على أثر تفجير كنيستي المرقسية في الإسكندرية وطنطا وتبني ولاية سيناء لهما في أبريل 2017، تصاعدت الاتهامات حول مسؤولية الأزهر عن هذه الأحداث، بدرجة أو بأخرى، نظرا لانتشار الأفكار المتطرفة التي تتبناها التيارات الجهادية، والإدعاء باستنادها لنفس التراث الفقهي والعقائدي للأزهر فيما يتعلق بالعلاقة مع المجتمع وغير المسلمين من المسيحيين، والذي انتهي باستقطاب أفراد وجماعات للعنف والقتال ضد المجتمع والمختلف. ومن ثم نكوص الأزهر عن القيام بمسؤوليته التاريخية والمجتمعية نحو تجديد الخطاب الديني في سبيل تحقيق السلام المجتمعي وإجهاض أي احتقان محتمل بين المسلمين والأقباط في إطار الحاضنة المصرية المجتمعية.
تمثل قضية تجديد الخطاب الديني وجها لصراع أوسع بين الدولة والأزهر حول علاقة الدين بالدولة، ودور الدين والمؤسسات الدينية في أجندة الحكم في مصر حاليا. وهو الصراع الذي يُمكن فهمه لحد كبير في إطار محددات الوطنية والشعبوية المتصاعدة بما يتطلبانه من أدوار تمتد للمؤسسة الدينية. وبالرغم من كون الحملة الإعلامية والنظامية المثارة لتجديد الخطاب الديني مؤخرا، هي ذروة المد الشعبوي تجاه الأزهر بشكل غير مسبوق، إلا أنه ليس منفصلاً عن المفردات والمحددات الوطنية التي ظهرت في أعقاب يناير 2011 بما قدمته من أدوار ومساحات نفوذ للأزهر، لتعود للانقضاض عليه فيما تلا 2013 على أثر صعود الحس الوطني الشعبوي بتناقضاته وتفسخه.
مقدمة: الاستدعاء الوطني للأزهر بعد 2011
مثلت الثورة بعثا جديدا للأزهر كمؤسسة بالرغم من موقفه المتأرجح تجاه ثورة يناير 2011، على النحو الذي انعكس في انفتاحه على المجتمع والفاعلين والتيارات السياسية. وهو الانفتاح المؤسسي الذي كان مدفوعا بإدراك الأزهر لحالة الجماهيرية والترحيب السياسي والمجتمعي والخارجي لـ"يناير"، وتأكُده من مضي البلاد والمسار السياسي إلى تغيير حتمي في القواعد والعلاقات. وتخوف الأزهر من صعود قوى الإسلام السياسي وهيمنتها، بما يستدعي أن يكون للمؤسسة حضورا بشكل أو بآخر في الساحة السياسية.
كان التقديم الوطني التاريخي مدخلا أساسيا لولوج الأزهر في العملية السياسية، ومنطلقا للترحيب السياسي والمجتمعي بحضوره والترويج له كأحد مكونات وضمانات الهوية الوطنية المصرية. انعكس هذا الحضور والانفتاح في الحوارات واللقاءات المستمرة التي عقدتها المؤسسة مع مختلف الفاعلين السياسيين والمجتمعيين، والتي أنتهت لإنتاج عدد من الوثائق المعبرة عن هذا الطرح، كان أبرزها وثيقة مستقبل مصر، ووثيقة الحقوق والحريات. والتي كانت محل رعاية من الأزهر لإحداث قدر من التوافق الوطني الجماعي حولها، وهي الوثائق التي تفاوت استقبالها بين التأييد وبين عدم الرضا الكامل عنها من جانب قوى الإسلام السياسي. أبدت القوى السياسية والمجتمعية غير الإسلامية احتفاء وترحيبا واسعا بدور الأزهر في إنتاج هذه الوثائق وخاصة وثيقة مستقبل مصر، والتي بدت مكسبا لهذه القوى بمضمونها وسياقها، وهو الترحيب الذي كان مدفوعا بالتخوف من أطروحة الإسلاميين حول قضايا الحريات وتطبيق الشريعة، والمرأة والأقباط،1 والتي رأته القوى غير الإسلامية كثوابت ومكاسب للوطنية المصرية التاريخية من الواجب حفظها ضد العبث والتغيير من جانب الإسلام السياسي.
تعززت حالة الاحتفاء والترحيب بدور الأزهر ووثائقه تلك في ضوء حالة الجماهيرية غير المسبوقة المجتمعة على حدث "يناير 2011" باعتباره محفزا مركزيا لإحياء وعي الجماعة "المصرية" بذاتها وتكاملها المجتمعي والمؤسساتي -خاصة المؤسسة العسكرية والأزهر- بعد سنوات من الاغتراب. وهو الحس الوطني الجماعاتي الذي تُرجم في رواج وجاذبية دعاوى التوافق والإجماع حينها والتي كان يُنظر لها كحالة سياسية مثالية وحيدة للحفاظ على تماسك المجتمع ووحدة الدولة، على نحو لم تتمكن قوى الإسلام السياسي من رفضه صراحة حينها أو تجاوزه، بالرغم من إدراكها أن تلك الوثائق تستهدف تلجيمها، لذلك جاءت الإشادة الحذرة بوثيقة مستقبل مصر من جانب قيادات جماعة الإخوان المسلمين مع التأكيد على كونها استرشادية وليست ملزمة للجمعية التأسيسية للدستور،"حيث لا يُمكن فرض تصور فصيل ما على إرادة الشعب".2
كان تطلع تلك الأطراف حينها للأزهر، بما فيها أطراف وشخصيات محسوبة على الدولة ونظام مبارك باعتباره طرفا مكافئا ذا ثقل، بما له من رمزية ومكانة روحية ودينية، يُمكنه كبح قوى الإسلام السياسي الصاعدة ونزع الشرعية عنها وعن طموحها بإرساء دولة دينية خاصة مع كبوة الدولة وأجهزتها وتراجعها عن مهام ضبطهم، حيث مثل دور الأزهر وقبول تلك القوى به فيما أعقب 2011 في أحد جوانبه تأكيدا وإبرازا للمكون الديني في الهوية الوطنية والمجتمعية المصريين المستقريين، على عكس ما كانت توصمهما به دائما قوى الإسلام السياسي من علمنة، تستدعي التدخل لأسلمتها.
