غبار الشجاعيّة

[ ??? ?? ????? ??????? ???????? ???? ??????? ] [ ??? ?? ????? ??????? ???????? ???? ??????? ]

غبار الشجاعيّة

By : Molly Crabapple مولي كرابآپل


”رضينا بالهمْ والهمْ ما رضيش بينا.“

جلست ابتسام  تضحك في الغبار وحجابها المطرّز بالورود يؤطر وجهها العريض اللمّاح. لقد شهدت من الهم في خمس وأربعين سنة عاشتها في غزّة ما يجعل الضحك ردة الفعل الوحيدة.

مات زوجها في الانتفاضة الثانية بعد أزمة ربو سبّبها الضغط النفسي الذي تعتقد هي أن مصدره كان صوت دبّابة تقصف. ترك لها أربعة أولاد ربتهم هي. وقامت بذلك في بيت تسكنه أربع عوائل. محاط بأشجار الزيتون وقن دجاج وحديقة صغيرة زرعت فيها الصعتر البرّي.

لم يعد هذا البيت موجوداً. لا هو ولا حيّ الشجاعية، وذلك بسبب القنابل والجرّافات الإسرائيليّة أثناء عمليّة الدرع الواقي ضد غزّة في صيف 2014.

وكانت تلك ثالث عملية عسكريّة إسرائيلية شاملة النطاق ضد غزة منذ سيطرة حماس على القطّاع عام 2007. قتل الإسرائيليّون أثناء حملة القصف والاجتياح البرّي أكثر من 2100 فلسطيني بحسب الأمم المتّحدة، 70٪ منهم من المدنيين، ومن بينهم خمسمئة طفل.  وأصيب أحد عشر ألف. كما عثر تقرير الأمم المتحدة في حزيران عام 2015 على أدلّة تثبت ارتكاب جرائم حرب.
\"\"

[رسمة ابتسام]

ومع أن غزّة كلّها عانت أثناء الحرب، فإن حي الشجاعيّة تعرّض لتدمير استثنائي. عجز مترجم من غزّة، وهو رجل نحيف ساخر في الثلاثينيّات، عجز عن العثور على كلمات يمكنها أن تصف ما رآه هناك. ثم استقرّ على كلمة واحدة: «الجحيم. هل سأموت هنا؟» هذا هو السؤال الذي خطر بباله أثناء الحرب. «هل سأُتْرك تحت الشمس، منتفخاً، دون أن يحمل أحد جثتي؟»

امتد التدمير إلى الصناعة والبنية التحتيّة. فقد دمّرت إسرائيل، بحسب تقرير أعده الإتحاد الدولي لوكالات التنمية، شبكات المياه والجامعات ومحطّات ضخ المياه الثقيلة وأكثر من مئة معمل. ما زال خزّان الوقود الرئيسي في محطة كهرباء غزّة مهدماً. وقد ترك انعدام الأدوات الاحتياطية ربع السكّان بدون كهرباء. غرقت المستشفيات في الظلام ولم يكن بإمكان أهل غزّة العثور على أحبّتهم وكانت هناك شحة في الماء والطعام.

دمّرت الحرب 18 ألف وحدة سكنيّة وتركت 108 آلاف مشرّدين. قالت إبتسام إنّ الأنروا لم تساعدها، لكن منظمة المعونة الإسلامية أنقذتها. وهي تعيش الآن مع أولادها في «كرڤان» وفّرته وزارة العمّال في غزّة بعد بيع ركام بيتها مقابل 700 شيكل. ولأن راتب أرملة وابن واحد يعمل بشكل يومي لا يكفيان فقد اضطرّت إلى الاستدانة وتراكمت ديونها لكي تطعم وتكسو أطفالها. في بعض الأيام تقتات العائلة بأكملها على الخبز لوحده.

”نريد أن نقول للعالم بأننا مثلهم“ تقول ابتسام. ”لا نريد الحروب. لا نريد الحصارات. ولا نريد السلام لشهر واحد فقط، بل للأبد.“
\"\"

[رسمة مترجم من غزّة]

وبعد مرور حوالي السنة على نهاية عملية الدرع الواقي لم يتغيّر الكثير في الشجاعيّة . لقد تم ترميم عدد من البيوت لكن الكثير منها لا يزال ركاماً. أكوام من الوصفات الطبيّة تتطاير أمام بناية وزارة الصحة المدمّرة. وفي كل مكان هناك بيوت مدمّرة تبدو كطبقات كعكة، حشوتها شظايا الحياة اليوميّة: بطانيات و قدور طهي وقرائين وسيارات. شاهدت في إحدى الأكوام دفتر طفل متروك. ”عمّي يحصد العسل“ هو ما كان طفل بلا اسم قد كتبه على الصفحة الأولى.

طرّزت الكتابات جدران الكثير من البيوت: ”أحب غزّة“ بجانب قلب تخترقه قذيفة. ”ما زلت هنا“ رشاشات أي كي 47 رسمها مقاتل، و جدارية تظهر رجلاً يُنْزل الجدار العازل بين الضفة الغربية وفلسطين لكي يلقي نظرة على الأقصى. حاز بانسكي على اهتمام كبير برسوماته على أنقاض غزة، لكن هذا الفن أذكى بكثير. يمكن لبانسكي أن يأتي ويذهب، لكن هؤلاء الفنانين محبوسون هنا في ما يسميه الكثيرون سجناً في الهواء الطلق.

شاهدت العمّال يعدّلون أسياخ حديد التسليح أمام مستشفى الوفاء المقصوفة التي كانت فيما مضى مركز تأهيل للمصابين بالشلل.قصف الجيش الإسرائيلي هذه المؤسسة الطبيّة أثناء الحرب وعطّل الكهرباء وأجبر الممرضين على حمل المرضى ونزول السلالم في الظلام الدامس.

