يوم عادي في برلين

 ???? ???? ?????? \"???? ????? ????????\" (?????)1911 ???? ???? ?????? \"???? ????? ????????\" (?????)1911

يوم عادي في برلين

By : Golan Haji جولان حاجي

-مدخل: مبالغةٌ لا بدَّ منها-

هاء الهُوَ، أو هاء الهاوية، متبوعة بواو العطف التي تجسر طريقاً قصيراً بين نهايتين. الهوية مفردة لا تُستساغ لأنها تسترجع الغياب بينما حريٌّ بها تعيينُ الحضور، فتفاقم من مواراة صاحبها كإطارٍ يظلُّ معلَّقاً مطوِّقاً الفراغ وإن خلا مِن صورته التي سُرقت. "هوية" المستضعف تستدعي التوقيف والاستجوابَ والتحقيق والقيودَ المتينة الشفافة في أحزمة الشرطة، تسطع في الحدقتين، متلألئةً كجبينٍ أنداه العار، يفضحها الصمت الذي يترجمها بكلّ اللغات. جسدُ الغريب يترجم حيراتِ القلق والارتباك إلى عَرق- التعرُّق أحياناً بكاءُ الجسد الأخرس أو استحمامُ المُهان بماءِ الإهانات، لا تفصده من المسامّ شهقاتُ الحبّ أو الكدح باليدين، بل العيون بأحداقها المتوهّجة كالجمر تحت مروحة الشواء؛ كلُّ نظرة شعاعٌ نفّاذ يخرق موشورَ الجسد فيتحلّل نورُ العالم إلى قطراتٍ من الخوف وروائحَ كروائحِ الفرائس.

بريق النظرة، متفاوت الدرجات والأشكال، يشي بديانة الغريب وبلاده وقارّته من دون حاجةٍ إلى كلمات، وإذا استطاع نطق اسمه امّحى بدلاً من الظهور، مثلما يتلاشى حيوان السكوونك المستوحِد، ذائباً في دمعه الحارّ المذروف فجراً، عند مباغتته أثناء انزوائه ليبكي وحده في غابات الشتاء، لأن الصيادين يعرفون كيف يقتفون دربَ دموعه المتجمدة وراءه في صقيع الليالي، لامعةً تحت ضوء القمر. 

***

-من أين تأتي الرَّيْبُ، من أين تأتي الرِّيَب؟-

إنّ الغريبَ له مخافةُ سارق    وخضوعُ مديونٍ وذلّة موثَقِ

-الإمام الشافعي-

من أين تأتي أخطائي وظنوني؟ كنتُ أحسب إيفا لونغوريا ممثلة إسبانية فارقتْ هذا العالم، محجوبةً بالعباءات السود لحقبة فرانكو، ثم رأيتُها وقد بُعثتْ سفيرةً لمستحضرات لوريال، في دعايةٍ منصوبة بالتوازي مع بقايا جدار برلين في ساحة بوتسدام، سيدةً سمراء قصيرةَ القامة، شعرها كستنائيّ كريشِ عصفور الدُّوريّ الذي ظلّ يتنقّل، ذاك الصباح المشمس، في زمهرير شباط، متقافزاً بين كراسي المقاهي وطاولاتها الخالية، مرفرفاً بجمال ضآلته في ظلال البنايات حيث تراكمت بقايا ثلج ضاربة إلى الزرقة خلتُها للوهلة الأولى رملاً أو رماداً. كنتُ أتجوّل كمَن أوكلتْ إليه روحُهُ جبايةَ الابتسامات من الغرباء، أو بالأحرى كمَن يستعطي عطفَ هذا من المارّة أو يستمهل قصاصَ ذاك أو يستجدي لطفَ تلك، من دون تبادل أي كلام.  