وهو المكون الديني الهوياتي الذي توافقت عليه تلك القوى الغير إسلامية والأزهر، وحتى على مضض قوى الإسلام السياسي، وقد أدى هذا التلاقي للتأكيد على موقع الأزهر كمؤسسة جامعة للمصريين بتعدد إنتماءاتهم، نظرا لدوره الريادي في التاريخ والحركة الوطنية المصريين، وبكونه أحد مصادر القيم المصرية المستقرة، وهو ذاته صاحب الاختصاص الأصيل في التصدر للشأن الديني الإسلامي، كما بدى في توافق القوى السياسية والتيارات الفكرية والثقافية المشاركة في "وثيقة مستقبل مصر"،3 والتي شارك في صياغتها وما تلاها من وثائق كذلك عدد من المثقفين التنويرين والشخصيات المحسوبة على نظام مبارك ذاته.
تعزز هذا الطرح بأنماط الأدوار التي لعبها الأزهر في الساحة السياسية والتي عكسته كراع ووسيط وطني وجامع لشمل كافة التيارات استنادا لمكانته الروحية والرمزية والتاريخية- بغض النظر عن محدودية وجدوى ذلك الدور ومدى الالتزام بما أسفر عنه في تلك الحالات من جانب مختلف الأطراف-من شأنه كفالة قدر أدنى من التوافق والوساطة بين الأطراف السياسية المختلفة بما فيها التيار الإسلامي لكبح جماحه كما في حالة الوثائق المختلفة، إلى جانب قيادته لعدد من أدوار التهدئة في لحظات تأزم السياق السياسي في مصر بعد 2011، وهنا نأتي على ذكر وثيقة العنف والتي توافق عليها عدد كبير من القوى السياسية والمجتمعية بما فيها ممثلي الطوائف المسيحية الثلاث في مصر،4 والتي أتت على خلفية احتدام الاستقطاب بين قوى الإسلام السياسي وما عداها من قوى سياسية والذي برهنت عليه أحداث الاتحادية واشتباكاتها، والتي تضمنت مشاهد عنف وفوضي جماهيرية غير مسبوقة. وقد تعضد هذا الدور والصورة للأزهر في حيز الجماعة الوطنية المصرية المهددة بالاختطاف على أثر واقع التوتر بين الإخوان المسلمين في ذلك الوقت والأزهر، ومحاولات الجماعة لتجاوز المؤسسة وشيخها.5
كان للرهان على مثل هذا الدور للأزهر، وغلبة النظر لـ "يناير 2011" باعتبارها مناسبة للصحوة الوطنية لاستعادة ريادة الدولة والمجتمع المصريين بفتراتهما الذهبية السابقة، دورا كبيرا في تراجع طرح أسئلة معمقة كلية، طويلة الأمد حول موقع الدين والمؤسسات الدينية، وكذلك في تواري المآخذ حول القضايا سالفة الذكر بين القوى غير الإسلامية، حيث لم تبد أن هناك إشكاليات جذرية حول الوضع القائم تتجاوز اعتبارات الكفاءة والمهنية. وبالتالي كان الهدف هو تثبيت الوضع القائم بتجلياته الاجتماعية والسياسية والقانونية ومن ثم فإن طرح الأسئلة حول الدين والدولة والهوية انطلق بشكل أساسي من أرضية تهديد الإسلام السياسي، وكيفية تحييده، وسحب الشرعية عن أطروحته، ووقف مده على نمط وثيقة مستقبل مصر، وليس في إطار خلق جديد للمجتمع والدولة في مصر.
أفاد هذا الطرح وتصوراته والمخاوف التي حملتها الدولة ومختلف القوى السياسية الأزهر لحد كبير، كما بدى في المكاسب التي حصدها الأزهر في ذلك الوقت بتوافق عدد كبير من هذه القوى، أو بحد أدني من الاعتراض، وبقبول من السلطات السياسية المختلفة بما فيها المجلس العسكري، كما بدى في بعث هيئة كبار العلماء بسلطاتها الدينية، من خلال إصدار تعديلات لقانون الأزهر لعام 1961 الذي أتي قُبيل الانعقاد الأول لمجلس الشعب ذي الأغلبية الإخوانية بأيام قليلة والذي هدف لترتيب وضع الأزهر الداخلي وتحصينه بإعطاء الهيئة صلاحية اختيار شيخ الأزهر بدلا من رئيس الجمهورية.6 وكذلك ترسيم المكاسب الدستورية للأزهر بموافقة السلطات المتعاقبة الأخرى (الإخوان المسلمين، والسيسي) في دستوري 2012 و 2014، إلى جانب مساحات الحركة والنفوذ التي تمكن الأزهر من كسبهما على الصعيد الإقليمي والدولي بفعل وضع الحرية والانفتاح بعد 2011.
امتد هذا التصور الجماعاتي الوطني وتواجد الأزهر ضمن مكوناته الأصلية في مشهد 3 يوليو 2013، حيث لم يكن الهدف من استدعاءه، هو ومؤسسة الكنيسة، إضفاء الشرعية الدينية على هذا التحرك -والذي استمد شرعيته من عوامل أخرى منها اعتبارات القوة والحفاظ على الدولة- بقدر ما كانت أهمية حضوره في التأكيد على سمتين أساسيتين في هذا المشهد والتحرك وهما "الإجماع" وكذلك "المصرية" المتجلية في حضور مكونات المجتمع والوطنية المصرية في مقابل "الإخونة المنعزلة" المعادية والمفارقة لهذه الحالة الجماعية الوطنية. تراجع حضور الأزهر والتطلع له تدريجيا كجامع ووسيط وطني، في مقابل تقدم المؤسسة العسكرية للقيام بدور الوساطة ولاحقا الاصطفاف الوطني، وقد تُرجم هذا في محدودية الاستجابة لدعوات الحوار والتوافق الوطني من بعد 30 يونيو 2013 التي أطلقها الأزهر في ضوء إصرار الدولة والقوى غير الإسلامية والمجتمعية على المضي في حسمها ضد الإخوان المسلمين، حيث تجاوزت لحظة ما بعد 30 يونيه 2013 بشكل كامل أدوار الوساطة والتوافق التي اعتاد الأزهر لعبها في العاميين الماضيين على 2013، مع استعادة مؤسسات الدولة لرغبتها في تصدر المشهد وقيادته.