\"\"

[أنقاض مستشفى الوفاء في حي الشجاعيّة بغزّة ]

رفيق (30 عاماً) مهندس يعمل مع إحدى الشركات التي تعاقد معها برنامج الأمم المتحدة للتنمية لإزالة الركام. تنظيف مواقع القصف عمل صعب تقنياً لكن الحصار الإسرائيلي، الذي يحدّ من استيراد مواد وأجهزة البناء، يجعل الأمر أكثر صعوبة. كانت الحمير تجر حمولتها من الركام. والعمال يعدّلون أسياخ حديد التسليح بالأحجار وبأجهزة بدائية. أحياناً تعثر مجموعة رفيق على قنبلة لم تنفجر ويضطرّون للاتصال بالشرطة لتفكيكها. الجثث هي الأسوأ. ذات مرة تعثّر رفيق بطفل ميت كان ما يزال متشبّثاً بحقيبة المدرسة. وفي مرة أخرى وجد الفريق في حفرياته أمّاً تهشّم رأسها وهي تحمي طفلها وظل شعرها الطويل معلّقاً بالتراب.

لم يكن من المفروض أن يكون هذا حال الشجاعيّة. فبعد إعلان وقف إطلاق النار من قبل إسرائيل والفصائل المسلحة في 2014، اجتمعت الدول المانحة في القاهرة ووعدت بالتبرع بـ 3.5 بليون دولار لإعادة إعمار غزّة. لكن نشوة العلاقات العامّة تزول بسرعة ولم يعط المانحون بحلول نيسان 2015 إلا ربع ما كانوا قد وعدوا به.

وللتعامل مع شحّة الموارد فقد قسّم برنامج الأمم المتحدة للتنمية البيوت المدمّرة إلى ثلاث طبقات بحسب حجم الدمّار. وبحسب أشخاص يعملون على إزالة الركام فإن أصحاب البيوت التي تضررت بشكل بسيط هم الذين حصلوا على مبالغ أو مواد. وبحسب الغزّاويين الذين تحدثتُ معهم، فإن المعونة التي تم تقديمها لم تكن كافية في أغلب الأحيان لإصلاح ما دمّر.

إبراهيم أبو عمر (57 عاماً) واحد من الكثيرين من أهل غزّة ممّن أخذوا الإعمار على عاتقهم. قدم لي ولمترجمي الشاي في الهيكل الكونكريتي الذي سيصبح بيته. استغرق بناء العلبة الرمادية عشرة أشهر وكلّف 15 ألف دولار كان قد ادّخرها أثناء عمله كسائق شاحنة. واستدان مؤخراً 12 ألف أخرى. ومع كل هذا فلم يكتمل البيت بعد وما زال أمامه الكثير. يجثم الهيكل بجانب كتلة من الأعمدة الحديدية الملتوية التي تركتها شركة خاصة كان قد دفع لها كي تزيل الركام من أرضه.

يتذكّر إبراهيم حرب عام 1967. وما زال يتذكّر أشجار الليمون التي زرعها أبوه عندما كان هو صبياً. ويتذكّر 2006، عام فوز  حماس بالانتخابات وحصار إسرائيل الذي أعقبها. ”كل شيء دمّر بعد ذلك“ قال بحسرة.

اضطر لترك بيته أثناء عملية الدرع الواقي دون أن يحمل شيئاً باستثناء ما كان يرتديه. وركض في الشارع مع عائلته حتى وجد مدرسة أنروا بقي فيها لأسابيع. وعاد ليجد أن بيته وبيت ابنه المجاور قد اختفيا كليّاً. كانت الدبابات الإسرائيلية قد قصفت الوحدات السكنية لتفتح الطريق أمام الجنود الإسرائيليين لكي لا يضطروا للتحرك في الشوارع بشكل مكشوف. وما بدأته القذائف أكملته الجرّافات. وجثم بيت إبراهيم تحت ركام بيت ابنه.

بعد إعلان وقف إطلاق النار أعطت الجمعيّة الخيرية التابعة لحماس عائلة إبراهيم ألفي دولار. واختفى المبلغ بسرعة على الطعام والأساسيّات الأخرى. وحين بدأ بإعادة البناء طلبت حكومة غزة المحليّة منه 2500 دولار لتسجيل بيته الجديد وربطه بشبكة الكهرباء. كانت هذه واحدة من حكايات كثيرة سمعتها عن قيام الحكومة المحلية باستخدام دمار بيوت الناس لجباية ضرائب ورسوم. أعطوه بعض النقود في البداية على الأقل. قال إبراهيم إن المنظمات غير الحكومية التي تملأ غزّة لم تعطه شيكلاً واحداً. لكن الأونروا توقّفت عنده والتقطت بعض الصور.

سألته عن رأيه بحماس. فضحك ثم نظر بريبة جانباً. ”إذا كنت مع حماس فستكون لديك حياة جيدة. وإذا لا. . . “ كان إبراهيم موظفاً مع السلطة الفلسطينية التي أمضى جناحها الرئيسي فتح العقد الماضي بأكمله في صراع، عنيف أحياناً، مع حماس. قال لي موظفو السلطة الفلسطينية الذين يعيشون في غزّة إنّهم لا يذهبون إلى العمل إلى الآن، بالرغم من استلام الرواتب. لكنهم رفضوا أن يذكروا السبب.

في هذه الأثناء تواصل إسرائيل فرض حصارها على مواد البناء القادمة إلى غزّة مدعيّة بأنها تريد الحيلولة دون استخدامها من قبل حماس في بناء الأنفاق إلى إسرائيل ومصر. وبحسب غيشا، وهي جمعية حقوق إنسان إسرائيلية، فقد سمحت إسرائيل بدخول 1.3 طن من مواد البناء إلى غزّة منذ أيلول. وهو خمس ما يقدّر الخبراء أن القطاع يحتاجه لإصلاح أضرار الحرب. وهذا النزر لا يكاد يكفي. إذ تقدّر منظمة أوكسفام بأنه على هذا المنوال ستستغرق إعادة البناء مئة سنة. هذا إذا افترضنا أن إسرائيل لن تغزو غزّة من جديد.

أشار إبراهيم إلى جرادل من الإسمنت وقال إنه بسبب الحصار فإن بإمكانه أن يشتري مقادير للجدران، ولكن ليس للسقوف. مزجها مع الماء ليجعلها خفيفة لكنه كان متوجسّاً من أن السقف سيتهدّم بعد سنوات قليلة.

«لا يوجد مهندسون. ولا أحد يراقب. يتهدّم البيت ولا أحد يهتم.» حرك يديه معبّراً عن تقزّزه. «ماذا يفعل المرء؟» وهذا هو التعبير الذي سمعته مراراً وتكراراً في غزّة.

