هل يمكن تفادي دخول العالم في كساد آخر عميق يحول أسوأ كوابيس الرأسمالية العالمية إلى حقيقة؟ هكذا تساءل الاقتصادي الأمريكي الشهير نورييل روبيني في مقاله أمس في جريدة الفاينانشيال تايمز البريطانية العريقة تحت عنوان "المهمة المستحيلة: منع كساد جديد".
يشير روبيني إلى أن ماحدث في الولايات المتحدة على مدى الأسبوعين الماضيين، أي الجدل حول سقف الدين الحكومي الأمريكي ثم تخفيض مؤسسة ستاندارد آند بورز الائتمانية لتقييم اقتصاد الولايات المتحدة، لم يكن فقط إلا القشة التي قصمت ظهر البعير.
صحيح أن هذا التقييم كان دعامة أساسية للرأسمالية العالمية والتوازن الدقيق الذي أقامت حياتها عليه خلال السنوات الماضية، وأن تخفيضه، الذي لم يكن يعتقد أحد أنه ممكن، إذ كان يجعل من الأوراق الحكومية الأمريكية تقريبا بلا مخاطر، له عواقب وخيمة لا شك فيها. لكن الأمر يتجاوز قضية التقييم، وحتى قضية الدين الأمريكي، للاقتصاد الحقيقي الذي كان يوشك في كل الأحوال على دخول كساده الثاني الحاد في أعمق أزمات الرأسمالية منذ الثلاثينيات.
فقد شهد النصف الأول من العام الحالي تراجعا عالميا في النمو وصل لحد الانكماش في بعض الحالات. وكانت المؤشرات الاقتصادية الأمريكية سيئة للغاية في فرص التشغيل الجديدة والانتاج الصناعي والاستهلاك مع تراجع ثقة المستثمرين واستمرار الانقباض في قطاع الاسكان. ونفس الشيء يصدق على أوروبا، التي تواجه خطر افلاس عدة دول بها منها دولتان – إيطاليا وإسبانيا – هما أكبر من أن يتم مساندتهما ماليا، بحسب روبيني. وحتى القوى الصناعية الجديدة، كالصين والبرازيل، ليست في وضع إيجابي بتراجع مؤشرات الانتاج الصناعي العالمي.
الأمر لا يتعلق بالأساس إذن بحماقة عدم الانضباط المالي في أكبر اقتصاد في العالم. صحيح أن الأمريكيين ينفقون أكثر بكثير مما ينتجون ويضطرون للاستدانة مما خلق أكبر عجز في الموازنة الحكومية في تاريخ البلاد، وعجزا تجاريا قياسيا. لكن من قال إنه كان هناك خيار آخر من وجهة نظر أرباح الشركات، المحرك الرئيسي الذي يوشك أن يكون الوحيد في النموذج الاقتصادي الأمريكي، الذي هيمن على السياسة الاقتصادية العالمية في العقود الأخيرة؟
لقد قام الاقتصاد العالمي على معادلة هشة لكنها أخرت هذا الكساد الذي نراه الآن لسنوات. فقد قاومت الولايات المتحدة تراجع قوتها الاقتصادية ومن ثم السياسية بصفقة تحفظ أرباح مؤسساتها الكبرى وقت النمو العالمي مؤقتا من الأزمة. الصين تنتج وتصدر للمستهلك الأمريكي سلعها الرخيصة، بينما يستدين هو وحكومته لشرائها، بينما تمول الصين الدين الحكومي الأمريكي المتضخم بشراء الأوراق الحكومية الأمريكية، ذات التصنيف السوبر، ويبقى الدولار عملة العالم السوبر. الجميع كان يعرف أن هذا التوازن هش لكنه كان الحل الوحيد لابطاء تدهور معدلات الأرباح في أمريكا وخارجها.