تنازع الخطاب الوطني الشعبوي والخطاب العقائدي للأزهر
كانت دعاوى تجديد الخطاب الديني دائماً حاضرة باستمرار بين القوى الدينية التقليدية من جهة وبين الدوائر الثقافية والفكرية من جهة أخرى ضمن أسئلة أكبر حول العلاقة بين الدين والحداثة، ومنظومة الحقوق والحريات. إلا أن دعاوى تجديد الخطاب الديني قد غابت بعد يناير 2011، حيث كان الحديث عن أطروحتين متقابلتين للدين، أحداهما تقدمية أصيلة يُمثلها الأزهر ويتبناها كل من المجتمع والدولة ضمنا في مقابل أطروحة رجعية متطفلة على السياق المصري المجتمعي والتي تتبناها قوى الإسلام السياسي. نحى مسار تطور السياق السياسي في مصر جانب النقاشات حول الأفكار الدينية لهذه التيارات –والتي بدى أنها ذاتها تعاني ضبابية وتشرذم كبير بين قوى هذا التيار- لصالح تنامي إشكاليات أخرى مرتبطة بالممارسة السياسية لها، ومحاولات اختراق مؤسسات الدولة واستعداء المجتمع، وتنامي العنف والاستقطاب، مع العجز عن إدارة الدولة، واقتصر النقاش في أطر ضيقة على سطحية وتناقضات أطروحات هذا التيار إجمالا وانتهازيتها في استغلال الدين لكسب شرعية جماهيرية ومعاودة الانقضاض عليها.
في الوقت الذي تراجع فيه الأزهر والأدوار التي اعتاد تأديتها، تقدمت أجهزة الدولة وفي القلب منها المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية ومؤسسة الرئاسة لتلعب الدور القيادي المُعرف لحدود الجماعة المصرية الوطنية والمُعرف للأدوار التي تستوجبها هذه "الوطنية" من كل الأطراف وعدم الاكتفاء بتقاليد ممارستهم لأدوارهم. تتسم محاولة التعريف الوطني تلك بعد 2013 بمحدودية الأفق والهشاشة والتناقض بشكل غير مسبوق، حيث تستند لتعريف للجماعة الوطنية على أثر تصدع مجتمعي داخلي غير مسبوق وليس في مواجهة "آخر" واضح ومحل اتفاق تام، من خلال استبعاد الإخوان المسلمين والإسلام السياسي إجمالا من هذه الجماعة الوطنية. وتستند كذلك لقهر دون أفق لتأسيس هذه الجماعة وتعريفها في إطار توافق/شراكة مستدام واضح بين أطراف مختلفة داخلية. تعمد محاولة التعريف تلك لإحكام عزلة المجتمع مُنتجة حالة من العداء الشيفوني للخارج، وفي الوقت الذي تُغذي فيه هذه الشيفونية بدعوى الحفاظ على الاستقلالية الوطنية، إلا أنها تتبع جملة من التحالفات الخارجية والإقليمية لترتيب الأوضاع الداخلية.
ألقت هذه المرتكزات بظلالها على الأزهر وقضية تجديد الخطاب الديني التي استهدفتها السلطة بخطاب واضح بعد 2013، حيث كان التناول لهذه القضية ضمن المجهودات الأوسع لإعادة السيطرة على المجال الديني والمساجد من خلال وزارة الأوقاف لحصار الإسلام السياسي الذي تمكن من جذب قطاعات جماهيرية واسعة له كما بدى بعد 2011، وهو ما كان محل قبول من جانب الأزهر إجمالا، ووزارة الأوقاف ورضخت له قوى مثل الدعوة السلفية بالإسكندرية.7 جاءت وثيقة الأوقاف لتجديد الخطاب الديني في عام 2014 ممتثلة لخط السلطة بما تضمنته من محددات وطنية واضحة، مثل نصها على تحقيق الخطاب الديني لـ "المصلحة والقيم والأخلاق الوطنية، والحفاظ على القيم الأساسية للمجتمع وبما لا يخل بالأمن القومي، والتسامح المجتمعي، دعم تأسيس الدولة الوطنية الدستورية والولاء لها، وتخريج داعيات يُنقذنا المرأة والطفل من الجماعات الغير وطنية ومحاولات اختراقها".8
أخذ الحديث عن تجديد الخطاب الديني طورا آخرا بحضوره في خطابات وأحاديث متفرقة لرئيس الجمهورية فيما أسماه بالحاجة لـ "ثورة دينية" في إطار البعد عن الثوابت وإقصاء فقط المفاهيم الخاطئة التي تراكمت بفعل السنين أو بفعل القوى التي أرادت الدين كغطاء لأفكارها. إلا أن دعاوي تجديد الخطاب الديني تطورت لمساحات أبعد على النحو الذي كشفته الحملة الإعلامية و النظامية الأخيرة. تتفرد تلك الحملة بسياقها الذي أتى على أثر تفجير ولاية سيناء للكنيسة المرقسية بالإسكندرية وكنيسة طنطا، والذي مثلا تهديدا وجوديا مفتوحا للمسيحيين في مصر على نحو صادم. لم يكن استهداف ولاية سيناء الأول للكنائس والمسيحيين في مصر، حيث سبقهما تفجير العباسية وتهجير المسيحيين من العريش، إلا أنها المرة الأولى التي يُوجد فيها الخطاب السلطوي الشعبوي بشكل صريح رابطة بين تجديد الخطاب الديني والملف القبطي واستحقاقات السلم المجتمعي في مصر، ومسئولية الخطاب الديني عن العنف الجهادي وكذلك الطائفي، بعد ما كانت مسألة تجديد الخطاب الديني تستدعي للذهن مسائل محددة مثل مسألة تكفير داعش، والموقف من الإسلام السياسي، والحقوق والحريات العامة، أو غيرها من أطر تبدو كما لو كانت شأنا اسلاميا داخليا.