\"\"

[صبي يحفر في ركام ما كان بيته]

على بعد مئتي قدم كان صبيّان يحفران في ركام بيت كبير كان مسكناً لثمانين شخصاً. جدهما، عز أبو محمد العجلة، يملك شركة مقاولات صغيرة كانت قد وظّفت أبيهما. لكن أدوات الشركة وعجلاتها كانت مدفونة تحت طبقات من الكونكريت المحطّم. كان الصبيان يحفران التراب بالمسحاة لأنهما تعوّدا ذلك. لا لإيمانهما أن هناك ما يمكن أن يعثرا عليه.

قال لي العجلة «لا تبك على من فقد أمواله. بل ابك على من فقد عمله». كان رجلاً فارع الطول وبخدّين بارزين، وسيماً حتى في عمره. كانت الحرب قد كلّفت عائلته الكثير. فقد أصيب ابنه برصاصة في كاحله. وفقدت زوجته طفلها. حين هربت العائلة من القنابل كانت من المرض بحيث أن بناتها اضطررن إلى حملها. عاشت العائلة بأكملها محشورة في غرفة واحدة في مدرسة يأكلون السمك والفاصولياء المعلبة. وبسبب الزحام كانت هناك شجارات مع جيرانهم. وشاهدت النساء في كوابيسهن الزجاج والغبار والجدران المهتزّة.

بعد الحرب أعطت حماس العجلة ألفي دولار للإيجار وذلك لعائلة قوامها 80 شخصاً. ونفد المبلغ بعد شهرين.وأخذ العجلة يعمل على ترميم مبنى لتعيش عائلته فيه. فاشترى أجهزة مستعملة وبدأ يصلّح الحمّامات والأبواب والشقق. وبينما كان يعمل اتصل به موظف من الأمم المتحدة واقترح عليه أن يسجّل لاستلام المعونات. قدّر موظفو الأمم المتحدة الأضرار في بنايته بـ ١٧ ألف دولار. لكن العجلة قال لي إنه عندما ذهب إلى مكتب الأمم المتحدة لاستلام الصك ادّعوا أنهم وعدوه بمبلغ 10700 وأنّهم سيدفعون له بقسطين. ولأنه كان متخوفاً من عدم الحصول على أي مبلغ فقد وافق على المبلغ الأوطأ واستمر بالعمل بصب الإسمنت وبناء السقوف مع أولاده. ودفع ألفي دولار من جيبه كان موظفو الأمم المتحدة قد أكدّوا له أنهم سيعوضونها. جاء الصك الأول بمقدار 4 آلاف دولار مع قطعة تحمل شعارات برنامج الأمم المتحدة للتنمية وصندوق النقد العربي والمصرف العربي للتنمية الاقتصادية قي إفريقيا. وأعلنت القطعة بفخر أن هذه المجموعات ساهمت بكرم في إعادة بناء 600 وحدة سكنيّة تضررت في الحرب.

ولم يسمع بعدها من الأمم المتحدة.

حين سألت العجلة عن القطعة رفع ذراعيه باحتقار.

«نحن مقاولون، بإمكاننا أن نبني البيوت» قال العجلة بصوته الجهوري. «لسنا بحاجة إلى مساعدة. إعطونا النقود فقط. كلّف الإسمنت وحده لهذه الجدران 6000 آلاف دولار.

ولم يكن الوضع أفضل مع برامج المنظمات غير الحكومية. انتظر العجلة وعائلته في الطابور لساعات لاستلام المعونة التي اتضح فيما بعد أنها كوبونات لسراحيّات ماء بلاستيكيّة رخيصة و رز قديم عمره 30 سنة وجبن «حتى الأبقار لا تأكله.»

قال لي العجلة: « لا تهمني السياسة. كل ما يهمني هو عائلتي. فلماذا يحصل هذا؟»

\"\"

[رجل يجلس داخل أنقاض بيته في حي الشجاعيّة بغزّة]

يعتقد الساسة الإسرائيليون على اختلاف مشاربهم أن حماس هي السبب في كل هذه المشاكل. ولأن الغزّيين انتخبوا حماس عام 2006 ولأن الحركة فرضت سيطرتها على القطاع عام  2007 فمن حقهم أن يفعلوا ما يريدونه.

ليست حماس تهديداً بحد ذاتها. فهي تمتلك صواريخ ليست ذات تأثير. منذ عام 2007  قتلت هجمات الصواريخ والهاون 44 شخصاً داخل إسرائيل. حكومة حماس المحلية مفلسة إلى درجة أن الكثير من موظفيها لا يستلمون رواتبهم لأشهر بأكملها. وقبل تدمير معظم أنفاق التهريب كانت بمثابة شرايين الحياة الاقتصادية لسكان القطاع.

لكن الساسة الإسرائيليين مهتمّون بحماس من ناحية العلاقات العامة. فبإمكانهم أن يصوروا عدوانهم على أنه دفاع عن النفس.

تتذرّع إسرائيل بحماس لتبرير مئات الخروقات لوقف إطلاق النار وتحديدها لحركة الغزيين والحصار الذي دمّر اقتصاد غزّة والذي طحن مستقبل سكانها حتى أصبح بنعومة غبار الشجاعية.

بغض النظر عمّا إذا كانت حماس مخطئة أم لا، فإن غزّة تعاني. وبالرغم من عدم وجود أي دليل على تورط مسؤولي حماس، فإن اختطاف وقتل ثلاثة مراهقين إسرائليين في الضفة الغربية أعطى تبريراً لنتانياهو ولعملية الدرع الواقي. في الأيام التي أعقبت الاختطاف قصفت إسرائيل غزّة جواً واعتقلت مئات الفلسطينيين، بضمنهم معظم قيادات حماس في الضفة الغربية. وحين ردّت حماس بالصواريخ حصلت إسرائيل على ذريعتها للحرب المعلنة.

في آخر ليلة لي في غزّة شهدتُ هذا الانتقام على مستوى أصغر.

أطلقت حركة سلفية تعارض حماس ثلاثة صواريخ على إسرائيل سقطت على حقل وأحرقت دائرة صغيرة من العشب. تحمّل إسرئيل حماس مسؤولية أي هجوم بالصواريخ قادم من القطاع حتى لو كان مطلقوه أعداءها. وكان أزيز الطائرات بدون طيّار أقوى من العادة فوق رؤوسنا تلك الليلة.

