رغم طابع الزمن الحلزوني الذي يبدد أحيانًا الحدود الفاصلة بين الماضي والحاضر في عالم شُيد على النظم الحدودية، يمر الزمن ووقته في عقولنا وعلومنا على نحوٍ مستقيم لا يعرف الإلتواء. في أوقاتٍ يسير الزمن ببطء ممل حتى يشعر المرء بثقل خطواته الهابطة على الأرواح كالمطارق. وفي أوقاتٍ آخرى يركض الزمن هاربًا من الأيدي العديدة الممدودة التي تحاول يائسةً أن تمسك بأعناق اللحظة المتسربة دائمًا. في كلتا الحالتين يسير الوقت آبيًا أن يخضع لإرادة أحد إلا نفسه. حتى وإن تشابهت الأحداث أحيانًا، يكفينا أن ننظر في وجهي "الطويل" و"القصير" اليوم كي نعرف أن شباب الستينيات لم يعد شبابًا.
مر أكثر من خمسين عامٍاً على الوجهين المحتدين كالحجارة في سيارة الترحيلات، والنقاش الذي أخضع جميع المسلمات لمساءلةٍ ومحاكمةٍ تشبه محاكم التفتيش في انعدام رحمتها. ومرت السنوات بعجلاتها على الهياكل، فترهلت الأصداغ وانسابت الأبدان تهدلًا كأنها أجساد معبئة بالماء، تتماوج كلما سارت، وترتج كالزلزال كلما هزقت في الضحك.
أتى أبريل ١٩٦٤ وأفرج عن "الطويل" و"القصير" وجميع السجناء والمعتقلين الشيوعيين من سجون الدولة الناصرية في ظل الترحيب الغامر احتفاءًا بوصول الرئيس السوفيتي خروتشوف لافتتاح السد العالي. خرج هؤلاء إلى وطن يختلف عن الذي سلب منهم. وطن اختفت فيه طبقة الإقطاع، وبزغ فيه التلفزيون، ولمع نجم الصحف والمجلات والإذاعة، وأصبح قائده السياسي اتحادٌ اشتراكي. ثم حلت النكسة لتكشف هشاشة كل هذه الأساطير التي وقفت شامخة قبل أشهر عدة.
تهشمت الشيوعية المصرية تمامًا بعد أن أكل الجذام روحها. تناثر رفاق "الطويل" و"القصير" كشذرات مرآة قفزت من شرفتها متجنبة النظر إلى روحها الهائجة، تناثر الرفاق إلى اليمين تارة حيث الإسلام السياسي، وإلى اليسار تارة حيث الإشتراكية المخففة بماء غسيل جروحٍ سابقة، وإلى الرصيف البعيد تارة حيث الانسحاب التام من العمل السياسي. ظهر جيل جديد في جامعات السبعنيات معلنًا عن تسلم راية الفكر والنضال بعد حرب ١٩٧٣، وجلس الجيل السابق يداوي جروحه في صمتٍ نسبي. توالت الأحداث وتسلق العجز إلى أجساد "الطويل" و"القصير". مات الرفاق وماتت خلفاتهم وأفكارهم معهم بعد أن حل بهم النسيان. سعى الشيب إلى الرؤوس وانسحب الشعر نحو مأوى القذال والفودين. استسلم الجميع إلى أحكام الجاذبية الضاربة التي أمسكت الترهلات من بطونها وسحبتها صوب الأرض الجائعة دائمًا. فاحت رائحة العجز من الجلود المشققة والأبدان الصامدة أمام وطأة الزمن. وعادت البشاشة إلى وجهي "الطويل" و"القصير" لمواجهة قسوة العالم البينة. ورغم التغيرات العديدة التي طرأت عبر الزمن، دامت صداقة "الطويل" و"القصير" وظلت اختلافاتهما السياسية. فـ"الطويل" انسحب تمامًا من المشهد السياسي بعد اكتفائه بأثآر السياط التي لن تبارح ظهره وروحه أبدًا. أما "القصير" فقد طفا على الساحة لتتقاذفه الأحداث من العقيدة الدينية إلى القومية المتشددة، في رحلة لا نهائية من البحث عن الفكرة التائهة، حتى كفر "القصير" بجميع الأفكار وظل متماسكًا بطابعه الساخر فقط.
اليوم، يزحف "الطويل" و"القصير" نحو العقد الثامن من حياتهما المديدة والممتلئة بالأحداث، ولم يفسد لب الصداقة بعد، بل ثمّة حوار مستمر يتدفق بينهما ليثبت لنا ولضغط الدم، ومرض السكر، وتضخم البروستاتا، وخشونة الركبة، وضعف الذاكرة أو النظر، أنهما لن يستسلما أبدًا، وسيظلا على اهتمامهما بالشأن العام رغم العقبات الزمنية.
في لقائهما السابق، بغرفة المعيشة ذات الأرائك التي لها إطارات نحاسية اللون، وفي ساعة الظهر حيث الشمس تسطع في كبد السماء، دار الحوار التالي الذي لا يقل أهميةً وحرارةً عن جميع الحوارات السابقة:
الطويل: إلى أين يذهب بنا العالم يا قصير؟ طالما نسأل هذا السؤال، منذ بدء الكون، دون مجيب.