أعاد هذا الخطاب من جديد الطرح الوطني للأزهر ودوره في الملفات السياسية، إلا أن تصدير الخطاب الشعبوي لوجود دور قيادي للأزهر في إعادة إنتاج حالة السلم المجتمعي الداخلي من خلال تجديد الخطاب الديني، يُمثل عبئا كبيرا على المؤسسة.
مبعث ذلك العبء يرجع للوضعية المزدوجة للأزهر، ففي جانب هو مؤسسة عقائدية محافظة، وفي الوقت ذاته يتم الترويج له كأحد المؤسسات المسئولة عن الوطن والجماعة المصرية. يستدعي ذلك الإزدواج جملة تنازعات للمؤسسة، فمن جهة كمؤسسة دينية عقائدية محافظة تتجاوز مهمتها الدينية حدود الوطنية والسياسة، فالأزهر يُدرك جيدا دوره ومهمته وفقا لذلك المحدد، وهي التوجه بخطابه لعموم المؤمنين، وهو الخطاب الذي ينطلق فيه من ميراثه ونصوصه العقائدية والفقهية بمفرداتهما المحافظة، كما في الموقف من قضيتين أساسيتين محل إثارة حاليا هما تكفير غير المسلم، والامتناع عن تكفير داعش، وهما القضيتين التي يُعلن الأزهر إزاءهما إصراره على التمسك "بالمازورة العقائدية" في التكفير وما تتطلبه من شروط، ورفض الإملاء عليه لما يجب أن يكون.
وبالنظر للمحدد الآخر فإن المؤسسة يتم طرحها كأحد الفواعل الرئيسيين في حيز الوطنية المصرية الجامعة دولة ومجتمعا. يعني ذلك وفقا للحملة الدعائية الأخيرة أن الأزهر يجب أن يتحمل مسئولية ودورا وطنيا ما بالحفاظ على النسيج والسلام المجتمعي الواحد بمكونيه المسلم والمسيحي من خلال إنتاج خطاب يُحقق هذا الغرض الوحدوي، خاصة في مسألة تكفير غير المسلم كقضية تشهد ارتباكا وحساسية أكبر من جانب المؤسسة مقارنة بالإحجام عن تكفير داعش، وهنا تعجز المؤسسة عن القيام بمثل ذلك الدور الوطني المستحدث لها من جانب السلطة لتتنازعها منطلقاتها العقائدية التي لا يُمكنها تجاوزها.
يحمل هذا الطرح الوطني الشعبوي تجاه مهمة تجديد الخطاب الديني إشكاليات متعددة بتأويله سواء في طرحه التاريخي، أو طرحه للوضع الحالي ومستقبله. من جهة يُأول هذا الطرح الدور التاريخي للأزهر بشكل مغالط ومجرد حيث يفترض وجود لحظة مثالية ذهبية لعب فيها هذا المكون "الأزهر" دورا مستقلا بذاته على الوجه الأكمل في تاريخ الوطنية المصرية لتدعيم التلاحم بين المكونين المسلم والمسيحي، وأن إشكالية العلاقة مع الآخر مثل العلاقة مع الجماعة المسيحية، جد حديثة مرتبطة بصعود تيارات الإسلام السياسي والتي وجدت طريقها لاختراق الأزهر وصولا للمناصب القيادية فيه. يتجاهل هذا الطرح أن المسألة القبطية في مصر أزمة أصيلة في تكوين الدولة الحديثة والحركة الوطنية المصرية ومتجاوزة لتصاعد المد الوهابي وتزايد الصبغة الدينية في الحكم والمجتمع المصري منذ السبعينيات، إلى جانب تجاهله لدور منظومة الحكم والسلطة في مصر في معالجة هذا الملف، وأن مثل هذه الأدوار التاريخية التي لعبها الأزهر في إطار الجماعة الوطنية أتت في حيز تكاملي مع غيره من الفاعلين في إطار حركة مجتمعية وسياسية أكبر، وفي مواجهات مع "آخر" محل توافق وإجماع.
يسعي هذا الطرح الشعبوي لإنتاج وحدة عضوية بين الخطاب السياسي الوطني والعقائدي، وهي محاولة ليست بجديدة، حيث سعت السلطة في السبعينيات للضغط على الأزهر لإصدار حكم شرعي علمي في قضية تنظيم التكفير والهجرة في السبعينيات لتُقابل برفض منه. إلا أن جديد المد الشعبوي هو الحضور الكثيف إعلاميا واستدعاء الجماهير عبرها للضغط دون مواربة على الأزهر لتكفير الأطراف الموصوفة بأنها معادية للدولة والمجتمع المصري بشكل فوري وحاسم، كدلالة ولاء وعضوية في الجماعة المصرية وما تعانيه من أزمات تحتاج للتضامن غير المشروط من أطرافها كافة. وهي مساحة لا تكتفي بالتضامن والدعم القيمي العام، لكنها تُركز على مفردات عقائدية وفقهية وفلسفية وكلامية.
