في صحبة ابن رشد: "الفلسفة فن عيش وأسلوب تعبير حجاجي"
ليست الفلسفة مجرد أفكار وأراء ونظريَّات، بل هي فنُ عيشٍ وأسلوبُ تعبيرٍ، لذلك فإن صُحبة ابن رشد؛ وان اقتفينا بعض أفكارِه وفلسفتِه في مختلف النصوص التي وقعت بين أيدينا: هي صُحبة فنٍ وتعبِير.
يقول نيتشه: "لا أُولي عنايةً لفيلسوفٍ إلا بمقدار ما يكون قادِراً على أن يكون قُدوةً... بيد أن القُدوة ينبغي أن تُعطى عن طريق الحياة المعيشيَّة الجليَّة، وليس فحسب عن طريق الكتب والمؤلفات، أعني أنها ينبغي أن تكون على الطريقة التي كان يُعلم وفقها فلاسفة يونان، أي عن طريق السيماء والمظهر والهيئة والمجلس والغذاء والعادات، أكثر مما هي عن طريق ما يُقال، بل وحتى ما يُكتب" .1
ليس الغرض من هذا المقتطف هو الاقتِداء بنيتشه ولا حتى اعتباره قُدوةً، لأنه لم يُحسن إعطاء نموذجٍ في القُدوة بسبب فشلِه في العديد من الأمور: في الحب، في المعيش، في المعيَّة مع لو سالومي وعائِلته، في تأسيس أخلاق جديدة... لقد هدَّم كل شيء لصالح لا شيء... كلامُه واضح للغاية، وهو ما فكرنا فيه أول الأمر في هذه السلسلة حيث اعلنا انها صُحبة من نوع آخر، وان فشلنا بدورنا في اقتفاء أثر ابن رشد اليومي وعجزنا عن الوصول إلى ما يكفي من معلومات عن حياته بسبب البعد الزمني الذي يفصلنا عن عصره، وبسبب عقم النصوص التي أرخت لحياته، مع العلم أن ما تعرض له خلال نكبته قد جَنت عليه الكثير إلى درجة أن العديد ممن جاءوا بعده من المترجمين وكتاب السِّير لم يذكروا عنه إلا القليل خشية التهمة.
كان للنَّكبة وقع في فضاء الدولة الموحديَّة، وفي فضاء الكنِيسة المسيحيَّة، بالنَّظر إلى الازدراء الذي تعرض له من طرف القساوسة ورجال الكنيسة في الغرب اللاَّثيني، ومن طرف الفقهاء عندنا، ولكن رغم ذلك فقد استطاع أن يؤسس لفكر الأنوار بحيث كان مرجعاً مُهماً في الأرسطيَّة كما شاعت في الغرب اللاَّثيني، وعن طريقه ولجت أوروبا وتعرفوا عليها من بابها الواسع رغم محاكم التفتيش التي فرضت رقابتها على الفكر النقدي والتقليد المعارض لسلطة الكنيسة.
ليس الغرض من العودة إلى ابن رشد عودة إلى الماضي –فيما يشبه السلف - لأن الفلسفة كما أشرنا أعلاه:
• فن: فن عيش يعبر من خلاله الفيلسوف عن جملة أطراحه وأحزانه، ويلخص فيها نظرته إلى الحياة والوجود عامة، بحيث تنعكس فيها حياته كما تنعكس الفلسفة على حياته هو أيضا. ولذلك فالفلسفة بحق هي فن للعيش أي نمط معين من العيش، فسقراط وأفلاطون وأرسطو وغيرهم... لم يكن غرضهم فصل ما يشعرون ويحسون به عمَّا يفكِرون فيه، بل هو جزء منهم. وكذلك فعل بعض القدماء عندنا فهذا أبو بكر الرازي في رسالة مقتضبة له (السِّيرة) يحكي عن سِيرة أفلاطون من موقع الدفاع عنه بهدف تصحيح ما راج عنه وحوله آنذاك من شائِعات، وفي الآن ذاته يوثِّق فيها سيرته هو بنفسه، ففي سعيه لدحض بعض الآراء الشائعة حول أفلاطون يدافع عن اقتفاء أثره والدفاع عنه كخيار لحياته الخاصة. هكذا صارت قصة حياة أفلاطون هي قصة حياة الرازي أيضا، حيث يقول: "ونحن وإن كنَّا غير مستحقين لاسم الفلسفة بالإضافة إلى سقراط فإنا مستحقون لاسمها بالإضافة إلى الناس غير المُتفلسفين وإذ قد جرى في هذا المعنى ما جرى فلنُتِمّ القول في السِّيرة الفلسفيَّة لينتفع بها محبو العلم ومؤثروه". إنها رسالة تستحق كل الاهتمام لا لعمق نظرها ورؤيتها فقط وإنما لأهميتها التربويَّة أيضا بحيث صار الاعتقاد أن طريقة الكتابة عند المسلمين لم تخرج عن النَّمط التقليدي السَّائِد آنذاك والذي يعرف حالياً بالنَّمط الأكاديمي الجاف، في حين أن الاطلاع على سيرة الرازي يؤكد بجلاء تفرده في نهج أسلوبٍ وفن كتابة خاص، ببعد بيداغوجي سلس وكأنه يعلم التلاميذ كيف يمكنهم أن يقتفوا أثر العظماء ويوجههم نحو الطريق الذي يعتقده صائِبا أو صحيحاً. إنها إذن رسالة فنيَّة وتوجيهيَّة وتربويَّة وسياسيَّة في الآن ذاته.
فن ابن رشد إذن هو فنٌ فريد من نوعه: في مظهره وملبسه ومأكله ووظيفته أيضاً، لأن مكانته الاجتماعيَّة والسيَّاسيَّة وسلطته المعرفيَّة سنحت له بأن يعيش فلسفته كما يتصورها وينظِّر لها بطريقته الخاصة.
• أسلوب: أسلوب ابن رشد هو أيضا فريد ومميز استطاع بعد تمرين طويل من التلخيص والشرح والتفسير أن يتملك تعبيراً واضِحاً وجليّاً، واقتفاءه لأثر أرسطو لم يمنعه من الاطلاع على أفلاطون وغيره من القدماء.
إنه أسلوبٌ حِجاجي يتخذ من البرهان طريقة في التفلسف لصد هجوم المتزمتين اتجاه الفلسفة والفكر عامة، لهذا كانت الفلسفة عنده اختياراً لنمط عيش، وممارسة علاجيَّة وجدت أساسها في خطاب مدعم بنظام اقناعي برهاني يشهد عليه خصومه قبل مؤيديه أو مريديه بلغة عصره.
لذا فإن من مهامِنا اليوم: كيف يمكن أن نجعل من الفلسفة قريبة إلى الأفهام، أي فنّاً وأسلوباً ملائِما لشرائِح واسعة من الناس؟ كيف يمكن اقناع الناس بضرورة التفلسف انطلاقاً من واقعهم ومعيشهم وبأسلوبِهم الخاص؟ ذلك هو التحدِّي.
هوامش:
1 - فريديريك نيتشه: "شوبنهاور مربيا"، ترجمة قحطان جاسم، منشورات ضفاف ودار الأمان، ومنشورات الاختلاف، الطبعة الأولى 2016، ص 34.