من ناحية أخرى، كان عجز الميزانية الأمريكية المتضخم نتاج سياسة أخرى ذات طابع محلي، سياسة تعبر عن انحيازات سياسية واجتماعية واقتصادية واضحة للشركات الكبرى. فهذا العجز ترافق مع توجهين مرتبطين ببعضهما: أولا، تخفيض الضرائب على الشركات والأغنياء وتخفيض الفائدة من قبل الاحتياطي الفدرالي لتسهيل الاقتراض الاستثماري، مما تسبب في تجفيف موارد الدولة. وثانيا، تخفيض هائل في الانفاق الاجتماعي على الصحة والتعليم وفقراء الأمريكيين. ثم جاءت السياسة الاقتصادية، التي دفعت ثمنا باهظا لحماية مصالح الشركات الكبرى في الخارج بتمويل حربي بتريليونات الدولارات، لتقلب كل المعتقدات الاقتصادية بدعم خرافي للشركات المتداعية بفعل الأزمة المالية وصل لحد التأميم، لتدعم الموازنة الرأسمال الكبير بتريليونات أخرى، بعجز سيكون على المواطنين الأمريكيين سداده من جيوبهم.
في وسط كل هذا الوضع المأساوي، جاء الصراع، الذي هو سياسي في منابعه، بين الجمهوريين والديمقراطيين حول سقف الدين ليزيد الطين بلة لا أكثر. الصراع سياسي لأن الكونجرس نفسه الذي عليه أن يضع سقفا للدين، كان مقصودا من قانونه في الستينيات أن يتحكم البرلمان في الاقتراض، هو الذي يقرر الانفاق. رفض الجمهوريون رفع سقف الدين الذي طلبه الديمقراطيون دون تخفيض الإنفاق، وكان بالأولى تقليص الانفاق منذ البداية. هذا التنابذ السياسي أعطى انطباعا بأن الصفوف ليست موحدة في مواجهة الكارثة، مما كان دافعا إضافيا لقرار ستاندار آند بورز التاريخي.
الآن على الرأسمالية العالمية مواجهة واقع جديد: دولار أضعف بما لذلك من تداعيات هائلة على التجارة العالمية وعلى التوازن الهش الأمريكي الصيني. ارتفاع في تكلفة الاقتراض الأمريكي قد تؤدي لمزيد من التباطؤ وضعف القدرتين الحكومية وللقطاع الخاص على تحريك السوق. والحل؟ يقول روبيني إن الرأسمالية العالمية استخرجت كل الأرانب من قبعتها السحرية على مدى 3 أعوام في مواجهة الكساد المر الأول وإنه ربما تنجح إذ وصلت لصيغة "توسع فيها الانفاق الحكومي لتحفيز السوق على المدى القصير ثم تعود لسياسة تقشف على المدى المتوسط". ويتشكك روبيني قائلا: "ربما لم يعد هناك أرانب أخرى".
بل سيكون على الرأسمالية العالمية أيضا أن تواجه الحركة الاجتماعية المتصاعدة من الأغلبية الرافضة تحميلها مرارة الأزمة بعد أن مولت أرباح الكبار على مدى عقود من جيبها. (أنظر إلى اسبانيا واليونان وبريطانيا وحتى أمريكا نفسها في ويسكونسن).
هذا الواقع المرير الذي يمر به الاقتصاد العالمي، يضع تحديات جديدة أمام الاقتصاد المصري الذي يحاول تغيير مساره بعد الثورة. فالان انقطع الطريق أمام أساطير الماضي، التي تحاول شق طريقها مرة أخرى لحاضر ما بعد ثورة العدالة الاجتماعية. الاستثمار الأجنبي المباشر لم يعد بديلا متاحا ناهيك عن كونه حلا سحريا لمشاكلنا الاقتصادية. الوضع الجديد يسدل الستار أيضا على اوهام حزم المساعدات المبالغ فيها بشدة التي أعلن عنها في مؤتمر مجموعة الثمانية في مايو الماضي (بين 20 و40 مليار دولار لم نسمع عنها بعد انتهاء المؤتمر). أما التوجه للتصدير كمحرك للاقتصاد فأعتقد أنه سيكون غير واقعي في هذه الظروف الجديدة.
العالم الجديد يقودنا للبحث عن أرنبنا السحري في قبعة أخرى: تستند على مصالح المواطن المصري المنتج وتتوجه لاحتياجاته وتوسع إمكانياته بتسليحه بالصحة والتعليم والكرامة. تبني نفسها على السوق المحلية الواسعة وتستهدف التنمية. قبعة تمثل مصالح الأغلبية بنظام عادل في الفرص والعوائد. فقد انكشفت ألاعيب الساحر القديم.
* عن جريدة الشروق