لم تتلق حركة على الساحة السياسية المصرية مابعد الثورة ما تلقته الحركة العمالية من هجوم. ففي حملة دعاية مكثفة، أدان الإعلام وأحزاب عديدة، بعضها حديث التأسيس، اعتصاماتهم وإضراباتهم على أنها "فئوية"، تضر بالاقتصاد وحياة المصريين بل بمستقبل الثورة ذاتها. وسارعت حكومة عصام شرف والمجلس العسكري بإصدار قانون يجرم الاعتصام والإضراب على مطالب اقتصادية، بل ويجرم الدعوة له والدعاية عنه. ثم بدأ التطبيق سريعا بتحويل عمال معتصمين من شركة بتروجيت للمحاكمة العسكرية. واستخدمت القوة أكثر من مرة لفض اعتصامات عمالية في السكك الحديدية وسيراميكا كليوباترا وغيرها.
وبينما يسود الإحباط أغلب نشطاء السياسة والأحزاب، بعد الفشل في إيقاف المحاكمات العسكرية للمدنيين وقانون الأحزاب الجديد وتغليب وجهة نظرهم فيما يتعلق بالدستور وصياغته، وبعد الإخفاق في منع إعادة قانون الطواريء سيء السمعة، في المقابل لم تتراجع حركة المضربين.
فقد شهد شهر يوليو 31 احتجاجا عماليا زادت مع استمرار تجاهل السياسة الاقتصادية المصرية لمطالب العمال في تحسين الأجور ومواجهة فساد الإدارة خاصة في قطاع الأعمال العام. ثم ارتفعت الوتيرة إلى 52 احتجاجا في أغسطس، ثم إلى ما يشبه الموجة العارمة في سبتمبر بانضمام مئات الآلاف من المدرسين وعمال البريد والأطباء وعمال النقل العام والنسيج وأساتذة الجامعات، وغيرهم. أعلنت الحكومة بشكل يائس عن "تفعيل" قانون تجريم الإضراب، وأنه لا تفاوض إلا بعد فض الاعتصام أو الإضراب. لكن ما الذي حدث؟ بدأت الحكومة في الاستجابة لمطالب رئيسية للمضربين كما في حالة عمال البريد أو الداعين للإضراب، وهو مجرم أيضا، كما في حالة عمال المحلة.
وربما يكون هذا امتدادا لنجاحات أكثر هيكلية ربما لم تشهدها ساحة أخرى فيما بعد الثورة: انتزاع الحق غير المقيد في تأسيس النقابات المستقلة ثم انتشارها في ربوع مصر من المصانع لقمائن الطوب في الجيزة لصيادي البرلس. حل اتحاد العمال الفاسد وتعيين لجنة مستقلة (حقا) لإدارته.
لماذا لا يستطيع أحد إيقاف حركة العمال؟
في أحد البرامج التليفزيونية على قناة فضائية خاصة، أخذت السيدة، التي كانت تتحدث باسم إحدى حركات تأييد الرئيس المخلوع (وهي غير مجرَّمة قانونا على عكس الإضرابات)، تكيل للثائرين الاتهامات بعدم الاحساس بحياة المصريين، "الذين يعانون من آثار استمرار عدم الاستقرار السياسي". هذه تهمة لا يمكن توجيهها لحركة المضربين، فهي تعبير عن المعكوس بالضبط، هي استمرار للثورة في قاعدتها الصلبة، التي لا تفصل ماهو سياسي عما هو اقتصادي. ومن ثم كان طبيعيا أن تحوز حركة المضربين على التأييد والمشاركة النشطة من مئات الآلاف، بينما تشكو الأحزاب السياسية الجديدة من ضيق الوقت وصعوبة الاتصال السريع بجمهورها في الشارع. الحركة العمالية البازغة دليل دامغ ضد من يتحدثون عن ضيق المصريين بالثورة وإدارتهم الوجه عنها في اتجاه "أكل العيش". فهاهي تحل كل معضلات السياسيين في الحشد الشعبي لتمتلك قوة دفع وقاعدة تأييد لا مثيل لهما.
تتميز هذه الحركة أيضا نتيجة ذلك بأن تنظيمها يقوم على المواقع ويبدأ منها. ولننظر معا إلى حالة المعلمين أو عمال النقل العام. القيادات هنا طبيعية ومنتخبة بشكل ديمقراطي طوعي نتيجة قتاليتها ونشاطها وتعبيرها عن مصالح أصحاب الشأن، القيادات هم جزء لا يتجزأ من الجمهور. ولأن الحركة تنبني من أسفل لأعلى وليس العكس فهم تعبير عن تيارات حقيقية على الأرض.