في ساحة بوتسدام، بغتة، من دون أي سبب صريح، اختلّت خُطاي وخرستُ قبل الدخول إلى صالة السينما لأشاهد فيلماً عن إبادة الشيوعيين في إندونيسيا أثناء حكم سوهارتو، وتوهّمتُ مَن ستوبّخني لأنني انتهكتُ قدسية الأرتال أو توقفتُ في اللحظة الخطأ أو الموضع الخطأ، أو سهوتُ عن قول "من فضلك"، أو ساهماً مسستُ بكوعي خاصرةَ أحد المتجمهرين ولم أسارع إلى الاعتذار بأحرّ الكلمات، ولن يرحمني أحدٌ إذا أخطأتُ مهما تفه خطأي، فلسانيَ كليلٌ وقوليَ مكذوبٌ ولا ناصرَ لي، وبالتأكيد ثمة مَن سيعنّفني لأنني تباطأتُ فأعَقْتُ، أو استعجلتُ فانتهكتُ ما لستُ أدري، ولن أجد التوازن أبداً، وتضاءل جسدي، الحنطيّ في سمرته مثل حوّاء لونغوريا الملتفتة إلى جمهور العابرين بإغواءٍ يثير شيئاً من الاشمئزاز، ذاوياً أمام عافية جسدٍ أشقر مرَّ أمامي ولم يرمقني، شابٌ لا أعرفه بالطبع ولا يعرفني، تخيلتُ عضلاته منذ طفولته مضخوخاً فيها حليب الدانمرك والفواكه الاستوائية ودَعة النوم، وتشوّهتْ عظامي وتقوّستْ ساقاي وتهدّل كتفاي أمام هيكله الضخم المُقاس جيداً بمسطرة الربّ، وعلى مقربةٍ منّي نبّهتْ أمٌّ شقراء زرقاء العينين طفلها الأشقر أزرقَ العينين معتمر الخوذة راكب دراجته ليتريّث وينتظر، وكانت نبرتها آمرة هادئة، نبرة واضحة كالقوانين وخفيضة قاطعة كزوايا الشوارع الفسيحة المستقيمة التي قصّتْ جسدَ برلين الممزَّق بعد الحرب، ولبثتُ أنا مسمَّراً، لا أقوى على النظر في عين أحد، مفكراً كيف ستتغير ابتسامةُ عينيها إن سمعتني أتحدث بالعربية أو ألفظ اسم "سوريا" على الهاتف، وطالت إطراقتي، متوهماً نظراتٍ تنهالُ عليّ وتسجنني في جلدي وتعثّرني أو تحجّرني، تعرّيني أو تنهش اتزّاني، تتفحّصني على عجل وتقيّمني من حلكة ملابسي وطرازها وتحكم عليّ بالفقر، فالعيون تستريب وتستخفّ وتحْذَر أو لا ترى إطلاقاً (لكلِّ عين فمٌ، وإذا شاءت فبمستطاعها أن تغتصبَ وتشتم، بنظراتٍ لامعة كالنصل أو البصقة)، وتشعرني بوسخٍ لم ألحظه يحزّز ثنايا الركبتين أو المرفقين أو يسوّد ياقة القميص، وتجرّدني من الأبعاد لأغدو مسطَّحاً كصورةٍ ستمزّقها رياح شباط المشؤومة أمام أعينٍ لا ترأف ولا تأبه، في ساحة بوتسدام، على الحدّ الفاصل بين الشرق والغرب في ماضي برلين الذي لم ينصرم، ظللتُ واقفاً لا أحرّك ساكناً مثل حيوانٍ محاصر قبيل انقضاض الضواري عليه وافتراسه، أراقب العالم من حولي بزاوية عيني، ولكن تعيّن عليّ أن أزحزحَ جسدي في تلك الحيرة حين يتواجه جسدان يمشيان في اتجاهين متعاكسين، فتنحّيتُ أنا كمَن يقدّم تنازلاً، مبتسماً، لأن جاهل اللغة، وهذه قاعدةٌ لا يختلف عليها اثنان، مكثر الابتسام ومسرفٌ في هزّ الرأس، مسرفٌ في التلويح بيديه اللتين تتجمّد رفرفاتهما حين تحطّ عليهما عينٌ تَستغرب أو عدسةُ كاميرا لا تكفُّ كالموت عن تسجيلِ الحياة، واستدرتُ عن الكوّة محاطاً بدببة مهرجان السينما، ولم أقطع تذكرة لحضور "نظرة الصمت" مرة ثانية، وبدأتُ المشي على مهل، مبرَّحاً ببقايا إذلال لم أستطع تحديد مصدره، كأن مجهولاً أهانني وتوارى في الزحام قبل أن يمنحني القدَر فرصة للردّ، أو كأن عضواً من حركة بيغيدا (لا بد من وجوده وسط كل هؤلاء المارّة المجهولين الذين يهدّدون، بغتةً، مجهولاً آخر هو أنا يهددهم بدوره)، سيرى في وجهي خلاصةَ الأجانب الغزاة الجدد وزبدةَ الفوضى، المشكلةَ الوحيدة المتبقّية أمام المؤمنين بديانة العلم الذي يُرى وكأنه قد حلَّ حقاً لغزَ الكون، وسوف يُشفي السرطان لترغدَ شيخوختهم أكثر وتطول أعمارهم، ضِعفَ أعمار الأمّيين المقصوفة في أصقاعٍ ودياناتٍ أخرى، أو سينبري غاضبٌ في هذه اللحظة ليؤدّبني على الملأ، أو ربما سيؤجّل تسلُّله من الخلف ليدسّ في قبعة معطفي تفاحةً عفنة أو يرشّ فراءَها ببضع قطراتٍ من دمِ خنزير أو يشدّ شعري الطويل أو يصفعني على مؤخرة عنقي، محاذراً ملامستي من دون قفّازات، فالملامسة ستفتح باباً لا يُسْتأمن إلى الذعر، لتجلجلَ صيحةٌ ستهشّم ما بدا لي كؤوسَ كريستال على موائد المطاعم المجاورة الهادئة، وأنا متمادٍ في أوهامي كالمُساقِ مكبَّلاً إلى حتفه، أو سأسمعه، نصير بيغيدا، مستغرباً مثلي ردَّ فعلي شديد البطء، صارخاً في أذنيّ بأن الحكومة ستمنع عما قريب المجاورةَ بين الربع الخالي والغابة السوداء، ستمنع الاختلاط بين الرمل والثلج، ولن يأتي يومٌ يطغى فيه شَبَهُ الأهلّة على ذهَبِ الصُّلبان.

