بييرو جاهير Piero Jahier (1884-1966)
بييرو جاهير في سطور:
كان شاعراً ومترجماً وصحفيَّاً إيطاليَّاً، وُلِدَ في جنوة في 11 نيسان/ أبريل 1884، وأمضى طفولته فيها، وأمَّا كنيته "جاهير" فإنَّها فرنسيَّة الأصل، إذْ كان فرعٌ من تلك العائلة قد انتقل إلى إيطاليا منذ أجيالٍ كثيرةٍ خلتْ. أتمَّ دراسته الابتدائيَّة في كلٍّ من تورينو وسُوسا. بعد موتِ والده انتحاراً سنة 1897 انتقلتْ والدته مع أبنائها السِّتَّة إلى فلورنسا مسقطِ رأسِها، وما إن أنهى بييرو المرحلة الثَّانويَّة من دراسته حتَّى فاز بمنحةٍ دراسيَّةٍ والتحق بكلِّيَّةِ اللاهوت الـﭭـالديَّة في فلورنسا، وبدأ في تلك الأثناء عملَه في السِّكك الحديديَّة ليعيل أسرته التي كانت تعاني من ضائقةٍ مادِّيَّةٍ شديدة، ولكنَّه تخلَّى بعد سنتين عن دراسته الدِّينيَّة واستمرَّ في وظيفته المذكورة. في فلورنسا وجدَ جاهير نفسه على اتِّصالٍ مع كتَّاب تلك الحقبة الشَّباب، وبدأ بكتابة المقالات لمجلَّتي "La Riviera Ligure" و"Lacerba"، قبل أن يبدأ في سنة 1909 تعاونه مع مجلَّة "La Voce". حصل على شهادة الحقوق من جامعة أوربينو في سنة 1911.
صدرت مجموعته "أغاني الجنود" في سنة 1919، وفي السَّنة نفسِها صدرت مجموعته "فتىً"، وفي العام التَّالي صدرت مجموعته النثريَّة الأكثر شهرةً "معي ومع جُند الجبال". وتمتلك نصوص تلك المجموعات نبرةً إنجيليَّةً ونبويَّةً تشرَّبتْها من التَّرجمات اللاتينيَّة والإيطاليَّة للنُّصوص المقدَّسة، كما من الإيقاع الشِّعريِّ لوالت ويتمان وبول كلوديل (كان جاهير قد ترجم بعض أعمالهما)، وكذلك من تأثُّره بقصيدة الحركة المستقبليَّة. وتعدُّ قصيدته "أغنية الزَّوجة" من أجمل ما كتبَ، وقد نُشِرَتْ هذه القصيدة أوَّلَ مرَّةٍ في شباط/ فبراير من سنة 1916، في العدد 50 من مجلَّة "La Riviera Ligure".
كان جاهير بطبيعةِ الحال مناهضاً للفاشيَّة، وقد تعرَّض للسَّجن والاضطهاد بسبب موقفه ذاك. توقَّف خلال فترة الحكم الفاشيِّ عن الكتابة واقتصر نشاطه الأدبيُّ على بعض التَّرجمات، وبعد التَّحرير أصبحَ رئيساً لجمعيَّة الدِّراسات الحرَّة في مدينة بولونيا، وقد نجح، من دون أن ينقطع طوال تلك السِّنين عن وظيفته في السِّكك الحديديَّة، في الحصول على شهادةٍ أخرى في اللغة الفرنسيَّة. قام خلال الحرب العالميَّة الثَّانية بجمع كتاباته، وإجراء الكثير من التَّعديلات عليها، وترتيبها لتُنشَر سنة 1964 تحت عنوان "الأعمال الكاملة". توفِّي في فلورنسا سنة 1966.
* * *
النُّصوص:
[من مجموعة "معي ومع جُندِ الجبال (1920)"]
نشيدُ الزَّحف I
أوَّلُ نهاراتِ الرَّبيع. نهارٌ لا مفرَّ منه.
ليس في مُكْنةِ الفصلِ بعد الآن أن يرجع القهقرى.
شمسٌ نظيفةٌ وممتلئةٌ بالعافية وُلِدَتْ هذا الصَّباح.
وها هي تنمو مطمئنَّةً وتتلظَّى انتقاماً من الكرب الشِّتائيِّ الطَّويل.