جلست على شرفة شقتي التي تطل على ساحل غزّة حيث يعرض الأولاد الصغار تأجير جولات بالقارب ويدخن الرجال والنساء الأرجيلة. قبل سنة، قتلت القذائف الإسرائيلية أربعة أطفال على هذا الشاطئ. وبعد أسبوع من زيارتي برّأت لجنة تقصى إسرائيلية الجيش من أي خطأ.

يتصاعد صوت الطائرات. وأرى في أفق البحر وخزات ذهبيّة؛ إنها أضواء البارجات الإسرائيلية. ثم أسمع زمجرة الطائرات. 

كانت هذه أصواتاً عاديّة في ليلة عادية، في تلك المدينة غير العادية، والمحاصَرة والعصيّة.

وبحلول منتصف الليل كانت القذائف تسقط من جديد.

* بعض الأشخاص رفضوا إعطاء أسمائهم.

 

[ترجمة سنان أنطون. تنشر جدليّة النص بالاتفاق مع الكاتبة. نشر النص الأصلي بالانكليزية على موقع Vice في 30 حزيران 2015]

 

[جميع الرسومات المستخدمة من رسم الكاتبة]

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • جدي البوندي

      جدي البوندي

      حاول جدي الأكبر (جد أمي)، فنان ما بعد الانطباعية، «سام روثبورت»، في السنوات الأخيرة من عمره أن يعيد، بالرسم، عالم طفولته الفاني في القرية (أو «الشتيتل»، كما تعني باليديشية) إلى الوجود. من بين مئات الرسومات المائية التي أسماها «رسومات الذاكرة»، برزت رسمة واحدة.

قصائد مُختارة للشَّاعر الإيطالي إيوْجِنيو مونتالِه

 

 

 

 

 

 

 

قصائد مُختارة للشَّاعر الإيطالي إيوْجِنيو مونتالِه Eugenio Montale  (1896-1981)

اختارها وترجمها وقدَّم لها: أمارجي


تقديم


لا غُلواءَ إنْ قلنا: القصيدةُ، هنا، تنكيلٌ بالزَّمن، نهشٌ بالمغاليق-، 

     (نصٌّ مخلبٌ) 

     (نصٌّ نصْلٌ) 

ههنا، الزَّمنُ ثالثٌ، موَّارٌ بِشكِّه ولا يستوثِقُ إلا الذي فيه؛ زمنٌ مختمِرٌ في صَدَفةِ الكمَدِ الوجوديِّ، يتفلَّعُ ويعلو في خمائره مثل شجرةٍ تمتاحُ ماءَ نفسِها، ثمَّ تحترقُ وتهوي بغتةً في رمادِ نفسِها؛ زمنٌ شغلُه الفتلُ والتَّحويلُ والتَّمزيق، تهييجُ "هلاساتٍ تَورِياتيَّة" تحت الجلالِ الهُدهُديِّ للنِّسيان، حين اللازمنيُّ تناصٌّ مع الزَّمنيِّ، تحريشٌ به. الهدهدُ نفسُه رمزٌ لصنيعِ مونتالِه الشِّعريِّ، إنَّه بهلوانُ الزَّمنيَّة المونتاليَّة الذي يجمِّدُ ويحرِّكُ في آنٍ معاً، مُقنبَرَاً بعَوْفِه الكونيِّ. ولا يُشْكِلَنْ علينا هذا اللَّيَاحُ الزَّمنيُّ المبهِر، هذا العماءُ الأصلُ المستعادُ عبرَ انتفالِ اللغةِ مِن سَقطةِ المواقيت، وانتفالِ المواقيتِ مِن سَقطةِ اللغة؛ لا يَنطَلِيَنْ علينا انتحالُ العدَمِ أسرَّةَ اليقين: الزَّمنُ المشاكِلُ للَّازمنِ والمشكِلُ به هو، ببساطةٍ، الزَّمنُ المنكِّلُ، هو المعتصِرُ بهاءاتِ الأمسِ في مِهرازِ الرَّاهن. لا لبسَ، إذَّاكَ، أنَّ الزَّمنين الآخرين المنكَّل بهما، المقطَّعَين بِحَزازِ ساعاتٍ مسترخيةٍ في عزلةٍ من الأبديَّةِ والأفولِ على حدٍّ سَواء، ليسا إلا الزَّمنَ الوضعيَّ اليقينيَّ، الموصَدَ بين قبلٍ وبعد، والزَّمنَ الشِّعريَّ الغيبيَّ، المفتوحَ بين أزلٍ وأبد؛ فالزَّمنُ القيُّومُ على النَّصِّ لا تستقيم قيُّوميَّتُه إلا بجرشِ ذينك الزَّمنين في بعضهما، عَجناً لهما مِن ثَمَّ في نَتْنِ العَصر. هكذا، يبدو الزَّمن عند مونتالِه تجسيداً لرعبِ اللحظةِ الحاضرة، اللحظةِ المتورِّمة بذاكرةٍ مُدَلَّاةٍ، كسيفِ ديموقليس، على رأس الواقع، فيما الواقعُ إيَّاه يتوسَّلُ الرَّمزَ مِرفعَاً له مِن طينِ نفسِه. 