واصلتُ صمتي لأتحكّم بخوفي وأهذّب عنفي الخفيَّ الغامض فلا تترجمه يداي أو قدماي أو لساني، ولا أقترف شيئاً ضد نفسي أولاً، حتى سالتْ مشاعري من جبيني وإبطيّ وتبخّرتْ من مسامي الساخنة كفوّهات براكين، وانقلبت نقمتي على نفسي إلى أسَفٍ شحَبَ معه وجهي، فكرهتُ على الفور، رغم أنني كنتُ وحدي ولا أكاد أعرف أحداً هنا ولا أحد يعرفني، كرهتُ أن يُفسَّر حزني بمصائب بلادي، إذ لا بد من نبأ رهيب ليبرّر وجومي وصمتي المباغتين، فجلدي ينوب عن قارةٍ أو أكثر، وملامحي تنوبُ عن شعوبٍ بأكملها تلتبس فروقاتها على العابرين في ساحات برلين، ولوهلةٍ ظننتُهم يحسبونني إيرانياً أو أفغانياً تعبقُ جيوبه بطراوة الحشيش، أو آتياً من سردينيا ببشرتي الملوَّحة التي لن يقارن أحدٌ وسخها بالكولا المغشوشة أو الشاي الثقيل أو الزبدة المائعة أو الوحل أو الشوكولاته الفاسدة وأشياء أخرى، أو لن تذكّرهم دُكنتها بالمشنوقين والغرقى وبهوت المخنوقين بغاز الكلور، وهذا يكفي، قلتُ لائماً نفسي على وضاعةِ ما يراودني ولا حيلةَ لي أمامه، هذا يكفي للارتقاء إلى مصافّ الشقر الذين تمسكُ أيديهم بزمامِ الأسواق ومفاتيحِ التاريخ والحضارة، أو ربما هذا كفيلٌ بالحجْر عليّ في الما بين، واحداً من ملايين المهجَّنين، فتفقّدتُ بشرتي الخلاسية في واجهة المول الضخم، غامقة كبشرة الرجال السُّمر الذين تتغنّى بهم أغنيات الفرات وتناسبُ حيرتي، وتأكّد لي إن الآخرين يستشفون هذه الحيرة، في المخبز أو المقهى أو الصيدلية، فتحيّرهم وتشحذُ الريبة في أحداقهم ويشتبهون بتلعثمي ويحتقرونني لحدسهم بتزعزع ثقتي وباحتقاري المحتمل لنفسي، ولكنهم لا يستشفّون من لُكنتي بلداً معيناً ينسبونني إليه، ثم فكرتُ بأنهم قد يحسبونني يهودياً وتخيّلتُني أقدِم على انتحال صفة اليهودي واستغلالها، تحديداً هنا في ألمانيا، في حين إني ما بارحتُ حالتي إياها، راغباً عن التحديق بأي إنسان، وكارهاً ملاقاةَ العين للعين، خوفي رسالة ونذير، أو دعوة إلى العطف لتتقدّم صوبي سيدةٌ متقاعدة وتمسح بمنديلٍ جبيني وتطمئنني وتردّني إلى جادّة الأمل والتسامح، لأن العين بما في القلب تنضح، فبسبب تصوراتي تلك، سوف تراني محروماً من النضوج فتراعيني كأنني طفل ذاهل أو يتيم ضائع على أرصفة هذا العالم، بينما كنتُ محاصَراً بعابرين لن أصادفهم ثانية أجتازُ معركة خرساء لا دماء تُراق فيها، وعليّ التناسي والتحلّي بالهدوء، وإن ادّعيتُ رباطة الجأش وكأنني مجازفٌ بالتحدّي لمنازلة خصومٍ مجهولين في لعبةٍ لا أعرف قواعدها، لأن الجميع عنيفون تلجمهم القوانين ويكتمون غضباً مُبهَم الأسباب، وما أكثر المثخنين بالجراح في هذا الصمت، في قسمة البؤس الكبرى، وأنا مثلهم في خطَر، أبادلهم الخوف بالخوف، مهووسين جميعاً بالتصنيف وتحديد المراتب ومَقْتِ الانصياع، أرواحاً جريحة تلوح أمام أبراج الفولاذ والزجاج السميك، تزحف أو تقفز على أدراج المترو وتكمدُ في شُقرةِ مقطوراته، فتوهّمتُ العيون مرة أخرى تتبادل التهديد، فيجهِز عليّ أحدُهم بعينيه وأُفنيه بعينِ قلبي، حتى أرهقني خوفي وسئمته وسئمتُ نفسي، فكففتُ عن ملاحقة ما تهذي به روحي، ولكني في اللحظة ذاتها ما عدتُ أجرؤ على أن أستوقف أحداً من المارة مستفسراً عن عنوانٍ ضيّعته، مخافة أن يكمل طريقه وكأنه لم يسمعني، أو مخافة اتهامي بأنني أنا الزنخ مَن رمى منديل مخاطه أسفل الحاوية أو فوق جذور البتولا، فارتطمتُ بنتوء في الإسفلت وتكثّفتْ حماقتي في عثرةٍ كادت تطرحني أرضاً، ولم أستطع أن أرفع يدي لأستوقف سيارة تاكسي لأن سائقها سيتفحّصني كذلك وقد لا يستوقفه أمثالي، حتى لو غلى الدمُ وتوسَّمني كرديّاً مثله، وبغضتُ الدخول إلى مطعم إيطالي سيأتيني نادلهُ الأبيض ذو المئزر الأسود بحساء البصل في زمهرير شباط، بعد تلكؤ وعلى مضض، لأنني أنا مَن تتوجّب عليه الإطاعة وتأدية دور الخادم، هذا إذا لم يساوره في غطرسته احتمالُ أنني سأتحرّش بالنادلة فقد لفتت نظري زهرةُ الوشم في رقبتها البيضاء الطويلة، ولن يردّ على تحيّتي عند دخولي أو انصرافي، فسلكتُ شارعاً عريضاً نسيتُ اسمه، وأمعائي تقرقر جوعاً، مرقّقاً قسماتي باصطناع دماثةٍ لم تكن إلا قناعَ خوف، ولا تشبه أبداً اللطافةَ الودودة التي تهبها الفظاعاتُ إلى بعض ضحاياها، بعدما استرابتْ بي عينا رجلٍ يركن سيارته في زقاق شبه خالٍ كأنني أخطّط لسرقتها أثناء توقّفي لأستطلعَ هاتفي من دون أيّ داعٍ، متأفّفاً متظاهراً بأنني أنتظر شخصاً تأخّر وصوله، ثم فكرتُ بمجاراة أولئك المارة المجهولين الذين قسوتُ وجنيتُ عليهم، لأحاكيهم في الحياد واللامبالاة والموضوعية، ولا أنشغل بهم وبما أتوهّمه من فظاظة وغرور محبِطين، وسرعان ما تعثّرتُ بالشعرة الفاصلة بين الكبرياء والوقاحة لأقع في بلبلةٍ أخرى ممتعضاً مِن كل مَن يتباهى، والتباهي بغيضٌ وحكرٌ على الذين أخالهم أقوياء ويزدرونني، ولم أطق اعتدادي الخاطف بنفسي، وقلتُ في سرّي لن أحيد عن هذا الشارع العريض، مهما جرى، حتى أشمَّ الزيزفون الذي سمعتُ عنه في برلين وكنتُ أستدلّ به إلى الموتى في مدن أخرى، متحاشياً النظرَ إلى الواقفين على الطرف الآخر من الإشارة المرورية منتظرين اخضرارَ الضوء، مكتفياً بهواء الفراغات بين رؤوسهم وأكتافهم أو بالشرفات الخالية والنوافذ المظلمة، وإذا لاح وجهٌ أشحتُ بوجهي على الفور، ملتزماً بالعهد الذي قطعتهُ على نفسي، مقسِماً بقبرِ صديقي إنني لن أنكثه، لأحملقَ بالجمادات فحسب، كتمثالٍ حيّ فارغِ العينين يمشي على رِسله محدّقاً بأسيجةِ الأرصفة والمقاعد التي كسا الطحلب بعضَ أخشابها، وكالمطرود من مَرقصٍ مُريعٍ فخم لم أفلحْ في ضبط لهاثي وتصريفه على دفعات، ما عدتُ أجرؤ على طلب أي شيء من أي أحد، مهما كان بسيطاً، وبقيتُ في الوقت إيّاه عرضةً لعيون المتفرّجين، تاركاً رحمةَ نظرتي تسرح بكلّ ما ليس آدمياً، ذات النظرة التي تسبق الانهيار، كأنني سأخرّ على ركبتيّ في أية لحظة لأتوسّل الصفح من عمود الإنارة والأشجار العارية والحجارة والغربان، وأنا ألمح بزاوية عيني شرطياً بديناً طرّيتُ نظرتي التائهة حين حاذيتهُ، وتخيلتهُ يطلق النار على شابّ يشبهني في تلك الشمس الوادعة، وألمحُ البرجوازياتِ الأنيقات وأطواقَ الخرز الفيروزي في نحورِهنّ المبرقشة بالنمش، الكهلات النظيفات بألوان ثيابهن وحقائب الجلد الليّن الفاخرة، وشاباتٍ بحقائب ماركة سويدية شعارُها يشبه ثعلباً ولا أستطيع لفظ اسمها، مفكراً إن إحساسي بالوسخ ليس آتياً من القذارة الملموسة، وإنما هذه هي طبقات الخوف المترسّبة فوق حياتي، بعد تغلغله في كل شيء، في كل زاوية، في الهباء الطافي داخل هذا الضياء الصافي، في القهقهات خلفي، بينما أنا عاجزٌ عن الالتفات، عاجز حتى عن قول "المعذرة" أو "شكراً" إلا بجفافٍ أو بخفوت فيُستغرب همسي أو يُستهجَن، وكأنني سأقضي نحبي الآن، أو قد سمعتُ للتو بوفاة صديق.