يخلط هذا الخطاب الشعبوي بين استحقاقات ملفات سياسية مختلفة مثل العنف الجهادي والملف القبطي والعنف الطائفي بشكل عمدي. يطرح هذا الخطاب هذه الملفات على أرضية دينية صرفة سواء من حيث ترتيب المسئوليات أو الجوانب القيمية والرمزية لهذه الملفات، فيُشير هذا الخطاب لمسئولية النصوص التراثية كعائق أمام تحقيق السلم المجتمعي، ووقف المد الجهادي، حيث تكبل يد الدولة عن القيام بمهمتها، وهنا تقع المسئولية على الأزهر لتصفية هذه النصوص بما يلبي استحقاقات هذه الملفات تلقائيا. يحصر كذلك هذا الخطاب الأبعاد الرمزية لهذه الملفات ويُكثفها في الدلالات والرمزية الدينية ليُقصي السياسي، من خلال تحميل مسئوليتها للخطاب الديني كما في قضايا جبر قتلي التفجيرات الأخيرة من خلال تصدير تنازعه إعلاميا مع الأزهر حول توصيفهم إن كانوا "شهداء أم لا" وكذلك "تكفير داعش أم إنتماءها لجماعة المسلمين" دون أن يمتد لأبعاد رمزية وقيمية أخرى متجاوزة لهذه الصبغة الدينية، أو أية إجراءات مرتبطة بالسياسات العامة والإجرائية، ليكتفي هذا الطرح بمفرادات السلام المجتمعي والنسيج الوطني الواحد، والجماعة المصرية الواحدة، وسلمية الاجتماع التاريخي لمكوني الوطن المصري المسلم والمسيحي.
الخطاب الشعبوي والبيت الداخلي للأزهر
يُصدر الخطاب الشعبوي فيما تلى 2013 بأن مهمة الأزهر عبر تجديد الخطاب الديني هي نزع الشرعية عن أعمال جماعات العنف الإرهابية، والحيلولة دون انضمام عناصر جديدة لها، ومؤخرا انضم لها مهمة حقن العنف الطائفي. وهي المهمة التي يعمل الأزهر على إنجازها خلال الفترة الماضية بطرق متعددة بداية من تفعيل الأذرع التابعة له مثل الرابطة العالمية لخريجي الأزهر، والرد على أطروحة الجهاديين، وإعلان المؤسسة عن إرسال شيوخ لأماكن التجمعات في المقاهي للتواصل مع الأفراد والجماعات، وتعهد المؤسسة بالمضي في إصلاح المناهج الأزهرية.9 إلا أن جدية هذا الخطاب تتهاوى أمام المحددات التي تنطلق منها السلطة في الترويج لهذه المهمة والتي تُفارق الواقع.
أولى تلك المحددات هي أحادية/ مركزية المرجعية الدينية الرسمية في مصر لدى جمهور المؤمنين ممثلة في وزارة الأوقاف والأزهر. يتلاقي الأزهر مع هذا المحدد برغبته في استعادة مركزيته في الشأن الديني وزيادة فعاليته. كان هذا التصور حاضرا ومقبولا سياسيا بدرجة ما في أعقاب 2011 بالتأكيد على تصدر المؤسسة للشأن الديني وأصالة اختصاصها به،10 إلا أنه بعد مضي 6 سنوات يبدو هذا التصور مفارقا للواقع وغير ممكن ويعكس غلبة الرهانات السياسية على الأزهر حينها والتركيز على الترتيبات المؤسسية في مقابل تجاهل الواقع المجتمعي المحيط به.
تتمسك السلطة بهذا التصور الذي يتراجع فيه المجتمعي بالنظر لرغبتها في امتلاك فاعل أوحد يُمكن إخضاعه وفقا لسرديتها الكبرى عن استعادة الهيمنة على المؤسسات وإعادة ضبط إيقاعها لصالح أجندة الحكم في مصر بدلا من "الرضوخ" لفاعلين مجتمعيين متعددين بلا ولاء وطني، هم بالأساس في المجال الديني من تنويعات الإسلام السياسي. يستبطن هذ التصور سمات عصبوية بتأكيده على مسئولية الأزهر عن جماعة المسلمين كافة وتنظيم ما يرتبط بشأنهم الديني وإرشادهم، وكذلك التقصير إزاء مهمة الإرشاد والتي انتهت لوجود مجموعات تنتهج التطرف والعنف.
يصطدم هذا التصور بواقع تعدد مشارب استقاء المؤمنين المصريين للمعرفة الدينية، والتي يتراجع ترتيب الأزهر بينها كقناة لتصدير التعاليم والقواعد الدينية الشرعية لهم، حيث تتنامي اعتبارات أخرى هي الأكثر تأثيرا في صياغة الفهم الديني خاصة لدى الأجيال الجديدة من الشباب-وقود التيارات الجهادية الراديكالية الحالية- مثل الذاتية والفردية في التحصيل والتكوين الفقهي والشرعي دون إرشاد مرجعي.
تعدد مصادر المعرفة الدينية مكن تيارات دينية مغايرة للأزهر من التوغل مجتمعيا لعقود سابقة وإقامة قنوات تواصل مباشرة مع المؤمنين وبناء رأسمال اجتماعي معهم، وصياغة فهمهم للدين والشعائر. في الوقت الذي تغيب فيه قنوات تواصل مباشرة بين الأزهر وعموم المؤمنين، حيث تخضع المساجد كقناة تواصل رئيسية مع المؤمنين لسيطرة وزارة الأوقاف وهي ذراع إداري بيروقراطي مستقل بذاته يتقاسم إدارة المجال الديني مع الأزهر، في حين يغلب على سلطة الأخير الطابع الرمزي والروحي، والذي يتم استدعاءه أو يشتبك بدوافع ذاتية منه مع القضايا الكبرى والمركزية والرقابة الثقافية.
تتعزز هذه العزلة ليقتصر حضور الأزهر مجتمعيا على مجموعات تتسم في غالبيتها بالانتماء العضوي له بتدرجاتها الجيلية والعائلية الضيقة بالأساس، دون أن يكون للمؤسسة أدوارا اجتماعية تمكنها من اكتساب الشرعية في أوساط قواعد اجتماعية عريضة. تنعكس هذه العزلة على ضعف خطاب المؤسسة في التوجه للمجتمع في ملفات العلاقة مع الآخر، أو حتى في تدعيم شرعية السلطة، حيث يُدرك المواطنين واقع السلطة وتوزانات القوة لها على حقيقتها ويخضعون لها في ضوء معادلة أخرى لا تستند للشرعية الدينية في المجمل.
أثار الخطاب الشعبوي كذلك محدد التجانس الداخلي داخل المؤسسة، خاصة فيما يتعلق بالمعاهد الأزهرية، ومشيخة الأزهر، وهيئة كبار العلماء. تجري مطالبة شيخ الأزهر باتخاذ موقف في شأنها جميعا لإتمام المهام المطلوبة من المؤسسة على الوجه الأكمل بما فيها قضية تجديد الخطاب الديني، كما ترتأيها السلطة.
