-مدخل: مبالغةٌ لا بدَّ منها-
هاء الهُوَ، أو هاء الهاوية، متبوعة بواو العطف التي تجسر طريقاً قصيراً بين نهايتين. الهوية مفردة لا تُستساغ لأنها تسترجع الغياب بينما حريٌّ بها تعيينُ الحضور، فتفاقم من مواراة صاحبها كإطارٍ يظلُّ معلَّقاً مطوِّقاً الفراغ وإن خلا مِن صورته التي سُرقت. "هوية" المستضعف تستدعي التوقيف والاستجوابَ والتحقيق والقيودَ المتينة الشفافة في أحزمة الشرطة، تسطع في الحدقتين، متلألئةً كجبينٍ أنداه العار، يفضحها الصمت الذي يترجمها بكلّ اللغات. جسدُ الغريب يترجم حيراتِ القلق والارتباك إلى عَرق- التعرُّق أحياناً بكاءُ الجسد الأخرس أو استحمامُ المُهان بماءِ الإهانات، لا تفصده من المسامّ شهقاتُ الحبّ أو الكدح باليدين، بل العيون بأحداقها المتوهّجة كالجمر تحت مروحة الشواء؛ كلُّ نظرة شعاعٌ نفّاذ يخرق موشورَ الجسد فيتحلّل نورُ العالم إلى قطراتٍ من الخوف وروائحَ كروائحِ الفرائس.
بريق النظرة، متفاوت الدرجات والأشكال، يشي بديانة الغريب وبلاده وقارّته من دون حاجةٍ إلى كلمات، وإذا استطاع نطق اسمه امّحى بدلاً من الظهور، مثلما يتلاشى حيوان السكوونك المستوحِد، ذائباً في دمعه الحارّ المذروف فجراً، عند مباغتته أثناء انزوائه ليبكي وحده في غابات الشتاء، لأن الصيادين يعرفون كيف يقتفون دربَ دموعه المتجمدة وراءه في صقيع الليالي، لامعةً تحت ضوء القمر.
***
-من أين تأتي الرَّيْبُ، من أين تأتي الرِّيَب؟-
إنّ الغريبَ له مخافةُ سارق وخضوعُ مديونٍ وذلّة موثَقِ
-الإمام الشافعي-
من أين تأتي أخطائي وظنوني؟ كنتُ أحسب إيفا لونغوريا ممثلة إسبانية فارقتْ هذا العالم، محجوبةً بالعباءات السود لحقبة فرانكو، ثم رأيتُها وقد بُعثتْ سفيرةً لمستحضرات لوريال، في دعايةٍ منصوبة بالتوازي مع بقايا جدار برلين في ساحة بوتسدام، سيدةً سمراء قصيرةَ القامة، شعرها كستنائيّ كريشِ عصفور الدُّوريّ الذي ظلّ يتنقّل، ذاك الصباح المشمس، في زمهرير شباط، متقافزاً بين كراسي المقاهي وطاولاتها الخالية، مرفرفاً بجمال ضآلته في ظلال البنايات حيث تراكمت بقايا ثلج ضاربة إلى الزرقة خلتُها للوهلة الأولى رملاً أو رماداً. كنتُ أتجوّل كمَن أوكلتْ إليه روحُهُ جبايةَ الابتسامات من الغرباء، أو بالأحرى كمَن يستعطي عطفَ هذا من المارّة أو يستمهل قصاصَ ذاك أو يستجدي لطفَ تلك، من دون تبادل أي كلام.