القصير: أتعتقد أنني أملك الإجابة وأخفيها عنك؟ إنها أحد تلك الأسئلة العبثية، لو مَلَك أحدنا إجابتها لما انتهى بنا الحال في غرفة معيشتك، بل وسط عجائز الحكم.
الطويل: وعجائز الحكم يملكون المستقبل وإجاباته؟ ألن تتوقف عن نكاتك السيئة هذه؟
القصير: عجائز الحكم لم يتركوا الماضي قط، ولا يعرفوا للمستقبل عنوانًا. هم متشبثون باللحظة الأولى، غارقون فيها، وفي تحويل الماضي إلى حاضرٍ ومستقبلٍ متكرر.
الطويل: ونحن نحلق في مستقبل لا يفهمه إلا الخرفانين أمثالنا؟
القصير: نحن بحثنا عن المستقبل ولم نجده. وما زلنا نبحث، حتى وإن اتضح أن المستقبل ليس لنا.
الطويل: لِمَ تحب إقحام الموت في كل حواراتنا؟
القصير: هذا ليس إقحامًا للموت. لكننا نعيش في عالم يقدس الشبابية، وينفر من الكهولة، ويشمئز من الشيخوخة. الجميع يأمل في أن يظل شابًا أبدياً، أن يحبس الزمن في قبضته. هؤلاء يصبغون شعورهم، ويبتاعون مراهم البشرة، ويشتركون في أندية ومراكز رياضية لن يزوروها بعد أول أسبوع، ويبحثون عن النظام الغذائي الأمثل، ويشترون أحدث الأجهزة الإلكترونية التي تدل على الشبابية. إنهم يخافون الزمن. يخافون التخلف عن السرب!
الطويل: نحن تخلفنا عن السرب ولم نجد إلا تيهنا في البحث عن المستقبل. دفعنا ثمن التفكير ومحاولة الخروج من الماضي المستمر، ووجدنا سياط الجلادين في انتظارنا بسجن الواحات. خرجنا من التجربة دون طاقة للمزيد من البحث. انصرفنا لأحوالنا، وعندما تعافينا قليلًا، جلسنا على الوسائد في إرهاق وحَوَّلنا السياسة إلى ثرثرة صالونات حتى سقطنا في غيهب النسيان. واليوم ما من أحد يلتفت إلينا، ولا لتجاربنا التي هي جذور للحاضر، فقط لأننا تخلفنا عن السرب ـ. ربما المستقبل الذي تتحدث عنه ما هو إلا سراب.
القصير: وماذا تريد من الشباب الأبدي يا أيها العجوز؟ أتريدهم أن يأخذوك بطلًا ورمزًا؟
الطويل: هذا ليس ما أقول، لكن من العبث أن يتعامل أحد مع الحاضر ويبحث عن المستقبل، وكأن لا ماضي له. كأنه سقط من السماء على ميدان التحرير، فثار على من يحكم، وحينما ظفر بمطلبه، التف حول نفسه متسائلًا: وماذا الآن؟
القصير: الأمر ليس بهذه البساطة...
الطويل: بالطبع! لكن ما أريد قوله هو أننا حينما شرعنا في العمل السياسي، حاولنا أن نفهم ما حدث من قبل: ثورة ١٩١٩، الاحتلال الانجليزي، الثورة العرابية، ثورة البلاشفة. قرأنا لينين وتروتسكي وماركس. خلقنا رموزنا وأبطالنا الخياليين الذين مثلوا لنا شيئًا يفوق إمكانياتنا الواقعية، شيئًا نسعى إليه. الإنسانية تحتاج دائماً إلى رمز يفوق واقعها. ولا تسئ الفهم، نحن لم نركض خلف التاريخ المهدم مثلما فعل الإسلام السياسي الذي استخرج رموز صدر الإسلام من تحت الأنقاض. لقد صنعنا رمزًا وليد الحاضر، رمزًا بجذور تاريخية. ناضلنا من أجل العامل المجهول الذي يسعى نحو المساواة. العامل الفقير المهشم الذي لا يستسلم لمنطق الجشع بل إلى منطق التضامن. ألا تذكر كيف كنا نردد كلمات فؤاد حداد:
المطرقة ناحت على السندان
اتقسّمت كُتل الحديد قضبان
الرأسمالي بيملك الآلة
الرأسمالي بيسجن الإنسان
الرأسمالي بيملك الآلة
أغلال على استغلال على بطالة
يجعل يا فقير حياتك عالة
ويموتك ويبيع لك الأكفان
اليوم لم تعد هذه الرموز حاضرة، ولا أي رمز على الإطلاق. ما من بطل خيالي يشعل الأمل في القلوب المتطلعة إلى المستقبل.
