هذا النوع من التوافق على وهم أن مسار مابعد الاطاحة بمبارك يجب ان يستند على ما يشبه الاجماع، وهو أمر ينفيه واقع الأمر في المجتمعات الديمقراطية (هل حدث أبدا أن انتهى استفتاء أو عملية انتخابية في أوروبا وفي قضايا كبرى مؤسسة كالانضمام للاتحاد الأوروبي بنسب التسعين في المائة ولا حتى الثمانين؟) بل وينفيه تطور ثورتنا. فلم يكن هناك في أية لحظة إجماع كامل في أي مرحلة منها. انقسم المجتمع في موقفه منها في كل منعطف وإن بنسب تغيرت مع مرور الوقت لصالح تأييد من الأغلبية، عكس نفسه في ملايين المتظاهرين والمعتصمين وراء مطلب تنحي مبارك. لم نر اجماعا في اي وقت من الاوقات. أما توافق الأغلبية فقد تمت صياغته في الشارع ووراء المتاريس وفي مواجهة قوات الأمن المركزي وبدماء مئات الشهداء. تم إرساؤه على الأرض واستنادا على مصالح وقوى اتصلت في رغبتها في الاطاحة بهذا النظام الفاسد. وكانت القوة الدافعة لهذا التوافق هي الفعل الجماهيري العفوي البطولي.
وتكشف بعض مبادرات التوافق الفوقية تلك وهم بناء الاجماع من أعلى لأسفل، إذ تتأسس سرا أو جهارا على اقصاء بعض التيارات المختلفة معها أو حتى لمواجهتها. (توافق على دستور مدني في مواجهة الإسلاميين مثلا).
والحقيقة أن بناء التوافق الشعبي الحقيقي لا يمكن أن يتم في هذه المرحلة إلا عبر الاختلاف والصراع. فعبر الأحزاب التي تغرس نفسها في قواعدها الاجتماعية وبناء على مصالحها، تتبلور الرؤى السياسية المختلفة لمستقبل البلاد. ليس في المعمل وإنما في صلة هذه الرؤى بحياتها الحقيقية في الأحياء والقرى. وعبر النقابات التي تمثل العاملين والاتحادات التي تعبر عن أصحاب العمل، تبلور المصالح المختلفة نفسها اجتماعيا وسياسيا وتقاتل على خطوات عملية ملموسة. هكذا فقط تظهر الرؤى، بشكل واضح وغير مجرد، لتمثل قطاعا من المصريين يمكن قياسه، فيصبح التوافق والتحالفات إمكانية عملية حقيقية.
الاختلاف والتحزب وبناء التحالفات والجبهات، بناء على الوجود الفعلي في الشارع، هو طريقنا لبناء المجتمع الجديد. ففي قلب الصراع الاجتماعي وفي خضم معارك المصريين المستمرة من أجل الحرية ولقمة العيش يتخلَّق التوافق في بلادنا.. توافق حقيقي يستند على تأييد أغلبية المصريين. وهو توافق لا ينبع من عقل المثقف مهما كان ثوريا أو عبقريا، وإنما يتم انتزاعه في اختبار المعركة.
* عن صحيفة الشروق