في ساحة بوتسدام، بغتة، من دون أي سبب صريح، اختلّت خُطاي وخرستُ قبل الدخول إلى صالة السينما لأشاهد فيلماً عن إبادة الشيوعيين في إندونيسيا أثناء حكم سوهارتو، وتوهّمتُ مَن ستوبّخني لأنني انتهكتُ قدسية الأرتال أو توقفتُ في اللحظة الخطأ أو الموضع الخطأ، أو سهوتُ عن قول "من فضلك"، أو ساهماً مسستُ بكوعي خاصرةَ أحد المتجمهرين ولم أسارع إلى الاعتذار بأحرّ الكلمات، ولن يرحمني أحدٌ إذا أخطأتُ مهما تفه خطأي، فلسانيَ كليلٌ وقوليَ مكذوبٌ ولا ناصرَ لي، وبالتأكيد ثمة مَن سيعنّفني لأنني تباطأتُ فأعَقْتُ، أو استعجلتُ فانتهكتُ ما لستُ أدري، ولن أجد التوازن أبداً، وتضاءل جسدي، الحنطيّ في سمرته مثل حوّاء لونغوريا الملتفتة إلى جمهور العابرين بإغواءٍ يثير شيئاً من الاشمئزاز، ذاوياً أمام عافية جسدٍ أشقر مرَّ أمامي ولم يرمقني، شابٌ لا أعرفه بالطبع ولا يعرفني، تخيلتُ عضلاته منذ طفولته مضخوخاً فيها حليب الدانمرك والفواكه الاستوائية ودَعة النوم، وتشوّهتْ عظامي وتقوّستْ ساقاي وتهدّل كتفاي أمام هيكله الضخم المُقاس جيداً بمسطرة الربّ، وعلى مقربةٍ منّي نبّهتْ أمٌّ شقراء زرقاء العينين طفلها الأشقر أزرقَ العينين معتمر الخوذة راكب دراجته ليتريّث وينتظر، وكانت نبرتها آمرة هادئة، نبرة واضحة كالقوانين وخفيضة قاطعة كزوايا الشوارع الفسيحة المستقيمة التي قصّتْ جسدَ برلين الممزَّق بعد الحرب، ولبثتُ أنا مسمَّراً، لا أقوى على النظر في عين أحد، مفكراً كيف ستتغير ابتسامةُ عينيها إن سمعتني أتحدث بالعربية أو ألفظ اسم "سوريا" على الهاتف، وطالت إطراقتي، متوهماً نظراتٍ تنهالُ عليّ وتسجنني في جلدي وتعثّرني أو تحجّرني، تعرّيني أو تنهش اتزّاني، تتفحّصني على عجل وتقيّمني من حلكة ملابسي وطرازها وتحكم عليّ بالفقر، فالعيون تستريب وتستخفّ وتحْذَر أو لا ترى إطلاقاً (لكلِّ عين فمٌ، وإذا شاءت فبمستطاعها أن تغتصبَ وتشتم، بنظراتٍ لامعة كالنصل أو البصقة)، وتشعرني بوسخٍ لم ألحظه يحزّز ثنايا الركبتين أو المرفقين أو يسوّد ياقة القميص، وتجرّدني من الأبعاد لأغدو مسطَّحاً كصورةٍ ستمزّقها رياح شباط المشؤومة أمام أعينٍ لا ترأف ولا تأبه، في ساحة بوتسدام، على الحدّ الفاصل بين الشرق والغرب في ماضي برلين الذي لم ينصرم، ظللتُ واقفاً لا أحرّك ساكناً مثل حيوانٍ محاصر قبيل انقضاض الضواري عليه وافتراسه، أراقب العالم من حولي بزاوية عيني، ولكن تعيّن عليّ أن أزحزحَ جسدي في تلك الحيرة حين يتواجه جسدان يمشيان في اتجاهين متعاكسين، فتنحّيتُ أنا كمَن يقدّم تنازلاً، مبتسماً، لأن جاهل اللغة، وهذه قاعدةٌ لا يختلف عليها اثنان، مكثر الابتسام ومسرفٌ في هزّ الرأس، مسرفٌ في التلويح بيديه اللتين تتجمّد رفرفاتهما حين تحطّ عليهما عينٌ تَستغرب أو عدسةُ كاميرا لا تكفُّ كالموت عن تسجيلِ الحياة، واستدرتُ عن الكوّة محاطاً بدببة مهرجان السينما، ولم أقطع تذكرة لحضور "نظرة الصمت" مرة ثانية، وبدأتُ المشي على مهل، مبرَّحاً ببقايا إذلال لم أستطع تحديد مصدره، كأن مجهولاً أهانني وتوارى في الزحام قبل أن يمنحني القدَر فرصة للردّ، أو كأن عضواً من حركة بيغيدا (لا بد من وجوده وسط كل هؤلاء المارّة المجهولين الذين يهدّدون، بغتةً، مجهولاً آخر هو أنا يهددهم بدوره)، سيرى في وجهي خلاصةَ الأجانب الغزاة الجدد وزبدةَ الفوضى، المشكلةَ الوحيدة المتبقّية أمام المؤمنين بديانة العلم الذي يُرى وكأنه قد حلَّ حقاً لغزَ الكون، وسوف يُشفي السرطان لترغدَ شيخوختهم أكثر وتطول أعمارهم، ضِعفَ أعمار الأمّيين المقصوفة في أصقاعٍ ودياناتٍ أخرى، أو سينبري غاضبٌ في هذه اللحظة ليؤدّبني على الملأ، أو ربما سيؤجّل تسلُّله من الخلف ليدسّ في قبعة معطفي تفاحةً عفنة أو يرشّ فراءَها ببضع قطراتٍ من دمِ خنزير أو يشدّ شعري الطويل أو يصفعني على مؤخرة عنقي، محاذراً ملامستي من دون قفّازات، فالملامسة ستفتح باباً لا يُسْتأمن إلى الذعر، لتجلجلَ صيحةٌ ستهشّم ما بدا لي كؤوسَ كريستال على موائد المطاعم المجاورة الهادئة، وأنا متمادٍ في أوهامي كالمُساقِ مكبَّلاً إلى حتفه، أو سأسمعه، نصير بيغيدا، مستغرباً مثلي ردَّ فعلي شديد البطء، صارخاً في أذنيّ بأن الحكومة ستمنع عما قريب المجاورةَ بين الربع الخالي والغابة السوداء، ستمنع الاختلاط بين الرمل والثلج، ولن يأتي يومٌ يطغى فيه شَبَهُ الأهلّة على ذهَبِ الصُّلبان.