ومع ذلك كلّه لم يلحقْ بجسدي أذى، لم أنَلْ ركلة أو لكمةً من أحد، ولم يهشّم سكران على قحف رأسي قنينةَ بيرة. كانت قسوةً قصوى خيبتي بتدهور الأشياء إلى ما كانت عليه، منذ هنيهة، أو ساعة، أو ما لا أدري من الوقت. سرتُ على الجادّة الطويلة، حتى اجتزتُ بوابة براندنبورغ، طيفاً عابراً تحت عربة النصر التي أصدأ الزمنُ والمطرُ برونزَ أجنحتها وأحصنتها، بمحاذاة سياراتِ مرسيدس تقودها أشباح وسياراتِ فولكسفاغن تقودها كوابيس، متمهّلاً أعود إلى الحياة كمَن دُفن حياً ثم نجّته أعجوبةٌ اجتازتْ به بوّابةَ العاج لتعيدَه من العالم السفلي وتغمره ببهاء الشمس. 

***

-مَن يُرَ يمُتْ. مَن يرَ يعمَ -

حلمتُ بالبازيليسك: مخلوق عقيم، نصفه ديكٌ ونصفٌ ثعبان. فقستْ عنه بيضةُ الديك بنابي ثعبان حاول التهامها. نظرته الزعاف فتّاكة تفتّت كلَّ ما تقع عليه إلى رمل، ومُهْلِكتُهُ المرآة.

لا تفارقني الصحراء لأن عينيّ مساهمتان في خلقها. إذ مثلما الكلمات بنات الشفاه والنجوم بنات الليل والدموع بنات الأفكار وبعض الطيور بناتُ الماء، فهذه الصحراء التي تصاحب سكوتي وتواسيني وتأويني في ترحالي، هذه الصحراء بنتُ العيون، كل حبة رمل كانت شيئاً آخر حياً قبل أن تُميته نظرتي أو نظرات الآخرين. أوشكتُ أسجّل كل لحظة عصيبة من تلك الهنيهة التي استطالت في شوارع برلين، محاولاً ألا تفلت شاردةٌ من قلب ذلك السكوت، ولكنني دائماً أنسى شيئاً مهمّاً ينعقد على وجوده كلُّ مسعاي وجدوى أيامي، ويتعيّن عليّ البدء من جديد مرة أخرى، عليّ الانطلاق من الصمت والنسيان. 

[قُرئت هذه الورقة ضمن ملتقى "كتابة (في) المنفى" الذي انعقد في برلين يومي 10 و11 تموز، ونظّمته مؤسسة آفاق-الصندوق العربي للثقافة والفنون، بالتعاون مع EUME ومؤسسة هينرِش بُول].