في يومها الموعود هذا، كم سيَّلَتْ مِن ثلوج! لا شيء غير بُقَعٍ أكثر، وصفائحَ أكثر، ترنُّ خاويةً على وقع الخُطى، وقد جُوِّفَتْ ولُغِّمَت.
وهناك، قربَ البياضِ الأخير يبحث الفِتيةُ عن أوَّلِ اخضرارٍ لأجلِ السَّلَطة؛
السَّلَطَةِ التي سرعان ما سينسون أمرَها عندَ أوَّلِ زهرة؛
زهرةٍ سينسونها لأجل كلِّ الزُّهور، الطَّازجةِ كلِّها، والكثيرةِ الكثيرة؛ إذْ تدفعهم إلى الرَّكض من لونٍ إلى آخر؛
حدَّ أنَّ الأيدي الصَّغيرة ستعجزُ عمَّا قليلٍ عن احتواشِها؛
زهورٍ جمَّةٍ ستُقتلَعُ باهتياج، غير أنَّ وزغةً واحدةً ستكفي لكي تُنسيهم إيَّاها؛ إلى أن تنزلق من أيديهم شيئاً فشيئاً - الباقةُ كلُّها- وتنتهي على الأرضِ من ورائهم كأنَّها خطوطُ أثرِ عقلةِ الإصبع!
آه أيَّتها الشَّمس الكلِّيَّةِ القدرة، كيف تجعلين الخليقةَ تنسى!
الموتى كلُّهم ملحودون ومنسيُّون.
وقد انتصرَ على العامِ كلِّه مَن انتصرَ على الشِّتاء.
البيوتُ مهجورةٌ كلُّها.
يا بيتَ الملاذاتِ العديمَ الجدوى،
كم أنتَ موحشٌ ومُضبَّب!
ولكنَّنا خرجنا إلى الشَّمس التي نستوثقها:
اخرجوا! - فجلاميدُ الجليد ذابت كلُّها-
والحياةُ المُعتمةُ بلغتْ خُتْمَتَها...
كلُّ شيءٍ ممتثلٌ الآنَ للشَّمس القديرةِ الجذلى.
غسيلُ الأمسِ الذي يجتاحُ ببياضِهِ الهضبة.
الأغصان المقلوبةُ التي ترنُّ على الأسيجة.
وحتَّى الطَّائرة المعادية التي لن تقوى على إيذائنا: والتي ليست سوى زنبورٍ أصفرَ مخلوبٍ في الوهج المبهر.
والنِّسوة اللاتي يعملن مكفهرَّاتٍ في نورِ القمر كسباً للرِّزق: واللاتي هنَّ هذه الوجوهُ المضيافة، وهذه الأيدي الغاطسةُ في القُنيِّ بقناعةٍ واكتنات، وهذه الأصواتُ الصَّافيةُ إذْ تُلقي السَّلام.
كلٌّ يجدُ عائلةً له في هذه الإنسانيَّةِ الرَّائقة التي تتقدَّمُ لتُلاقينا.
على رأس الطَّابورِ
أنا الآخرُ أتقدَّمُ نحو النِّسوة اللاتي هنَّ للجميع، بما أنَّنا نحن الجندُ لا نملك أحداً، وأحيِّيهنَّ: عِمْنَ مساءً، أيَّتها النِّسوة! ويا لِروعةِ تحاياهنَّ!
غيرَ أنَّنا عَبَرنا خلالَ الغبطةِ
مُبعِدين كلَّ هاجسٍ عنَّا، نحن الجند، جُند الجبال.
إنَّه الرَّبيع، فصلُ الزَّحف العسكريِّ.
لقد حلَّ. ليس في مُكْنتهِ بعد الآن أن يرجعَ القهقرى.
ألقينا التَّحيَّة على كلِّ شيءٍ، على كلِّ أحدٍ، لآخر مرَّة.
وفيَّ انبعث "نشيدُ الزَّحف" ونحن نلقي التَّحايا.