*   *   *

     (نصٌّ مخلبٌ يهرِّئُ)

     (نصٌّ نصلٌ يَقْشُرُ) 

لكن، ما المغاليقُ المنهَّشة، وما المغاليق المتِمَّةُ - في النَّصِّ المونتاليِّ - ثمرةَ الرؤيا؟ ذلك مأزقٌ آخر يقتضي من القارئ قفزةَ اجتناء؛ لأنَّه كما في جدليَّة الزَّمن، كذلك في جدليَّةِ الاستغلاق الشِّعريِّ، يفتح الشَّاعرُ هُوَّاتٍ أكيدة بين الحضورات ووعيها، يبتئرُ الحضوراتِ بفأسِ الغيب، مُفلِتاً الصُّورَ تتوهَّسُ الغيابات. بهذا المعنى، يتشكَّلُ المؤدَّى النِّهائيُّ للنَّصِّ أوَّلاً مِن دَهْمِ إبهاماتٍ بعينِها،- الإبهاماتِ الهِيْمِ المنفصلة المرتَجَة، ببعدِها البرناسيِّ المصْمَتِ على نفسِه-، والتَّفجيرِ فيها؛ وثانياً مِن تدسيمِ إبهاماتٍ رؤيويَّةٍ، وإيثاقها بالواقع المرمَّز، ببعدِها الإلاحيِّ المفتوح على الممكِن الإنسانيِّ. إنَّه فضاءٌ شعريٌّ مغاليقه إيماءٌ إلى مفاتيحه، لا طمسٌ لها؛ فضاءُ ابتناءٍ على التَّخريب، ورقشٍ على التَّمْحية، ووصْلٍ على المصارَمة. وفي هذا الفضاء ليس همُّ الشَّاعر إعلاءَ المستغلَقِ وتوطيدَه، بل حملَه كما هو وتقريبَه ومناجاته. وإذا كان كلُّ شاعرٍ سارقَ نارٍ، أمكنَ القولُ إنَّ نارَ مونتالِه هي هذا الزَّيغ الازدواجيُّ: زَيغُ التَّعمية نحوَ برَّانيَّةٍ حسِّيَّة، وزَيغُ الحسِّيِّ نحوَ إبطانٍ اذِّكاري. 


*   *   *

تلك مُحاجَّةٌ تخاشِنُ النَّصَّ في أناه. تَبْهَتُ الأنا في السُّؤالِ عن أناها؛ تَخبُلُها بالمرايا. المرآة انتقامُ الآخَر من نَرجِسَةِ الشِّعر؛ تَشَفِّي المنقصةِ من المثال. كلُّ مرآةٍ أمام نصٍّ هي، قطعاً، فِعلُ خلخلةٍ وهتكٍ، افتضاحٌ للآخرِ في الأنا، وللأنا في الآخَر. التَّفتُّحُ أو التَّشظِّي نُهْيَة ذلك؛ فإمَّا المرآة وإمَّا النَّصُّ. هنا، ثمَّة تراجعٌ في الشِّمراخِ الأنَويِّ، أو تقلقلٌ له في تربةِ اللانهائيِّ: باكْتِناتٍ خجول. العثكالُ الهائلُ، عثكالُ الأنا الشِّعريَّة، أنا الفتوحاتِ والنِّهاياتِ، العزلاتِ والمجابهات، يوهمنا أنَّه متمَّمُ العُقر حيالَ مادَّةِ إخصابِ الكونيِّ الذي تزعمه الأنا بَعلاً أبديَّاً لها، ولكن ما يفعلُه بحقٍّ هو أنَّه يطرحُ، إفاضةً، بُسُرَ الكلِّيَّات عِبرَ أسديةِ المجزوءات، استيلاداً بعدئذٍ للجوهريِّ من الزَّائل، والثَّابتِ من الآنيِّ، وتثبيتاً للمولِّدات والمتولِّدات في بعضهما. لكأنَّ الأقنومَ المتعبِّدَ لذاتِه، أقنومَ الأنا، لا يكتملُ إلَّا بلُحمتِه بالآخَر وانصهارِه فيه وانتصارِه له. الأنا المُحيقةُ بالآخر وبالكون هي، في هذا الشِّعر، مَحِيقةٌ بهما، ولا تتنفَّسُ إلا برئاتِهما. رئاتٌ كلماتٌ تتدبَّرُ انصبابَها، دون زلَلٍ، في هذا الزَّيغ، واستدادَها في هذا الالتواء. 


*   *   *

(نصٌّ مخلبٌ) يهرِّئ المطلَق؛ 

(نصٌّ نصلٌ) يقشرُ الأبديَّةَ عن حجرِ اللحظة؛ 

يجتعفُ عروقَه مثلَ حجَّارٍ، 

ثمَّ، مثلَ مثَّالٍ ينحتُه. 



النُّصوص:


أيُّها الهُدهُد، يا طائر الغبطةِ المُتَّهَم


أيُّها الهُدهُد، يا طائر الغبطة الذي تقوَّلَ عليه 

الشُّعراء، يا مَن تدوِّرُ عُرفَكَ 

فوق العمود الهوائيِّ لقنِّ الدَّجاج، 

وكمثلِ ديكٍ اصطناعيٍّ تدورُ مع الرِّياح؛ 

رسولٌ ربيعيٌّ أنتَ، يا هُدهُد، كأنَّما 

الزَّمن يتجمَّدُ عبرَك، 

وشباطُ لا يموتُ [بحضورِك]، 

كأنَّ كلَّ شيءٍ في الخارجِ يتحرَّكُ 

وفقاً لحركةِ رأسِك، 

أيُّها المجنَّحُ الغريب، وأنتَ تتجاهلُه. 



الشُّرفة


مُعابثةً بسيطةً بدا لي 

تحوُّلُ الفضاءِ المفتوحِ [كلِّيَّاً] عليَّ 

إلى عدم، ونارِكِ الأكيدة 

إلى ضجرٍ غامضٍ مُزعزَع. 


بذلك الخواء وحَّدْتُ الآنَ 

كلَّ رغبةٍ مِن رغباتي البطيئة؛ 

فوقَ العدمِ الشَّاقِّ ينبثق 

قلقُ البقاءِ حيَّاً في انتظارِك. 


حياةٌ تهَبُ وميضاً 

هي وحدُها الحياة التي تُبصِرين. 

نحوَها تخرُجين  

مِن هذه النَّافذة التي لا تضيء.  



مجدُ ظهيرةٍ مسترخية


فلتتمجَّد هذه الظَّهيرة المسترخية 

حين الأشجارُ لا تصنعُ ظلَّاً، 

وهيئاتٌ صُفْرُ مُحمرَّة تتكشَّفُ حولي 

أكثر فأكثر، عبرَ ضياءٍ مُفرِطٍ. 


الشَّمسُ، عالياً-، ومجرىً نَشِفٌ. 

نهاري لم ينقضِ بعد: 

السَّاعة الأبهى تقبعُ خلف الجدار 

الموصَدِ على أفولٍ مُمتقِع. 


القيظُ في الأنحاء؛ طائرُ رفرافٍ 

يحومُ فوق رُفاتِ حياةٍ. 