أُثيرت مسألة الانضباط الداخلي للمؤسسة بعد 2013 في إطار هذا المد الشعبوي عند التطرق لدوائر المؤسسة العليا مثل هيئة كبار العلماء، والتي واجهت اتهامات واضحة بكونها أحد مُيعقات عملية تجديد الخطاب الديني بعضويتها، حيث تتضمن أعضاء يمتلكون مواقفا رافضة للسلطة في مصر بعد 30 يونيو والتي وصفوها في أوقات سابقة كـ "إنقلاب" وهاجموا اعتداءاتها الدموية في يوليو وأغسطس 2013، والتي وٌصموا على أثرها بالتبعية للإخوان المسلمين التي هي بالتعريف وفقا لذلك المد "خارجة على الجماعة المصرية"، وفي مقدمتهم شخص محمد عمارة وحسن الشافعي، وكذلك يوسف القرضاوي المعروف بتوجهاته الإخوانية وقد تم إسقاط عضويته من الهيئة على أثر خلافه مع الهيئة حول الأحداث في مصر بعد 30 يونيو.11 يتجاهل هذا الطرح وهجومه على شيخ الأزهر واقع أن تشكيل الهيئة منذ 2012 مبدأً وعضويةً بما فيها الشخصيات محل الهجوم قد حازت موافقة وإقرار السلطة السياسية حينها ممثلة في المجلس العسكري ومجلس الوزراء، وهي الحملات التي لم تُشر بشكل صريح لطلب عزل هذه العناصر، لكنها كانت أحد أدوات ضغط السلطة على المؤسسة وشيخها.
لم تنج مشيخة الأزهر ذاتها من انتقادات هذا الخطاب الشعبوي، حيث تعرضت الحملة لجملة المستشارين المقربين من شيخ الأزهر، سواء بالإدعاءات بإنتماء بعضهم للإخوان المسلمين كما في حالة المستشار القانوني لشيخ الأزهر "محمد عبد السلام"، وعباس شومان وكيل الأزهر، أو باستدعاء شيفوني وطني بالإشارة لعدم حمل بعضهم للجنسية المصرية مثل محمد السليماني أحد مستشاري شيخ الأزهر، والذي تعرضت له هذه الحملات في وقت مبكر بعد 2013، باعتبار أن وجوده يطرح تشككات حول مدى "وطنية" و"مصرية" القرار المصنوع في دوائر المؤسسة الأزهرية العليا، إلى جانب ذيوع إدعاءات بكونه أحد الدافعين والمبعوثين الرئيسيين في المشيخة لمحاولات التوسط والمصالحة بين الدولة والإخوان قبيل فض رابعة.12
ربما تكون أزمة شيخ الأزهر في تحقيق التماهي الكامل داخل هيئة كبار العلماء وفقا لما ترغبه السلطة أكبر من أي قطاع آخر تابع للمؤسسة، وهو ما تُدركه السلطة وسعت حملاتها للضغط به. تضم الهيئة شخصيات على ذات القدر من الأهلية العلمية والترقي داخل المؤسسة، والمكانة العلمية بين تلاميذهم، ولا يمتلك أيا منهم دعما مجتمعيا بعينه خارج المؤسسة ساعد في ترقيه داخلها، ما يجعل شيخ الأزهر داخل الهيئة كما لو كان الأول وسط مجموعة من الأنداد (First among equals) وهو ما يصعب معه إمكانية ضبطهم وضمان تماهيهم الكامل مع آراء شيخ الأزهر أو السلطة، حيث تتراوح توجهات أعضاء الهيئة المذهبية والفقهية، ويتراوحون كذلك في مدى تقاربهم من السلطة وربما تعاونهم معها، بين قرب بعضهم كما في حالة علي جمعة، وامتلاك بعضهم مواقف حادة من السلطة فيما تلي يونيو 2013 مباشرة على النحو السالف مثل حسن الشافعي ومحمد عمارة، أو مواقف خلافية متراوحة مع السلطة مثل أحمد الطيب، أو ممن سبق له الانتماء للحزب الوطني الحاكم دون امتلاك موقف ما متبلور من السلطة الحالية مثل أحمد عمر هاشم، أو ممن لا يُذكر له موقفا أو احتكاكا سياسيا على الإطلاق (وهو الغالب). وقد كانت واقعة الطلاق الشفهي دليلا واضحا على صعوبة فرض موقف وامتثال ما بعينه على أعضاء الهيئة، حيث رفضت الخروج على تقاليدها الفقهية والدينية في هذه المسألة على الرغم من إبداء شيخ الأزهر قدر من المرونة الشخصية لدراسة المسألة الذي صرح به في أحد مقابلاته الإعلامية.13 يأتي حرص شيخ الأزهر على هذاً الامتثال في إطار السعي لترسيخ تقاليد الاحترام المؤسسي للهيئة المبعوثة مجددا للحياة، وهي الهيئة التي تُمثل أحد الهياكل التاريخية التي طالما تطلعت وطمحت أجنحة متعددة داخل المؤسسة لاستعادتها لعقود خلت كأحد العلامات المضيئة في تاريخ المؤسسة وفي إطار محاولات استعادتها لقوتها واستقلاليتها.