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • الأكاديمية الفرنسية لتخريج الشعراء

      الأكاديمية الفرنسية لتخريج الشعراء

      طُوّب "الكليشيه" في فرنسا. إنّها أمة الثقافة، "الوعي" علامتها المسجّلة. يترعرع أهلها على حبّ الشعر، يعيشونه، يتنفّسونه، يلمسونه في زهور نوافذهم وأوشحتهم، أحذيتهم الزاهية، تلاعبهم المستمرّ بالألفاظ.

    • رحلات في الزمن

      رحلات في الزمن

      تعدّدتِ الساعات والوقت واحد.

      قاسه البوذيون بحبة رمل، والمسلمون بقطرة ماء، والسلتيّون بذرّة رماد.

    • تعويذة اسمها القرداحة

      تعويذة اسمها القرداحة

      صمتٌ وجيز، تحت سماء بيروت التي تستضيء أطرافها بحرائق خفية عند انقطاع الكهرباء، أوهمك فيه هديرُ المولّدات وارتجاجُ زجاج الشبابيك بأن شارع الحمرا سيقلع بمقاهي أرصفته وتاريخ مبانيه، بصحافييه ومتذمّريه وجماله وألفته، آخذاً معه العمود الذي ربط إليه رفيق شرف جواده أمام الهورس شو، وكشك الجرائد مقابل كوستا، ولافتات وسترن يونيون الذهبية، ومناقيش زعتر وزيت

حوار مع مظفر النواب - الجزء الأخير

س: هناك حديث كثير عن أزمة الشعر وعن العلاقة بين تطور الوسائل السمعية والبصرية والرقابة والمصاعب المادية وأسعار الورق. فهل الشعر في أزمة؟

م ن: لقد طرحت أشياء عديدة. إن طغيان المرئيات، التلفزيون والـ «سي إن إن» وغيرها، سوف يشغل الناس لفترة. لكن الأذن تظل دائماً بحاجة إلى شيء آخر. أنا مثلاً لا أحب أن أشاهد التلفزيون كثيراً. أحب أن أسمع ولا أدري لماذا. بعد فترة سيكون هناك توازن مرة ثانية. الجانب الثاني هو أسعار الورق والرقابة. طبعاً هذه تؤثر بشكل سلبي. وعندنا في البلاد العربية هذه الظاهرة، مع الأسف، أكثر تفاقماً. فقليل من الناس يمكنهم أن يشتروا كتاباً. مثلاً، بعض الكتب في سوريا سعرها ٨٠٠ ليرة وراتب الموظف ٣٠٠٠. أما في العراق فالموضوع لا يمكن الحديث عنه.

س: من الواضح أن هناك انحساراً في جمهور الشعر. هذه ظاهرة عالمية لا تقتصر على السياق العربي. هناك من يقول إن قصيدة النثر هي السبب؟

م ن: هناك قصائد نثرية جميلة. لا علاقة لقصيدة النثر بالموضوع. هناك علاقة بالاغتراب. بعض التيارات تطرح ما معناه أنه كلما كانت هناك غرابة أكثر في القصيدة وصعب فهمها فهي قصيدة عظيمة. وهذا شيء سيئ جداً. وهو في الحقيقة عجز من جانب تيار معين عن إيجاد جو شمولي للقصيدة. القصيدة تحتاج إلى جو وفضاء شموليين. وعند عدم مقدرتهم على توفير هذا يجمحون إلى الغرابة والغموض. تعجز أنت عن الفهم وتصبح أنت المتهم! الجماهير، بفطرتها، عندها عزوف عن هذا ولن تتابعه. وهذا هو رد فعل طبيعي وسليم وشيء جيد. أحياناً يكون الغموض جزء من المادة ويضيف لها جمالية. هذا الغموض ليس غريباً. أما تقصّد الغموض فهو مرفوض.

س: إذا ليس لديك مآخذ على قصيدة النثر كشكل. هل تعتقد أن بإمكانها أن تأخذ مكانتها؟

م ن: لن تحتل مكان أي شيء آخر. يبقى النهر نهراً والبحر بحراً والساقية ساقية. كل واحدة لها إيقاعها.

س: هناك من يتهمك بالمباشرة؟

م ن: هذا ليس اتهاماً وأنا أقول هذا.

س: هم يرون المباشرة عيباً.

م ن: أنا لا أتصورها عيباً وإلا لكنت تجنبتها.

س: هل هذا هو الثمن الذي تدفعه لكونك قريب من الجماهير؟

م ن: أنا دائماً أقول إنه عندما يكون لدي الوقت الكافي، أعمل على القصيدة كما يحلو لي. لكن هناك ظروف معينة. مثلاً، عندما احتلت إسرائيل لبنان، فهذا موقف يسحب فيه شخص سلاحاً لكي يقتلني. وبجانبي سكين لكن شكلها ليس جميلاً. ألا أستخدمها لضربه؟ بل سأستخدمها. أنت أحياناً تحتاج لأن تدافع عن وجودك وعن وجود أمة وشعب. فتستعمل السلاح القريب منك. لا تجلس لتفكر كيف تزخرف الخنجر. جميل جداً أن يكون الخنجر مزخرفاً. هذا رائع. ولكن في ظروف معينة تصبح القصائد برقيات. كنا نبعثها بالفاكس أيام لبنان. كانت تلعب دورها بين الناس وهذا ما يجعلني أكثر قرباً منهم. وعندما تكون قريباً من الناس تشعر بالكون بصورة أفضل. تشعر أنك جزء من النسيج الحي.