*
نشيدُ الزَّحف II
الملاكُ الصَّدِئ الذي يباركُ الوَهدة
والذي في الضَّباب طالَ انتظارُه
هو الذي دعا الجندَ إلى الاحتشاد
هو الذي أعلنَ:
اخرجوا! لأنَّ الأرض متوقِّفةٌ مرَّةً أخرى ومطمئنَّة
والسَّماءُ تتلألأ على أبراج الكنائس
والجبالُ الكابيةُ تشعلُ وردةَ التَّمجيد
اخرجوا! فجلاميدُ الجليد ذابت كلُّها
والحياةُ المُعتمةُ بلغتْ خُتْمَتَها
وعلى قشطةِ الثَّلج يرتاحُ الضَّوء البرتقالي
البراعمُ تُصْمِغُ
ومحاليق العنب تتورَّدُ
وكلُّ عيون الزَّهر
تُطلِقُ من اليباسِ أجنَّتَها
على العارضةِ الخشبيَّة تتفتَّحُ الشَّرنقة السَّوداء
والفراشةُ الهشَّةُ تكادُ تطفو على الأنفاس.
انفُضُوا في الرِّيحِ الشَّرشفَ العليل
وتنفَّسوا نداوةَ الإبلال
أطلقوا البهيمةَ والمحراث
واستعيدوا من العشقِ داءَه.
اخرجوا! فالتُّرابُ الأسودُ يُرسلُ دخانَه وادعاً مُطمئنَّاً
والعشبُ طازجاً يتلألأ
وعلى القشطةِ البعيدةِ يرتاحُ الضَّوءُ البرتقالي
*
اخرجوا! فلقد خرجنا نحن أيضاً، نحن جندُ الجبال،
الرَّتلُ الأسودُ الحزينُ الذي يحثُّ برضوخٍ خطاه،
ولكن ما إن تمسَّنا الشَّمس حتَّى يعلو الصَّوت بالغناء:
مَن سألَ الغصنَ أن يزهرَ
والأرضُ ما لِجليدها يذوبُ؟
قد يرحلُ الغرابُ البلديُّ أو يبقى
والوقواقُ لا أحدَ يعلمُ إن كان قد غنَّى:
الأرضُ للمرأة، والوطنُ للجنديِّ،
هذا هو الزَّحف الأخيرُ ومِن ثَمَّ الموت.
*
ولكن لأنَّنا وحيدون، لأنَّنا راحلون
اخرجوا! ولتخرجْ كلُّ الكائنات؛
لأنَّنا حُزناء، لأنَّنا نتركُ من نحبُّ وراءنا
ألقوا علينا تحايا الوداع.
أنتنَّ نساؤنا، أنتم أبناؤنا،
فلتهبطوا للقائنا،
أنتم أرضُنا، أنتم أعمالُنا:
فلتخرجوا لأنَّنا نريد أن نحبَّكم بعدُ.
ولتأتِ العرائسُ: وأنتم هناك، اتركوا المرعى،
العشبُ سيجفُّ من تلقاء نفسِه، أمَّا الجنديُّ فلن يمرَّ مرَّةً أخرى.
المنجلُ يتلألأ مُتأهِّباً لحشِّ التِّبن الجديد،
وأرنبُ الألب الأخيرُ يطلُّ من جحره.
فليأتِ جميعُ الأطفال: لا لشيءٍ إلَّا لكي نراهم يمسحون
عن زجاجِ عيونهم الصَّافية الكثيرَ من الأوساخ،
لا لشيءٍ إلَّا لكي نردَّ على نداءاتهم حين ينادون: أبتاه!
فليَصْفِر المزمارُ الطَّريُّ الذي من صفصافٍ مقشور،
وليخرجْ الشُّوفان الفضِّيُّ من تحت الثُّلوج.
فليأتِ الأجدادُ المتعَبون، ولكن: لا تتقدَّم في العمر،
أيُّها العجوز، حتَّى نعود.
وأنتَ، أيُّها البحر - نستودعك السَّلامة –
ثمَّ، بعد أن نمضي، لا تبتعدوا:
اصنعوا لنا ذكرى هائلة، ارفعوا أيديكم،
نادونا بصيحاتٍ عظيمة
لأنَّكم أنتم الذين لا تستطيعون المجيء.
هذا هو، إذاً، الزَّحف الأخير،
ولا همَّ إن كنا ماضين إلى الموت.