بدورها وُجهت المعاهد الأزهرية وجامعة الأزهر-قنات التواصل المجتمعية الرئيسية للأزهر- لقدر كبير من الانتقادات الواسعة باعتبارها أحد مراكز تفريخ الإرهاب والمتطرفين، إلا أنها تبقي مساحات واسعة الانتشار في مختلف البيئات المحلية في مصر، ما يجعلها مساحات رمادية غامضة لا يُمكن الحكم بصددها بسهولة. إلا أنها مثال آخر لكشف تعقد مسألة الانضباط الداخلي وتحقيقها داخل الأزهر وتعدد الآراء داخله، حيث تلقي انتقادات واسعة من جملة المعرفين لأنفسهم بأنهم أبناء وورثة المدرسة الأزهرية التاريخية المتصوفة، ويرفضون نسبتها لهذه المدرسة، ويأخذون عليها نبذها لأنماط التدريس على النهج التراثي بقراءاته التأسيسية في مقابل شيوع النمط المؤسسي الحداثي السائد في جامعة الأزهر النظامية، ويميل لتقديم قراءات وتجميعات مختصرة للدراسات الشرعية غالبا، ليتمكن الطلاب بأنفسهم في النهاية من الوصول لأصولها كاملة، باحثين عمن يُساعدهم في التعاطي مع هذا "الممنوع" من التراث، وتبعا تتعمق أزمة شرعية ومصداقية المؤسسة الدينية لديهم.14
تجديد الخطاب الديني أحيانا، الدفع للهيمنة دائما
يعكس الطرح الوطني الشعبوي حول مسألة تجديد الخطاب الديني- برغم ضبابية الأدوار التي يُعينها- لحد بعيد وعي السلطة الحالية في مصر بطبيعة التغييرات والأزمات التي يشهدها السياق المصري، والتي لا تتورع فيها السلطة عن "الإدارة بالأزمات" لوضعيتها الحرجة في الإنجاز والأمن بشكل مدمر على المدى البعيد، بما تُنتجه من حالة تجييش مجتمعي على أسس دينية.
فالسلطة وفقا لتصريحات رأسها "السيسي" تُدرك جيدا أن عملية تجديد الخطاب الديني عملية بحاجة "لمراكمة ووقت طويل حيث أنها تتعامل مع قناعات وثقافات" لما صرح به في أحد أحاديثه. إلى جانب إدراكها جيدا للأزمات التي تُحيط بالمؤسسة الأزهرية من حالة إنكار جيلية وشبابية متمردة ورافضة للمنظومة التقليدية والدينية منها ،15 والتي كشفت عن وجهها منذ 2011 وما بعدها على النحو الذي صرح به الرئيس ذاته، وكذلك واقع المناخ المجتمعي المحتقن، والمزاج الطائفي التمييزي الذي تفشت حوادثه بعد 2011. ومن ثم فإن مسألة تجديد الخطاب الديني لا تعدو أن تكون أحد أدوات النظام في كسب الوقت وإدارة الأزمة الأمنية والسياسية الأكبر التي يُعاني منها خلال السنوات الأربع الماضية، خاصة أن مسألة مثل الخطاب الديني لا يُمكن تقييمها على نحو دقيق وواضح على نمط غيرها من ملفات السياسات العامة.
إلا أن هناك اعتبار آخر يُوجه هذا الطرح وحملته على الأزهر وهو المرتبط بموقعه في تركيبة الحكم الموجودة في مصر بعد 2013، والتي تُمثل فيها الأجهزة الأمنية بالأساس قلبا صلبا للنظام والحكم، يليها في مرتبات متذيلة مؤسسات وقوي أخرى شاركت في مشهد 3 يوليو 2013 مثل الأزهر والكنيسة، والتي كشفت الأحداث التالية عن عدم تماهي رأس المؤسسة "أحمد الطيب" وكذلك عدد من أعضاء هيئة كبار العلماء مع السلطة وتوجهاتها بشكل كامل خاصة في وقائع دموية مثل رابعة والحرس الجمهوري، فيما بدى كأنه خروج عن الموقف الوطني الذي عرفته التركيبة الحاكمة في مصر، في مقابل امتثال واصطفاف وزارة الأوقاف، وعدد من شيوخ المؤسسة مثل علي جمعة وأسامة الأزهري بشكل كبير مع السلطة في مصر، وقبولهم بالتكييف مع ما ترتأيه السلطة وخطابها.
تأتي حملات تجديد الخطاب الديني كذلك على خلفية إثارة الترتيبات المؤسسية لعدد من المؤسسات والفئات التي أُنجزت بدرجة ما في أوقات سابقة على 2013 أو بعدها مباشرة والتي أصبحت لا تقبل بها السلطة الحالية، سواء في الصلاحيات الممنوحة لها، أو مساحات الحركة التي امتلكها بعضهم والأزهر مثالا على ذلك، بما يُتيح لها هامش من الحركة في مقابل السلطة لا تتسامح معه الأخيرة، ولا تبد بعض القوى السياسية ودوائر ثقافية ارتياحا للدور الذي اكتسبه الأزهر.
وهي العوامل التي تضافرت في عدم تحرج النظام في إلقاء الأزهر في مرمي الغضب الشعبي من الحالة الأمنية المتدهورة وفي مرمي معارضيه من خلال طرح حجة تجديد الخطاب الديني، بالرغم من كونها مهمة مشتركة مع وزارة الأوقاف، إلا أن الانتقادات لم تطل الأخيرة بالنظر لقربها وتماهيها مع السلطة.
كيف يخوض الأزهر تلك المعركة؟
ركن الأزهر لعدم التصعيد مع مؤسسات الدولة الصلبة في إطار هذا المد الشعبوي، بقدر ما اقتصر على التعاطي الإعلامي قدر الإمكان-وللمفارقة على ذات المنابر التي تقود الهجوم على المؤسسة نظرا لعدم امتلاكها أذرع إعلامية نافذة وواسعة الانتشار تُعينها في هذه الحملة- وهي وضعية تعكس حذرا كبيرا تجاه الدولة، ولا تكشف بشكل كامل رؤية واستراتيجية المؤسسة لمكافئة هذا التصعيد.