س: لمن تحب أن تقرأ؟ من يلهمك؟

م ن: أحب قصائد وليس شعراء. أحب المتنبي، مثلاً، في أغلب قصائده. لا أحب المديح. فيه صور جمالية لكنني لا أحبه. منذ صغري كنت أذهب إلى مكتبة والدي وآخذ ديوان المتنبي لأقرأه. وعندما يصل إلى المديح كنت أتركه.

س: ومن المعاصرين؟ إذا ذكرت لك أسماء هل من الممكن أن نعرف رأيك بها؟

م ن: لا أحب أن أجيب على أسئلة كهذه.

س: طيب. هل من المكن أن تحدثنا عن تجربتك المسرحية الأخيرة؟

 م ن: هناك مجموعة من الشباب العراقيين في الشام. جاء قسم منهم من معسكر رفحة ومنهم من هو مخرج. كان لديهم جو من اليأس بخصوص إمكانيات العمل. فتكلمت مع شاب منهم وقلت له لماذا لا نقوم بعمل؟ كانت لدي محاولات مسرحية أيام يوسف العاني وكان يقول لي لماذا لا تكتب؟ فقلت لهذا الشاب إني سأكتب نصاً. لكي نذكّر الناس بأجواء العراق. وهذا هو المقصود أساساً وهو إعادة العراق للذاكرة. لأن الموجودين في الخارج بدأوا ينسون شيئاً فشيئاً. لكي نذكّر الناس. وسأكتبه بالعامية. فوافق وكان متحمساً وهو لديه قدرة إخراجية. جمعنا عدداً من العراقيين الموجودين في الشام من مختلف الاتجاهات: قصة وشعر. ووافقوا على الاشتراك معنا في التمثيل. لم تكن لديهم خبرة سابقة في التمثيل. واشتركت معنا بعض الأخوات السوريات، وهن ممثلات، لأننا كنا بحاجة إلى العنصر النسائي. وكان هناك شاب مغربي أيضاً. كان عدد الممثلين أكثر من عشرين وهذا صعب. يتطلب مقدرة كبيرة على تحريك المجاميع وقدرة جمالية في فهم فضاء المسرح. كنت أكتب فصلاً وأعطيهم إياه ليعملوا عليه. وفي الحقيقة فهم بذلوا جهوداً مضنية وعملوا في ظروف صعبة. كان العمل في المنتدى العراقي في دمشق. وحصلنا على تبرعات من النادي العراقي في ألمانيا ومن بعض الأشخاص. من صديقة سورية وصديق ليبي. واستمر التدريب لمدة سبعة أشهر. العمل الذي اخترته يدور حول التجربة التي عشتها في موقف السراي. كل شخصيات المسرحية هم من العاديين. واحدة منها فقط هي شخصية سياسية وانتهازية.

س: هل تم تصوير المسرحية؟

م ن: صورت، ولكن للأسف، لم تكن لدينا آلات حساسة. هناك بعض المقاطع التي صورها المخرج ولكن لم أشاهدها. الشخصية الرئسية حشاش كان معنا في موقف السراي اسمه «أبو سكيو». وكان محششاً وعيناه مغمضتان على مدار الساعة. لم أكن أنام في الليل. وفي الصباح كان هو يعمل الشاي لكي يصحو وكنا نتحدث. كان يتكلم وهو مغمض العينين ويحدثني عن «درابين» بغداد القديمة وساحة الكشافة والمكتبلية وعن سبب حجزه. كانت لديه حكايات كثيرة. كان يبيع «الباگٓلة» أمام وزارة الدفاع ويوقف عربته أمام محل لبيع الفاكهة. كان زبائنه يلقون بالقشور على الأرض بعد الأكل، فكان صاحب الدكان يتعارك معه ويقول له: لا تقف أمام دكاني لأنك توسخ الرصيف. وذات يوم قلب صاحب الدكان العربة وصادف أن مرت واحدة من الميدان كان أبو سكيو يحبها فخجل لأنه ضُرِب أمامها. فقام أبو سكيو بحرق الدكان في الليل وتم توقيفه. في المسرحية يسأل أحد الموقوفين، وهو السياسي، أبو سكيو: لماذا أنت هكذا؟ فيقول له أبو سكيو: كنت على ما يرام. لكن عندما بدأت أقرأ جرائدكم بدأت بالتحشيش. فالمسرحية فيها نقد لاذع ومر وإدانة للشخصية العسكرية. المسرح مقسوم إلى قسمين وفوق الموقف هناك عسكري يروح ويجيء مرتدياً نياشينه وهو المسؤول عن الوضع كله.

س: ما هي أقرب قصائدك إلى نفسك؟

م ن: كلها قريبة إلي. أنا أستمتع بآخر قصيدة أكتبها أكثر. الآن أعمل على قصيدة بالعامية. في البداية لا أكتب. بل أقلب الفكرة في ذهني.

س: للكتّاب طقوس وعادات معينة. هل تكتب في أوقات محددة؟ هل لديك طقوس خاصة؟

م ن: ليس عندي قانون. مثل الشرب. فأحياناً أشرب وأحياناً لا.

س: هل تمر بفترات جفاف لا تكتب فيها؟

م ن: كلا. في البداية ربما. أحياناً تمر ستة أشهر دون أن أكتب. وأنا أعرف هذه الفترات. قد أضجر فيها. لا أكتب ولكنني أجمع بشكل غير واع. أقول في إحدى القصائد « يغرق الداخل بالزبل إذا ما أضرب الشعر ليومين.» 

س: عندما تركت بغداد آخر مرة، هل كان لديك شعور أو حدس أنها ستكون آخر مرة؟

م ن: عندما حلقت الطائرة فوق بغداد، وشاهدتها من فوق، بكيت وعرفت أنني لن أرجع لزمن طويل.

س: متى كان ذلك؟

م ن: بعد أن أتوا بعدة أشهر (١٩٦٨).