فيما وراءَ الكَرْبِ ثمَّةَ المطر، 

لكنَّ فرحاً أكثر اكتمالاً يترصَّد. 


أرسِنْيو1


هي ذي زوبعاتٌ يرفعْنَ الغبارَ،  

في دُوَّاماتٍ، على الأسقُف، والمفازاتِ 

المقفِرة، حيث الجيادُ المقلْنَسَة 

تتشمَّمُ الأرضَ، واقفةً حيالَ البلَّورِ، 

بلَّورِ الخاناتِ الثُّلاجيِّ البرَّاق؛ 

فيما تتحدَّرُ أنتَ على الدَّربِ، مواجهاً البحرَ، 

في هذا النَّهارِ المنذِرِ

بالمطرِ حيناً والمتَّقدِ2 حيناً، كترديدِ نواقيرٍ 

يريدُ تشويشَ العقدةِ الملتحمةِ 

لساعاتٍ 

كلُّ واحدةٍ منها طِباقُ الأخرى. 


ها إلماعةٌ مِن لَدُنْ مدارٍ آخر: اتبعها. 

اهبطْ نحوَ الأفق المعتلَى 

مِن قِبلِ شاهقةِ ماءٍ3 رصاصيَّةٍ عاليةٍ على اللُّجَج 

وأعتى منها تدويماً: هالةٌ أجاجٌ ملَولَبةٌ، 

ينفخها العنصرُ الثَّائرُ4 

نحوَ السَّحاب؛ دع عبورَكَ 

يخشخش الحصباءَ مِن تحته وتعثَّرْ 

بتشبُّكِ الطَّحالب: علَّ تلك البرهة، 

المشتهاةِ مِن زمنٍ بعيدٍ، تُنجِّيكَ 

مِن اختتامِ طَوافِك، مِن حلقاتِ هذي 

السِّلسلة، مِن ترحُّلٍ بلا حراكٍ، 

آهِ أرْسِنيو، يا هذيان الثُّبوت 

الجليَّ تمامَ الجلاء... 


أصغِ بين النَّخل إلى رشقاتِ الكمنجاتِ 

الرَّاعشة، يخمدُها تدحرُجُ الرَّعدِ 

مختلجاً كمثل صفيحٍ معدنيٍّ طُرِقَ 

للتَّوِّ؛ عذبةٌ هي الأنواءُ عندما ينبلجُ 

نجمُ الشَّعرى اليمانيَّة ببياضِه 

في أفقٍ أزرق، فيبدو بعيدَ المنال إذَّاكَ

المساءُ الموشِكُ: مساءٌ إذا ما شقَّقَه البرقُ 

تفرَّعَ مثلَ شجرةٍ جليلة 

في قلب ضياءٍ ينقلبُ الآنَ ورديَّاً: الدَّفُّ 

الغجريُّ قرْعٌ أبكمُ.


انزل سُدَفَ الظَّلام الذي يهوي 

ويُحيلُ الظَّهيرةَ ليلاً طافحاً 

بأجرامٍ وقَّادةٍ تتهزهزُ على الشَّاطئ،- 

وفي البعيد، حيث ظلٌّ مفرَدٌ 

يشغَلُ البحرَ والسَّماء معاً، تنبضُ مِن مراكب مبعثرة 

سُرُجُ الأسِتيلين5- إلى أن تتقطَّرَ السَّماءُ 

مرتعدةً، وينفثَ التُّرابُ الذي يرتوي أبخرتَه، 

بَينا كلُّ ما حولِك يُختَضُّ فيك، والمظلَّاتُ الرَّخوةُ 

تخبطُ خبطَ عشواء، وحفيفٌ هائلٌ 

يسوِّي الأرضَ، والمشكاواتُ الورقُ في الأسفل 

تترهَّلُ، مزمهرةً، على الطُّرقات. 


هكذا، تائهاً وسطَ الأماليدِ 

والحُصُرِ المتهاوية، أيُّها الأسَلُ المجرجِرُ معه 

جذورَه الدَّبقة، المحالُ انتزاعُها، 

ترجفُ إزاءَ الحياة وتندفعُ صوبَ 

فراغٍ يتصادى بنُوَاحاتٍ 

مخنوقة، يبتلعُك ثانيةً امتدادُ 

موجة الماضي الذي يطويك؛ ومرَّةً أخرى 

كلُّ ما يتملَّكُك، الطَّريقُ، سُدَّةُ الباب، 

الأسوارُ، المرايا، يغرزُكَ من جديدٍ 

في الزُّمرةِ المجمَّدة، زُمرةِ الموتى،

فإذا ما مسَّتكَ حركةٌ ما، أو وقعت بقربكَ 

كلمةٌ، فتلك، يا أرسِنيو، 

في السَّاعةِ التي تنحلُّ، إيماءةُ حياةٍ مخنوقةٍ 

تنهضُ فيكَ، وعمَّا قليلٍ 

تبدِّدُها الرِّيحُ مع رمادِ الكواكب.


التَّاريخ 


التَّاريخُ لا يُفَكُّ 

كما تُفَكُّ سلسلةٌ

موثَقةُ الحلقات. 

في كلِّ حالٍ 

ثمَّة حلقاتٌ لا تُستَوثَق. 

التَّاريخُ لا يتضمَّنُ 

الماقبل والمابعد، 

ولا شيء فيه يتشكَّى 

على نارٍ خافتة. 

التَّاريخ لا يصنعُه 

مَن يفكِّر فيه ولا مَن 

يتجاهلُه. التَّاريخ 

لا يفتح طريقاً، بل يعانِد، 

وينفُرُ قليلاً قليلاً، لا يتقدَّمُ 

ولا يرتدُّ، يصيرُ سكَّةً 

وجهتُها ليست 

في جدولِ المواقيت. 

التَّاريخ لا يبرِّرُ 

ولا يُعزِّرُ، 

التَّاريخ ليس ذاتيَّاً 

لأنَّه [أصلاً] خارج الأشياء. 

التَّاريخ لا يمنحُ ملاطفاتٍ ولا ضرباتِ مِقرَعة. 