*
[من "الفتى وأُولَياتُ القصائد (1939)"]
أغنيةُ الزَّوجة
إذا البلاطُ عبقَ برائحة الرَّاتنج
وإذا شعَّتْ باتِّساقٍ أضواءُ بيته البسيط
وإذا البيتُ تنفَّسَ أزهاراً
وإذا في غِمار الزَّهر تواثبَ الطِّفلُ ناصعاً مجلوَّاً
وإذا الوجنةُ الطَّريَّةُ المستحمَّة
ارتاحتْ على عظمِ الفكِّ المتصلِّب
توَّجَني ربَّما بنظرةٍ منه
وربَّما أذابَ بابتسامةٍ كلَّ الهموم.
ولكنَّ مَن يعلمْ ما يجولُ في خاطره
يعلمْ ربَّما أنَّ رغبته تلاشتْ منذ أمدٍ بعيدٍ بعيد.
التفتْ واستقبلْ بيتَ الحُبِّ
الطَّافحَ بتذكارات الرُّوح التي جلبناها إلى الغرفِ الخاوية
فإذا وجيبُ قلبينا يومئذٍ مسموعٌ لك ولي.
كلمةً مُرَّةً رميتَها إليَّ هذا الصَّباح
سلبَتْني طوالَ اليومِ راحةَ البال.
هي ذي نظرتُكَ تجحدُني في المساء
هو ذا نهارٌ آخرُ يضيعُ سُدَىً.
إذا لم يكن ثمَّة نسيان، إذا لم يكن ثمَّة عزاء،
إذا لم يكن ثمَّة صَفوٌ،
إذا أصبحتْ ملاطفاتُه من الماضي
ولم يعد يُفضي بأحزانه إليَّ،
فإنَّ هذا البيت كذبةً حينئذٍ يكون
والإخلاصُ القديمُ الذي وحَّدَنا مَخُوناً يكون.
رجلٌ أنتَ ولعلَّك كنت تريدُ امرأةً مُبهجة،
لعلَّك لم تُرِد الإخلاصَ، بل دهشاتِ اللذَّة.
آهِ لو أنَّك لم تتزوَّجني!
لَقُيِّضَ للحبِّ على الأقلِّ أن يبقى،
لارتشفتُكَ كلَّ يومٍ على جرعاتٍ قلائل.
ولكنَّ مَن يعلمْ ما يجولُ في خاطره
يعلمْ ربَّما أنَّ رغبته تلاشتْ منذ أمدٍ بعيدٍ بعيد.
لقد مُزِّقتُ أكثر ممَّا ينبغي، وأزاهري صُوِّحَتْ،
قبيحةٌ أنا وليس لديَّ ما أعطيه،
لم يعلِّمني أحدٌ كيف ألبس
ولماذا كانوا ينزعون شرائطي حين كنتُ طفلة.
الإخلاصُ القديمُ خانني
ولم أعد قريبةً إلى قلبه.
قبيحةٌ أنتِ وهو لم يعد يفكِّرُ فيكِ؛
رغبتُه تلاشتْ منذ أمدٍ بعيدٍ بعيد.
جميلٌ الوجهُ الذي أبلَتْهُ السِّنون، كنتَ تقول،
وعذبةٌ مداعباتُ اليدِ التي أذواها العمل:
الآن تنتظرُكَ اليدُ الخشنة
الآن ينتظرُكَ الوجهُ المحفور
الآن، وقد انتهتِ المرأة،
تنتظرُكَ الزَّوجة.
عُدْ، أيُّها العاشق الذي كان،
حين كنَّا نطوي في الأعالي طريقَ الحبِّ المذهَّبَة
التي لا نستطيعُ سبرَ أغوارها إلَّا معاً.
كلُّ ما تفتقده فيَّ سيجعلك الحبُّ تشتاق إليه.
حُبَّني وسأعود عذراءَ من جديد،
حُبَّني وسأغدقُ مرَّةً أخرى حبَّاً جديداً عليك.
ولكن وحدها الأشياء الآفلة ما يجعله يحبُّ،
وحدها الأشياء اللامرئيَّة ما يجعله يحزن،
وليس أنا، ليس المرأة التي هي على الدَّوام نفسُها،
ليس المرأة التي هي جدُّ مُضجرة، حقَّاً.
آهِ ماذا لو كنتُ بعيدةً الآن،
ماذا لو أمكن أن أموت الآن؟
ولكنَّ مَن يعلمْ ما يجولُ في خاطره...
[اختارها وترجمها عن الإيطاليَّة: أمارجي]