واصلتُ صمتي لأتحكّم بخوفي وأهذّب عنفي الخفيَّ الغامض فلا تترجمه يداي أو قدماي أو لساني، ولا أقترف شيئاً ضد نفسي أولاً، حتى سالتْ مشاعري من جبيني وإبطيّ وتبخّرتْ من مسامي الساخنة كفوّهات براكين، وانقلبت نقمتي على نفسي إلى أسَفٍ شحَبَ معه وجهي، فكرهتُ على الفور، رغم أنني كنتُ وحدي ولا أكاد أعرف أحداً هنا ولا أحد يعرفني، كرهتُ أن يُفسَّر حزني بمصائب بلادي، إذ لا بد من نبأ رهيب ليبرّر وجومي وصمتي المباغتين، فجلدي ينوب عن قارةٍ أو أكثر، وملامحي تنوبُ عن شعوبٍ بأكملها تلتبس فروقاتها على العابرين في ساحات برلين، ولوهلةٍ ظننتُهم يحسبونني إيرانياً أو أفغانياً تعبقُ جيوبه بطراوة الحشيش، أو آتياً من سردينيا ببشرتي الملوَّحة التي لن يقارن أحدٌ وسخها بالكولا المغشوشة أو الشاي الثقيل أو الزبدة المائعة أو الوحل أو الشوكولاته الفاسدة وأشياء أخرى، أو لن تذكّرهم دُكنتها بالمشنوقين والغرقى وبهوت المخنوقين بغاز الكلور، وهذا يكفي، قلتُ لائماً نفسي على وضاعةِ ما يراودني ولا حيلةَ لي أمامه، هذا يكفي للارتقاء إلى مصافّ الشقر الذين تمسكُ أيديهم بزمامِ الأسواق ومفاتيحِ التاريخ والحضارة، أو ربما هذا كفيلٌ بالحجْر عليّ في الما بين، واحداً من ملايين المهجَّنين، فتفقّدتُ بشرتي الخلاسية في واجهة المول الضخم، غامقة كبشرة الرجال السُّمر الذين تتغنّى بهم أغنيات الفرات وتناسبُ حيرتي، وتأكّد لي إن الآخرين يستشفون هذه الحيرة، في المخبز أو المقهى أو الصيدلية، فتحيّرهم وتشحذُ الريبة في أحداقهم ويشتبهون بتلعثمي ويحتقرونني لحدسهم بتزعزع ثقتي وباحتقاري المحتمل لنفسي، ولكنهم لا يستشفّون من لُكنتي بلداً معيناً ينسبونني إليه، ثم فكرتُ بأنهم قد يحسبونني يهودياً وتخيّلتُني أقدِم على انتحال صفة اليهودي واستغلالها، تحديداً هنا في ألمانيا، في حين إني ما بارحتُ حالتي إياها، راغباً عن التحديق بأي إنسان، وكارهاً ملاقاةَ العين للعين، خوفي رسالة ونذير، أو دعوة إلى العطف لتتقدّم صوبي سيدةٌ متقاعدة وتمسح بمنديلٍ جبيني وتطمئنني وتردّني إلى جادّة الأمل والتسامح، لأن العين بما في القلب تنضح، فبسبب تصوراتي تلك، سوف تراني محروماً من النضوج فتراعيني كأنني طفل ذاهل أو يتيم ضائع على أرصفة هذا العالم، بينما كنتُ محاصَراً بعابرين لن أصادفهم ثانية أجتازُ معركة خرساء لا دماء تُراق فيها، وعليّ التناسي والتحلّي بالهدوء، وإن ادّعيتُ رباطة الجأش وكأنني مجازفٌ بالتحدّي لمنازلة خصومٍ مجهولين في لعبةٍ لا أعرف قواعدها، لأن الجميع عنيفون تلجمهم القوانين ويكتمون غضباً مُبهَم الأسباب، وما أكثر المثخنين بالجراح في هذا الصمت، في قسمة البؤس الكبرى، وأنا مثلهم في خطَر، أبادلهم الخوف بالخوف، مهووسين جميعاً بالتصنيف وتحديد المراتب ومَقْتِ الانصياع، أرواحاً جريحة تلوح أمام أبراج الفولاذ والزجاج