وليس التَّاريخ الملقِّنَ 

لأيِّ شيءٍ يتَّصلُ بنا. فَهمُ التَّاريخ لا ينفعُ 

في جعله أكثر صدقاً وأكثر عدلاً. 

التَّاريخ، مِن ثَمَّ، ليس 

المحراثَ المخرِّبَ كما يزعمون. 

إنَّه يترك وراءَه أنفاقاً ومغاورَ وحُفَرَاً 

وكمائن؛ فيها منجىً لحياةٍ ما. 

التَّاريخ رقيق الحاشيةِ كذلك: لا يدمِّرُ  

إلا بقدرِ ما يستطيع: لو أنَّه غالى، 

لكانَ أفضل، ولكنَّ التَّاريخ تُعوِزُه الأنباء، 

وهو لا يُكملُ انتقاماتِه أبداً. 

التَّاريخ يحُكُّ القاع 

كشبكةِ صيدٍ مهترئة، 

تتملَّصُ منها سمكةٌ أو أكثر. 

أحياناً يلامسُ الغشاءَ البلازميِّ 

لإحدى النَّاجيات فلا تبدو مغتبطةً بذلك. 

تجهلُ أنَّها صارت خارجاً، الكلُّ يجهل. 

الأخريات، داخلَ الجِراب، يحسبن 

أنَّهنَّ أكثر حرِّيَّةً منها. 



الليمون 


أصغِ إليَّ، الشُّعراءُ المتوَّجون بالغار 

يتنقَّلون فقط بين النَّباتات ذاتِ الأسماء 

النَّادرةِ التَّداول: بَقسٌ لِيغُستُرُومٌ أو أقَنْتة. 

أمَّا أنا فأحبُّ الشَّوارع التي تشبه وِهاداً 

مُعشَوشِبة حيث يقبضُ الصِّبية، 

في مستنقعاتٍ نصف مجفَّفة، على 

سمكةِ أنقليسٍ هزيلة: 

الزُّنَيقاتُ التي تقفو حوافَّ المنحدَر، 

تتحدَّرُ وسطَ لِمامِ القصب 

وتحطُّ في الحقول، بين أشجار الليمون. 


ليتَ ضوضاءَاتِ الطُّيور 

تنطفئ مبلوعةً بالزُّرقة: 

لَكانَ همسُ الغصونِ الرَّفيقة 

أشدَّ اتِّضاحاً في هواءٍ بالكادِ يتحرَّك، 

وكذا قوَّةُ هذا العبق 

الذي لا يحسنُ الانسلاخَ عن الأرض، 

ولَأمطرتْ في الصُّدور عذوبةً قلِقة. 

هنا حيثُ تنشرحُ الشَّهوات 

تخرَسُ الحربُ، كما لو بفعلِ مُعجزة، 

هنا، نحن الفقراء أيضاً لنا نصيبنا من الثَّراء، 

لنا عبقُ الليمون. 


انظرْ، في هذه السُّكونات- التي فيها 

تذعِنُ الأشياء وتبدو قريبةً 

مِن نقضِ سرِّها الأخير، 

نرتقبُ آنذاك 

أن نكشفَ خطأ الطَّبيعة، 

مُنتهى الكون، الحلقةَ التي لا تمتسِك، 

خيطَ الخلاصِ الذي يضعنا أخيراً 

في صُلبِ الحقيقةِ، 

ها العينُ تنقِّبُ في الأنحاء، 

ها العقلُ يتحرَّى يوائمُ ويفرِّقُ 

في العطرِ الذي يتفشَّى 

كلَّما خفتَ النَّهارُ أكثر. 

إنَّها السُّكوناتُ التي عندَها 

تُرى في كلِّ ظلٍّ بشريٍّ يُنائي 

ألوهةٌ متكدِّرة. 


ولكنَّ الوهمَ مُخِلٌّ [بمواثيقه]، والزَّمنُ يحملُنا 

نحوَ مدنٍ صاخِبةٍ حيث الزُّرقةُ لا تَبِينُ 

إلا مُشظَّاةً، عالياً، بين التِّيجان الحجريَّة. 

المطرُ يرهقُ الأرضَ، فوقَ ذلك؛ 

والضَّجرُ الشِّتائيُّ يتكاثفُ فوق البيوت، 

الضَّوء يشِحُّ- والنَّفْسُ تكْمَدُ. 

كذا الأمرُ، عندما ذاتَ نهارٍ، عبرَ بابٍ مواربٍ 

بين أشجار أحدِ الأفنية 

تتجلَّى لنا صُفراتُ الليمون؛ 

فينحلُّ جليدُ القلب، 

وفي الصَّدرِ تُمطِرُنا 

بأغانيها- دَفقاً

أبواقُ العزلةِ الذَّهبيَّة. 


قصيدة حُبٍّ 


متأبِّطاً ذراعكِ، هبطتُ على الأقلِّ ملايين الأدراج، 

ولكنَّ غيابكِ الآنَ يُعلِن الخواءَ دَرْجةً دَرجة. 

كذلك، أيضاً، قصيرةً كانت رحلتُنا الطَّويلة. 

رحلتي أنا لم تنتهِ بعد، ولم يعدْ لزاماً عليَّ 

ضبطُ المواقيت، ولا الحجزُ المُسَبَّق، 

لا التَّحايلُ، ولا احتمال مذلَّةٍ ممَّن يحسبُ 

أنَّ لا حقيقة إلا ما يُرى. 


هبطتُ ملايين الأدراج متأبِّطاً ذراعكِ، 

ليس لأنَّ المرء بأربع عيونٍ قادرٌ على الرُّؤية أكثر. 

معكِ هبطتُها لأنَّني كنتُ أعلمُ أنَّ

بؤبؤيكِ أنتِ هما وحدهما الحقيقيَّان لي ولكِ، 

مهما يكن إعتامُهما. 


حياتي 


ها حياتي، لست أطالبُكِ بخطوطٍ  

محدَّدة، ولا بوجوهٍ مُقنِعة، ولا بأملاك. 

في دورانكِ المضطرب سيَّان الآنَ 

مذاقُ العسلِ والإسفنط6


القلبُ الذي كلُّ حركةٍ منه تعويلٌ 

على ما قلَّ أو حقُرَ مزعزَعٌ الآنَ بالرَّجفات. 