س: حين تحن إلى بغداد ما هي الصور التي تمر بذهنك؟ هل هناك صور أو أشخاص معينون؟

م ن: كل شيء. بالذات أيام الطفولة. لكنني أتذكر كل الناس ولدي حنين شديد لهم. بعضهم رحل إلى غير رجعة.

س: تنقلت في مدن عديدة في المنفى. فهل هناك مدن أحسست فيها بحميمية أو ارتحت أكثر فيها؟

 م ن: عشت في أوربا ثماني سنوات ولم أحبها. عشت في اليونان وفي باريس و ومدن أخرى. عندما أكون على الطائرة إلى أي بلد عربي أجدني أبتسم دون إرادتي. حينما أذهب بالطائرة إلى ليبيا، مثلاً، أشعر بقدوم الشمس. في سوريا كذلك نفس الشيء. ولدي أصدقاء كثر وهناك ود عجيب بيني وبينهم.

س: وقعت عدة محاولات ضدك. هل من الممكن أن تحدثنا عنها؟

م ن: هم يتابعونني. ذات مرة التقيت بشخص من حراسات صدام أثناء اختطافي في اليونان.

س: متى؟

م ن: أيام الهجوم على المفاعل النووي العراقي. سحب مسدساً وعليه كاتم للصوت وكان أحد الأسئلة التي وجهها لي هو عن جواز السفر الذي استخدمه. كانوا سينقلوني للسفارة لإجراء تحقيق طويل معي. فقلت له: جواز عراقي. ولم يكن هذا صحيحاً حيث أنني استعملت عدة جوازات. فقال لي: دوختنا ثلاث عشرة سنة. كلما تبعناك إلى مكان ما تتحرك إلى مكان آخر. مما يعني أنهم كانوا يتابعوني.

س: هل كنت تتقصد مراوغتهم؟

 م ن : كنت حذراً ولكن ليس بالقدر الكافي.

س: وكيف تخلصت منهم؟

 م ن: قصة طويلة. ربطوني بحبال وزرقوني بإبر منومة. ولكن كان لدي إحساس داخلي بأنني سأنجو. كنت أشعر بذلك.

س: وماذا عن المحاولة التي وقعت في اليمن؟

م ن: كان هناك تخطيط لمحاولة. ولكن اتصل شخص من السفارة ليحذرني من الذهاب إلى مكان معين. زوجته حثته على أن ينبهني. لم يذكر اسمه ولكنه قال إن زوجته كانت تصب الشاي لمجموعة كانت تجتمع في بيته وسمعتهم يتحدثون عن الخطة ونقلت الكلام له.

س: قلت لي في لقاء سابق إنك التقيت مرة بصدام؟

م ن: نعم. بعثوا علي من القصر الجمهوري وكان حديثاً طويلاً. كانوا يحاولون استرضائي بكافة الوسائل وعرضواعلى أن أشغل منصباً. لم أكن مستهدفاً بصورة شخصية آنذاك.

س: كان صدام نائباً للرئيس في حينه؟

 م ن: كلا، لم يكن لديه أي منصب. كان قيادياً في الحزب. لم يكن متوتراً وكان دمثاً في الحوار بالرغم من إجاباتي التي كانت واضحة جداً. مثلاً أحد الأسئلة التي سألها هو: ألا تثق بنا القيادة المركزية؟ وكنت أتكلم معه علي أساس أنه ليست لي علاقة بأحد. فقال لي: حسناً. أنت، مطفر النواب، هل تثق بنا أم لا؟ فقلت له: يمكنك أن تعيدني إلى الموقف. ليس عندي ثقة بكم. ضحك ولم يقل شيئاً. لا أدري. هو لديه تفكيره وأبعاده. لكن هذا ما دار.

س: ماذا تذكر عن فهد؟

 م ن: كنت صغيراً عندما أعدم. كنت طالباً في المتوسطة. أذكر أن أحد الذين أعدموا معه كان يهودا صدّيق، وكان يدرسني مادة الهندسة.

س: هل هناك شيء ندمت عليه فكرياً أو حياتياً؟

م ن: لا. هذه حياتي ولو عادت من جديد فستكون كما هي. بالعكس، أنا سعيد لأن هذه الحياة مكنتني من أن أكتب وأن أرسم.

س: هذه ثاني زيارة لك لأمريكا خلال عام. ما هي انطباعاتك عنها وعن ثقافتها؟

م ن: بلد ضخم. ضخم فقط. بصراحة، لم أحتك بالمجتمع الأمريكي.

س: تحدثت عن دستيوفسكي. لمن تقرأ من الأباء العالميين وهل تقرأ الشعر المترجم أو الروايات؟

 م ن : أقرأ الشعر المترجم ولكن لا أحبه بالضرورة. هناك أشياء أحبها لكن الكثير يضيع في الترجمة. أقرأ الكثير من الروايات. وأحب قراءة الكتب العلمية وكتب الفلك. فيها خيال عجيب وتضيف أشياء كثيرة. كما أحب القراءة في علم الأحياء والوراثة وأحاول اقتناء هذه الكتب، خصوصاً بعد تجربة موت سريري مررت بها في عدن.

س: موت سريري؟ كيف؟

م ن: قصة طويلة لا يتسع لها المجال. أنا أظل أعاند وأي قضية لا أوافق عليها لابد أن أفهمها. وهذا كان أحد الخلافات في العمل السياسي. فهم يقولون لك يجب أن تنفذ ثم تعترض. ما هي الفائءة؟ بعد خراب البصرة؟ أنا أعتقد أنه رذا لم تفهم قضية ما يحب أن تستمر بالاعتراض. كان يجب أن أفهم تجربة عدن، فقرأت كمية هائلة من الكتب. بقيت لسنة ونصف في القاهرة أتابع الموضوع. قرأت كتباً كثيرة في الفيزياء وكل ما له علاقة بالتجربة ولا تزال غير مفهومة.