السميك، تزحف أو تقفز على أدراج المترو وتكمدُ في شُقرةِ مقطوراته، فتوهّمتُ العيون مرة أخرى تتبادل التهديد، فيجهِز عليّ أحدُهم بعينيه وأُفنيه بعينِ قلبي، حتى أرهقني خوفي وسئمته وسئمتُ نفسي، فكففتُ عن ملاحقة ما تهذي به روحي، ولكني في اللحظة ذاتها ما عدتُ أجرؤ على أن أستوقف أحداً من المارة مستفسراً عن عنوانٍ ضيّعته، مخافة أن يكمل طريقه وكأنه لم يسمعني، أو مخافة اتهامي بأنني أنا الزنخ مَن رمى منديل مخاطه أسفل الحاوية أو فوق جذور البتولا، فارتطمتُ بنتوء في الإسفلت وتكثّفتْ حماقتي في عثرةٍ كادت تطرحني أرضاً، ولم أستطع أن أرفع يدي لأستوقف سيارة تاكسي لأن سائقها سيتفحّصني كذلك وقد لا يستوقفه أمثالي، حتى لو غلى الدمُ وتوسَّمني كرديّاً مثله، وبغضتُ الدخول إلى مطعم إيطالي سيأتيني نادلهُ الأبيض ذو المئزر الأسود بحساء البصل في زمهرير شباط، بعد تلكؤ وعلى مضض، لأنني أنا مَن تتوجّب عليه الإطاعة وتأدية دور الخادم، هذا إذا لم يساوره في غطرسته احتمالُ أنني سأتحرّش بالنادلة فقد لفتت نظري زهرةُ الوشم في رقبتها البيضاء الطويلة، ولن يردّ على تحيّتي عند دخولي أو انصرافي، فسلكتُ شارعاً عريضاً نسيتُ اسمه، وأمعائي تقرقر جوعاً، مرقّقاً قسماتي باصطناع دماثةٍ لم تكن إلا قناعَ خوف، ولا تشبه أبداً اللطافةَ الودودة التي تهبها الفظاعاتُ إلى بعض ضحاياها، بعدما استرابتْ بي عينا رجلٍ يركن سيارته في زقاق شبه خالٍ كأنني أخطّط لسرقتها أثناء توقّفي لأستطلعَ هاتفي من دون أيّ داعٍ، متأفّفاً متظاهراً بأنني أنتظر شخصاً تأخّر وصوله، ثم فكرتُ بمجاراة أولئك المارة المجهولين الذين قسوتُ وجنيتُ عليهم، لأحاكيهم في الحياد واللامبالاة والموضوعية، ولا أنشغل بهم وبما أتوهّمه من فظاظة وغرور محبِطين، وسرعان ما تعثّرتُ بالشعرة الفاصلة بين الكبرياء والوقاحة لأقع في بلبلةٍ أخرى ممتعضاً مِن كل مَن يتباهى، والتباهي بغيضٌ وحكرٌ على الذين أخالهم أقوياء ويزدرونني، ولم أطق اعتدادي الخاطف بنفسي، وقلتُ في سرّي لن أحيد عن هذا الشارع العريض، مهما جرى، حتى أشمَّ الزيزفون الذي سمعتُ عنه في برلين وكنتُ أستدلّ به إلى الموتى في مدن أخرى، متحاشياً النظرَ إلى الواقفين على الطرف الآخر من الإشارة المرورية منتظرين اخضرارَ الضوء، مكتفياً بهواء الفراغات بين رؤوسهم وأكتافهم أو بالشرفات الخالية والنوافذ المظلمة، وإذا لاح وجهٌ أشحتُ بوجهي على الفور، ملتزماً بالعهد الذي قطعتهُ على نفسي، مقسِماً بقبرِ صديقي إنني لن أنكثه، لأحملقَ بالجمادات فحسب، كتمثالٍ حيّ فارغِ العينين يمشي على رِسله محدّقاً بأسيجةِ الأرصفة والمقاعد التي كسا الطحلب بعضَ أخشابها، وكالمطرود من مَرقصٍ مُريعٍ فخم لم أفلحْ في ضبط لهاثي وتصريفه على دفعات، ما عدتُ أجرؤ على طلب أي شيء من أي أحد، مهما كان بسيطاً، وبقيتُ في الوقت إيّاه عرضةً لعيون