بينما حالة السياسيين بالمعكوس. من أعلى لأسفل. وهكذا تواجه معضلات إقناع الناس أو التواصل معهم خاصة مع تبني أحزاب غير قليلة توجهات تقوم على "التوعية"، وهو ما يجعلها تقوم عن حق بشكل خارجي غريب عن الجمهور، كالعضو الذي ينزرع بعملية جراحية، قد يلفظه الجسم أو يقبله.
قاعدة مصالح صلبة
تستند حركة المضربين أيضا على قاعدة صلبة من المصالح المتجانسة،في تناقض مباشر مع السياسيين وغالبية أحزابهم. أنظر إلى مطالب المضربين تجدها قريبة مهما اختلفت الخلفيات والقطاعات الإنتاجية أو الخدمية ومهما اختلفت المواقع الجغرافية: تحسين الأجور والدخول، تثبيت المؤقتين، ظروف عمل إنسانية، مواجهة الفساد، وفي أحيان كثيرة إصلاح القطاع الإنتاجي أو الخدمي ذاته (كما الحال في النسيج والصحة والتعليم). وتوحد هذه المصالح المتوحدة بين شرائح واسعة للغاية من المصريين، يروق لمصالح البعض تصويرهم على أنهم في تناقض فيما بينهم. كما يضفي الطابع الشعبي للمطالب، ووضوحها وعدالتها، والارتباط المباشر بينها وبين حياة الناس، هذا الطابع القتالي النادر على الإضرابات والاعتصامات، وهذا الإصرار البطولي على نيل الحقوق، برغم ضعف الإمكانات وتجاهل الإعلام وعداء السلطات.
لقد خلقت سياسات الليبرالية الجديدة، التي طبقها نظام مبارك على خلفية مشروع توريث ابنه، طبقة عاملة جديدة في مصر، وحدت في المصالح والمطالب بين عمال الصناعة والخدمات وبين مهنيين تحولوا إلى أجراء تسوء أوضاعهم مع العمال ويتعرضون لكل مساويء العمل المأجور في زمن التحرير الاقتصادي بعد أن كانوا يصنفون تقليديا على أنهم ينتمون للطبقة الوسطى. ومن ثم لجأوا لاستخدام أساليب الضغط العمالية الكلاسيكية لتنظيم أنفسهم والدفاع عن حياتهم. وهكذا يصطف هؤلاء جميعا في مواجهة نمط المصالح السائد قبل الثورة والذي تلقى ضربة هائلة في يناير لكنه مازال قائما على قدميه. وهكذا يصطف المضربون في معسكر استمرار الثورة قلبا وقالبا.
قارن هذا بتلك الأحزاب، التي تدعي تمثيل المصريين جميعا ثم تتلقى التمويل – الذي لا تنظيم قانوني له حتى الآن – من رجال الأعمال، وتضع العدالة الاجتماعية على قمة برنامجها ثم تعارض كل إجراء يحققها على الأرض. أو بتلك الأحزاب، التي تدعي تمثيل كل المصريين، فيرتبك برنامجها وتغيم قاعدة المصالح التي تمثلها في ميدان الصراع الاجتماعي.
كيف يمكن أن تغير الإضرابات مصر؟
تمثل الإضرابات والاعتصامات الحركة الاجتماعية والسياسية الأنشط والأوسع منذ يناير الماضي. وهي دليل على أن المصريين قرروا المشاركة العامة النشطة في السياسة، بعد أن ثبتت لهم قدراتهم في هذا المضمار بشكل قاطع.
لكن حركة الإضرابات والاعتصامات العمالية، التي تجبر الحكومة على الإذعان لمطالبها في حالات ليست قليلة، هي أيضا المواجهة الثورية الأهم، لقاعدة المصالح التي قام عليها نظام مبارك. لقد أسقطت ثورة يناير السياسة التي كانت تحكم بها هذه المصالح فوجهت ضربة هائلة لأولئك الذين تنبني على مقاسهم هياكل إدارة العيش والسياسة، وتنبري للدفاع عنهم الأقلام والبرامج، غير أنهم مازالوا موجودين بينهم يستخدمون سلطاتهم الواسعة في أقدارنا في محاولة استعادة جزء مما كان أو على الأقل تحجيم موجة التغيير.
هذه المرة المواجهة مباشرة من أجل تحقيق ما قامت من أجله الثورة: الشعب، الذي يكدح للقمة عيشه فينهض معه الوطن، يريد إسقاط نظام القمع والاستغلال والظلم الاجتماعي ويريد العدالة والحرية والتمكين في عيشه وحياته. الشعب يريد التحرر من مصالح القلة المتحكمة، فهو الشرط الواجب لاستكمال الثورة، والشعب لا ينسى مطالبه.
عن جريدة الشروق