على المنوالِ نفسِه تصدحُ بين حينٍ وآخَر  

في صمتِ الحقول طلقةُ بندقيَّة. 



الزَّوبعة 


الزَّوبعة التي تتصبَّب على أوراق الماغنوليا 

القاسية، الرُّعود الآذاريَّةُ المديدة، 

وحبَّاتُ البَرَدِ الدَّافقة، 

(الأصوات الكريستاليَّة التي تباغتُ

عشَّكِ الليليَّ، أصواتٌ ذهبيَّة 

تخمدُ على خشب الماهوغوني، على الكتبِ 

المعاد تجليدُها، فيما يضطرمُ 

مكعَّبُ سكَّرٍ في قوقعةِ جفنيكِ) 

البرقُ الذي يبيِّضُ 

الشَّجَرَ والأسوارَ ويصعقها في أبديَّةِ 

هذه اللحظة  – مرمرٌ تِبنٌ 

وخرائب- الرَّقشُ الذي تحملينه داخلَكِ

بالإكراه، أنتِ التي تتوحَّدين بي 

أقوى من الحبِّ نفسِه، أيَّتها الأختُ الغريبة-، 

وبعدُ، كمَدٌ طاغٍ، سِيسْتْرُوماتٌ7، ارتعادُ 

الدُّفوفِ عندَ المرْمَسِ السَّارقِ، 

وطءُ رقصة الفوندانغو، وفي الأعلى 

حركةٌ ما تومئ... 

على مثالِكِ أنتِ عندما 

التفتِّ إليَّ، وبيدٍ- جبينُكِ آنذاك 

مجلوٌّ مِن غمامةِ الشَّعر- 

لوَّحتِ لي، لِتَلِجي في العتمة. 



عندَ البحر (أو تقريباً)8


الجُدْجُدُ الأخيرُ يصطرِخُ 

على الشَّكير الأصفرِ للأوكاليبتوس 

الأطفالُ يجمعون بذور الصَّنوبر 

التي لا بدَّ منها لطبق الجالانتين9 

كلبٌ حارسٌ ينبحُ مِن وراءِ مُشَرِّبيَّةِ دارةٍ 

خاويةٍ على عروشِها 

الدَّاراتُ شيَّدَها الآباءُ مِن قبلُ 

وأبناءُ اليومِ نبذوها 

ثمَّة ههنا متَّسَعٌ لمائة ألفِ منكوبٍ بالزَّلازل 

حتَّى أنَّ الشَّاطئ لا يُرى مِن هنا 

إذا جازَ أن تُسَمَّى كذلك تلك الثَّمانون بالمِائة 

المُعطاة لخفرِ السَّواحل 

حيث مِن فَرْطِ الأمورِ التَّطلُّعُ 

إلى سلامٍ ذهبيٍّ هناك 

البحرُ من جهةٍ أخرى قد كَمُلَ اجتياحُه 

فيما النُّفاياتُ تشكِّلُ معاً 

رُبْواتٍ مُتماوجةٍ من اللدائن 

الحظائرُ مُخلاةٌ عن آخِرِها 

سوى مِن سُلالاتِ الصَّدأ العذبة 

وطيورِ الصَّعْوِ أو الرُّيَيْتِيَّة10 

كما يطيبُ للشُّعراء تسميتُها. ثمَّة أيضاً بِضعةُ

براعمِ ماغنوليا وبطاقةُ طبيبِ أطفال 

لكنَّ الأطفال هنا يحلِّقون بدرَّاجاتهم الهوائيَّة 

ولا حاجة بهم إلى رعايتِه 

مَن يودُّ أن يتنشَّقَ بموجة نَتْنٍ مفاجئة 

شِعرَ هذا العصرِ المزعزَع 

يمكنه المرور من هنا بلا عجَلٍ 

إنَّما الطَّعنةُ الضَّعيفة هي ما يصنعُ الخوفَ 

لا الزَّوالُ أو نفثاتُ العدمِ العذبة 

فامكثوا هنا إن أحببتم ذلك حُبَّاً وإلَّم يكنْ جمَّاً 

ذلك أنَّ الخِيارَ الأفضل شبيهٌ جدَّاً 

بالموت (وهذا لا يحبُّه إلا الحِدْثان11). 


وجعُ الحياة


لطالما رأيتُ وجعَ الحياةِ قُبُلاً: 

[رأيتُه] في الجدولِ المخنوقِ الذي يقرقر، 

في تجعُّدِ الورقةِ إذ يبَّسَها 

العطش، في الحصانِ المطروحِ أرضاً. 


لم أعرف منجىً آخَرَ خارجَ المعجزةِ 

التي تُفَتِّحُ الحيادَ الإلهيَّ12

إنَّه13 النُّصبُ المرفوعُ في وسنِ 

الظَّهيرة، إنَّه الغيمةُ، والبازُ المحلِّقُ عالياً. 


الحواشي (كما وضعها المترجِم):

1. اسم علم مذكَّر إيطالي، والشَّخصيَّة تمثِّل الشَّاعر نفسَه في النَّص.

2. يقصد من فعلِ البرق.

3. الشَّاهقة المائية عبارة عن ظاهرة جوِّيَّة على شكل دوَّامة شديدة من الهواء وقطرات الماء، تتشكَّل تحت غيمةٍ ركاميَّةٍ فوق البحار، حيث يُسحَب الماء عالياً.

4. يقصد البحر.

5. غازٌ عديم اللون يستعمَل في الإنارة وغير ذلك.

6. الإسفنط نباتٌ ورقه كورق الزَّعتر، كانت تطيَّب به الخمور ثمَّ أطلِق على الخمر نفسِه.

7. السِّيستروم آلة موسيقيَّة معدنيَّة يعود أصلها إلى مصر القديمة.

8. القصيدة في الأصل مجرَّدة من علامات التَّرقيم.

9. طبق بارد من اللحم والهلام.

10. نسبةً إلى مدينة رْييتي الإيطاليَّة.

11. جمع حدَث، أي شابٌّ.

12. يقصد بالحياد الإلهي هنا الطمأنينة الكاملة التي يتحرَّر عندها الإنسان من مشاعر الفرح والحزن على حدٍّ سواء، ما يجعله شبيهاً بالآلهة. 

13. الإشارة هنا إلى المنجى.