المتفرّجين، تاركاً رحمةَ نظرتي تسرح بكلّ ما ليس آدمياً، ذات النظرة التي تسبق الانهيار، كأنني سأخرّ على ركبتيّ في أية لحظة لأتوسّل الصفح من عمود الإنارة والأشجار العارية والحجارة والغربان، وأنا ألمح بزاوية عيني شرطياً بديناً طرّيتُ نظرتي التائهة حين حاذيتهُ، وتخيلتهُ يطلق النار على شابّ يشبهني في تلك الشمس الوادعة، وألمحُ البرجوازياتِ الأنيقات وأطواقَ الخرز الفيروزي في نحورِهنّ المبرقشة بالنمش، الكهلات النظيفات بألوان ثيابهن وحقائب الجلد الليّن الفاخرة، وشاباتٍ بحقائب ماركة سويدية شعارُها يشبه ثعلباً ولا أستطيع لفظ اسمها، مفكراً إن إحساسي بالوسخ ليس آتياً من القذارة الملموسة، وإنما هذه هي طبقات الخوف المترسّبة فوق حياتي، بعد تغلغله في كل شيء، في كل زاوية، في الهباء الطافي داخل هذا الضياء الصافي، في القهقهات خلفي، بينما أنا عاجزٌ عن الالتفات، عاجز حتى عن قول "المعذرة" أو "شكراً" إلا بجفافٍ أو بخفوت فيُستغرب همسي أو يُستهجَن، وكأنني سأقضي نحبي الآن، أو قد سمعتُ للتو بوفاة صديق.
ومع ذلك كلّه لم يلحقْ بجسدي أذى، لم أنَلْ ركلة أو لكمةً من أحد، ولم يهشّم سكران على قحف رأسي قنينةَ بيرة. كانت قسوةً قصوى خيبتي بتدهور الأشياء إلى ما كانت عليه، منذ هنيهة، أو ساعة، أو ما لا أدري من الوقت. سرتُ على الجادّة الطويلة، حتى اجتزتُ بوابة براندنبورغ، طيفاً عابراً تحت عربة النصر التي أصدأ الزمنُ والمطرُ برونزَ أجنحتها وأحصنتها، بمحاذاة سياراتِ مرسيدس تقودها أشباح وسياراتِ فولكسفاغن تقودها كوابيس، متمهّلاً أعود إلى الحياة كمَن دُفن حياً ثم نجّته أعجوبةٌ اجتازتْ به بوّابةَ العاج لتعيدَه من العالم السفلي وتغمره ببهاء الشمس.
***
-مَن يُرَ يمُتْ. مَن يرَ يعمَ -
حلمتُ بالبازيليسك: مخلوق عقيم، نصفه ديكٌ ونصفٌ ثعبان. فقستْ عنه بيضةُ الديك بنابي ثعبان حاول التهامها. نظرته الزعاف فتّاكة تفتّت كلَّ ما تقع عليه إلى رمل، ومُهْلِكتُهُ المرآة.
لا تفارقني الصحراء لأن عينيّ مساهمتان في خلقها. إذ مثلما الكلمات بنات الشفاه والنجوم بنات الليل والدموع بنات الأفكار وبعض الطيور بناتُ الماء، فهذه الصحراء التي تصاحب سكوتي وتواسيني وتأويني في ترحالي، هذه الصحراء بنتُ العيون، كل حبة رمل كانت شيئاً آخر حياً قبل أن تُميته نظرتي أو نظرات الآخرين. أوشكتُ أسجّل كل لحظة عصيبة من تلك الهنيهة التي استطالت في شوارع برلين، محاولاً ألا تفلت شاردةٌ من قلب ذلك السكوت، ولكنني دائماً أنسى شيئاً مهمّاً ينعقد على وجوده كلُّ مسعاي وجدوى أيامي، ويتعيّن عليّ البدء من جديد مرة أخرى، عليّ الانطلاق من الصمت والنسيان.
[قُرئت هذه الورقة ضمن ملتقى "كتابة (في) المنفى" الذي انعقد في برلين يومي 10 و11 تموز، ونظّمته مؤسسة آفاق-الصندوق العربي للثقافة والفنون، بالتعاون مع EUME ومؤسسة هينرِش بُول].