س: هل هناك محاولات لترجمة شعرك؟

م ن: هناك شخص قام بترجمة «وتريات» إلى اللغة الانكليزية وبعث لي بنسخة. الطاهر بن جلون ترجم بعض القصائد إلى الفرنسية ونشرها في «اللوموند». وهناك شاب عراقي في الدانمارك ترجم قصيدة واحدة ونشرت ضمن مجموعة لشعراء عراقيين. كما أن هناك باحثة أمريكية تعد كتاباً عن شعري وهي التي قدمتني في العام الماضي في جامعة هارفارد.

س: هل من الممكن أن تحدثنا عن تجربة الهرب إلى إيران واعتقالك هناك؟

م ن: بعد انقلاب ١٩٦٣ هربت عن طريق المحمرة إلى إيران واختفيت في طهران لفترة. كانت رجلي قد التوت وتورمت لأنني كنت ملاحقاً وتهت أثناء العبور. في إيران اتصل بعض العراقيين بالتنظيمات اليسارية هناك فهيأوا لنا سيارة تبرع بها أحد الأصدقاء. وبعثوا معنا بشخص ليذهب معنا إلى الاتحاد السوفيتي. وكنا قد ادّعينا بأننا نذهب إلى مصيف. أنا كنت أتكلم القليل من الفارسية. أحد الذين كانوا معنا لم يكن يعرف الفارسية فادعى أنه أخرس. ولكنهم اكتشفوا الأمر وأعادونا إلى طهران حيث تم تعذيبنا. وجدنا عدداً كبيراً من المعتقلين معنا. بقينا هناك من الشهر السابع، حين ألقي القبض علينا، إلى الثاني عشر. ولم نعلم بحصول تغيير في العراق وبقدوم عبد السلام عارف. ويبدو أنه كانت هناك صفقة بين الحكومتين، العراقية والإيرانية، لاستبدالنا بمناضلين من حزب توده. فأعادونا إلى البصرة. أخذونا إلى موقف البصرة ثم عزلوني وأخذوني إلى العمارة لأنني كنت أذهب إلى الأهوار. وبعد تحقيق شكلي أرسلوني إلى بغداد. وفي بغداد أحالوني إلى المجلس العرفي. ولم تكن محاكمة. تقف ويطلبون منك أن تشتم الحزب الشيوعي. وإن لم تشتم يحكم عليك، وإن شتمت تحصل على البراءة. ووضعوني في البداية لكي يؤثروا على مئة وعشرين شخصاً. كلنا كنا من الكاظمية. وأنا كنت في بغداد وقاومت في ساحة التحرير وليس في الكاظمية. قالول لي: اشتم، فقلت لهم: كلا. قالوا: اشتم كل الأحزاب، فقلت: لا. هم أرادوا أن يؤثروا على موقف البقية على أساس أن انهياري سيضعفهم. فحكموا علي بعشرين سنة وأخذوني إلى غرفة جانبية وحكموا علي بثلاث سنوات من أجل قصيدة «البراءة». حاول أهلي أن يخرجوني بالواسطات وما شابه ولكن دون جدوى. كان المدعي العام هو غالب فخري والحاكم نافع بطة.

س: وماذا عن محاولة والدتك زيارتك في طهران وتأثيرها في حياتك؟

 م ن: بدأت معاناة والدتي معي منذ بداية ارتباطي بالحركة السياسية. فهي كانت معي في كل خطوة. كانت تزورني كل يوم في الموقف وكل أسبوع عندما كنت في نگرة السلمان. وعندما سمعت أنني كنت في السجن في طهران صممت على أن تأتي. وكان الحصول على جواز مسألة شبه مستحيلة. فعبرت الحدود بصورة غير شرعية (قچغ). ووصلت إلى نفس السجن الذي كنت فيه لكنها لم ترني لأنه في نفس اليوم تم تسليمي للعراق. وعندما عادت عرفت بأنني حوكمت. عندما خرجت من العرفي كنت في سيارة مشبكة، فقلت لها: «عشرين سنة». وبدأت الزغاريد بعد أن قلت ذلك. هم كانوا يخافون من أن يكون الحكم بالإعدام. توفيت والدتي في العام الماضي. أخبروني وأنا في مطار تونس. وتضايقت جداً لأنه لم يكن بجانبي أحد. أحسست قبلها بوقت مثلما أحسست بوفاة والدي.

س: كيف؟ ومتى توفي الوالد؟

 م ن: توفي الوالد في ١٩٨٢. كنت أتصل بهم مرة كل أسبوع أو أسبوعين. ومرت فترة أسبوعين ولم تكن لدي رغبة بالاتصال. لم يكن هناك اتصال من ليبيا. وفي تونس، من رنين الهاتف أحسست بوجود فراغ في البيت وكأنها غير موجودة. اتصلت بكل البيوت ولم يكن هناك جواب. ثم رفع السماعة ابن أختي وقال: قبل قليل أخذوها إلى النجف.

س: هل صحيح أنه كانت هناك محاولة لاغتيالك بعد أن قلت جملتك الشهيرة «يا أولاد القحبة، لا أستثني منك أحداً»؟

 م ن: أطلق علي النار ذات ليلة ولكنني نجوت. الآن تعودوا عليها (يضحك).

س: هناك أسئلة كثيرة ولكن، للأسف، ليس هناك وقت.

م ن: الأسئلة ما تخلص (يضحك).

س: شكراً جزيلاً.

م ن: يا أهلاً ومرحباً.

***


يمكن قراءة الجزء الأول هنا والثاني هنا.