القصير: ولِمَ يجب أن نفكر في الأمر بهذا الشكل الكلاسيكي؟ إننا في القرن الحادي والعشرين. لِمَ ننتظر من الناس أن تخلق رمز المسيح أو المنقذ أو الفدائي أو العامل أو الجندي؟ لِمَ نجد صعوبة في تخيل ثورة بلا قائد، بلا بطل؟ أليس غياب الرمز بالشكل التقليدي هو في حد ذاته رسالة ورمز؟ ألا ترى مثلًا أن الشباب اليوم تجرد من الرمز الإنساني الذي يخذله دائمًاً؟ ربما أصبحت الأماكن والمساحات أبطالًا ورموزًا. ميدان التحرير، ساحة بورقيبة، ميدان اللؤلؤة ... وهكذا. مساحات تشكل أملًا لإمكانية العيش على نحوٍ مختلف مما يفرضه العالم. ألم أسمعك هذا الشاب الذي يدعى مصطفى إبراهيم وهو يردد قصيدته عن تظاهرات ميدان التحرير ويمجد المجهول قائلًا، حسب ما أتذكر:
فلان الفلاني اللي كان يومها جنبي
ساعة لما بدأوا في ضرب الرصاص
فلان الفلاني اللي معرفش اسمه
فَ دايمًا بقول يابن عمي وخلاص
فلان اللي سابلي بقية سندوتشه
ليلة لما شافني بغني وجعان
فلان اللي مش فاكرة غير شكل وشه
فلان اللي عداكي جوه الميدان..
ربما يجب أيضًا أن نتجاوز بعض المسلمات التي تجاوزها الزمن، مثلما يجب أن نتعلم من التاريخ وننتقد من لا يقرأه.
الطويل: لكن الميدان رمزٌ هش، رمزٌ مادي من السهل أن يسلب، ورمزٌ مركزي يتجاهل من يقف خارجه. ألا تلاحظ أن كلما دعى البعض للتظاهرات يقوم الأمن بإغلاق ميدان التحرير؟ يغلقون محطة المترو ويتمركزون متربصين لكل مَن يفكر في دخول هذا الميدان. أما من جانب الشباب نفسه، فثمّة صعوبة في إعادة إنتاج هذا الرمز بمساحاتٍ أخرى. في المقابل يتمتع الرمز الإنساني بتجرد ما يخلق صعوبة في وجه من يحاول سلب الرمز من صانعه... ربما نعاصر اليوم أزمة الرمز!
القصير: يا طويل، احتلال رمز العامل مثلًا من قِبل الدولة ليس بالمستحيل، ناصر فعلها.. الطويل: لكن كان الأمر شديد الصعوبة. القصير: ربما، لكن ليس لأن الرمز الإنساني أقوى من الرمز المكاني، بل لأن كانت هناك فكرة أو أيديولوجية تقف خلف رمز العامل. أما الميدان لاتزال تنقصه الفكرة.
الطويل: ولِمَ تقول إن الفكرة غائبة؟ ألم تسمع الهتاف "عيش، حرية، عدالة اجتماعية"؟
القصير: جميعنا هتفنا بهذه الكلمات، لكننا لا نعرف معانيها..
الطويل: بالتأكيد نعرف معانيها!
القصير: أقصد، لا نتفق على معانيها. كل شخص له تعريفه الخاص. بالتأكيد تعريفك للحرية يختلف عن فهمي لها، لكن المشكلة أننا لم نستوضح معاني الكلمات المستغلقة. هتفنا بها من قلوبنا في فورة الأحداث وشعرنا بارتجاج الحناجر، ثم فوجئ الجميع باختلافاتهم.
الطويل: لا تظلم الثورة يا أخي! ألم يقف الواحد بجوار الآخر يهتف "الشعب يريد إسقاط النظام"؟ يجب ألا نتعالى على الأمور ونقول "أين الفكرة؟"، بالطبع ثمّة فكرة في رفض الظلم والحلم بحياة أفضل.
القصير: ثم؟
الطويل: ما قصدك؟
القصير: الناس طالبت بخلع الرئيس آنذاك، وبعد خلعه بدأت الأزمة. الطويل: أليست مواجهة الظلم فكرة في حد ذاتها؟ ومواجهة القمع فكرة؟ وإن نجح هؤلاء في أهدافهم، فقد نجحت فكرتهم. القصير: أنها بالطبع فكرة. . .فكرة سلبية. هنا اقترح المرء ما لا يريد دون أن يتحدث عما يريد. أنها صورة المعارض الكلاسيكي المعترض دائمًا.. الفكرة دائمًا مهمة.
الطويل: إذًا البحث عن المستقبل هو البحث عن الفكرة؟
القصير: ربما الفكرة هي التي تعطي الماضي معنى في الحاضر والمستقبل.
الطويل: وأين الفكرة؟
القصير: لا تزال هائمة، كما نحن هائمان.
قال "القصير" عبارته وانزلق الحوار في صمت تام لا يكسر إلا بأصوات ارتشاف الشاي المتكررة. جلس "الطويل" و"القصير" في استسلام إلى الإرهاق البدني الذي دائمًا ما يخدر عقولهما النشطة، ولبثا في عوالمهما الهائمة منصتان إلى صدى الحوار المرتد من الحوائط وهما يفكران في التيه ورحلة الخروج من الماضي الأبدي.
[يمكن قراءة الجزء الأول هنا]