ارتكن الأزهر إلى جملة من الأدوات والمنطلقات المتنوعة وربما المتناقضة، وعوامل أخرى خارجية أفادته في مكافئة هذه الأزمة. فالمؤسسة تنطلق في دفاعها عن ذاتها من استخدام نفس مفردات الخطاب الشعبوي الوطنية العامة بالتأكيد على دور الأزهر في التاريخ المصري، وفي الدفاع عن الهوية المصرية وتشكيل قيمها، وكذلك تحجيم المؤثرات المختلفة الثقافية التي تعرض لها المجتمع والدولة المصرية بتعدد المراحل والحقب التاريخية، وإقرار السلام المجتمعي على نحو لا يُمكن تجاوزه على النحو الذي تفعله حملات تجديد الخطاب الديني الواسعة. وهو أمر راجع لعدم امتلاك المؤسسة وشيخها بديلا كاملا عن الطرح الوطني بصيغته القديمة نظرا لعدة اعتبارات، أبرزها تراجع الخيارات السياسية المتاحة أمامه تبعا لتراجع السياسة والمجال العام إجمالا مقارنة بما تلى 2011، ومثالا على ذلك هو محاولات إنتاج وثيقة تجديد الخطاب الديني خلال العاميين الماضيين والتي استدعت فقط شخصيات وقوى محسوبة على الخط الدولتي بتنويعاته لإعدادها،16 والتي رأى بعضها أن بغياب قوى الإسلام السياسي وضغوطها وفراغ البدائل أمام الأزهر، فالوقت مواتيء لإنجاز وثيقة يصلوا بها مع المؤسسة لمواقف تراها هذه القوى تقدمية. إلا أن الأزهر يمتلك تصورات ذاتية لدوره ونفوذه تحول دون قبوله بهذه الطبعة الوطنية، في مهمته الدينية، بما يعنيه من تماهي كامل مع السلطة وتطويع الديني في سبيلها. تعكس تسريبات نسخ الوثيقة الأولية ذلك،17 والتي لم تتبن مفردات وطنية واضحة على غرار ما قدمته وثيقة الأوقاف، ولم يقدم فيها الأزهر تنازلات في خطابه الديني وثوابته وهو يٌفسر في أحد الجوانب تراجع الحماس لإطلاق هذه الوثيقة في ظل تراجع قيمة الوثائق، وإصرار جناحات داخل المؤسسة على الحفاظ على رؤيتها المحافظة وعدم التفريط فيه،18 وهو ما قابلته هذه القوى بانتقادات للأزهر بالنظر لتمسكه بالرؤى المحافظة الدينية.
تتعارض الطبعة الوطنية السلطوية مع تصورات الأزهر الذاتية، فانخراط المؤسسة في مهمة تجديد الخطاب الديني بعد 2013 يعكس اهتماما بالتحرك في أطر أوسع من الأطر الوطنية المحلية في إطار مهمة مكافحة التيارات الجهادية، من خلال تبني أدوارا دولية وخارجية،19 تتناسب مع وضعه كأحد الفاعلين أصحاب الإرادة والغاية الذاتية المستقلة على خلاف غيره من المؤسسات والإدارات المندرجة تحت جهاز الدولة المصرية، وكمؤسسة إسلامية ذات رسالة عالمية. تنشط المؤسسة وتعقد جملة من المؤتمرات الدولية التي تستهدف مشاركين متنوعي الخلفيات الدينية والمذهبية، وكذلك كيانات دينية إقليمية وعابرة للدول مثل مجلس حكماء المسلمين وغيرها من المؤتمرات والمنتديات واسعة الحضور والمشاركة والتي تمتد للدوائر الأوروبية، والتي يؤكد فيها الأزهر على موقفه من العنف، وأهمية التعاون والتنسيق بين مختلف الشخصيات والمؤسسات الدينية في سبيل مكافحة الإرهاب، وهو ما يلقي هوى لدى القوى الدولية والإقليمية التي ترفض تقديم أية تنازلات أو مراجعات سياسية في مواجهة قوى الإسلام السياسي والفاعلين دون الوطنيين لعلاج أزمات صعود العنف والإرهاب.
تناسبا مع هذا البعد العالمي والكوني في مسألة العنف والإرهاب وتهديداتهما وخاصة الممارس من تنظيم الدولة الإسلامية وعدم قصورهما على الشأن المحلي الداخلي، قام الأزهر بإطلاق "مرصد الأزهر لرصد التطرف" والذي يُركز على نحو واضح على التعاطي مع أطروحة التكفيرين والجهاديين ونبذها وتفنيدها والرد عليها وإذاعة تلك الردود بعدد من اللغات الحية.
يُعمق هذا التحرك الواسع للأزهر إظهاره كسفيرا لمصر وكونه حلقة تواصل هامة بين الدولة المصرية والخارج، لكونه مؤسسة ذات وضع خاص مستقل عن أجهزة الدولة المصرية، وهو ما أفاد المؤسسة بتوفيره سمعة وقبولا دوليا وإقليميا لها ألقى بظلاله على المواجهة الأخيرة مع السلطة في مصر. يُحقق ذلك النهج جدوى وفعالية ما للأزهر في ظل الاعتراف والشرعية الدوليين والإقليميين به على النحو الذي تعكسه اللقاءات مع قيادات وشخصيات عالمية مثل قبول بابا الفاتيكان لدعوة الأزهر بزيارته، والتي جاءت في وقت دقيق للنظام في مصر. يُمثل الاعتراف والقبول الدولي محددا أساسيا للسلطة الحالية في مصر وتسعى له حثيثا منذ 2013، والتي لا تستطيع تجاوزهما، بالنظر لاكتساب تحركات الأزهر جانبا دعائيا مكثفا. وهي التحركات التي تلق قبول قوى إقليمية أساسية للنظام مثل الإمارات ورهانها على الأزهر، على نحو ساهم في خفض سقف هذه الحملات.
إلا أن المؤسسة وخاصة رأسها شيخ الأزهر يبدو مُدركا كذلك لواقع المؤسسة من حيث التنوع والاختلاف الكبير في داخلها، والذي يُعقد من إمكانية ضبطها، خاصة أنها لم تتعرض من قبل لمثل هذا الاختبار القاسي والذي يتطلب أن تكون المؤسسة على قدر كبير من الانضباط والامتثال الصارم لتجاوز هذا الخطاب. وهو الأمر الذي دفعه مؤخرا لعدم التسامح مع أية أفعال قد يكون من شأنها تعقيد موقف المؤسسة كما بدى في الموقف من رئيس جامعة الأزهر وتصريحه المضاد لإسلام البحيري.20 وكذلك من خلال محاولة التأكيد "على أن لا يُمثل الأزهر الشريف إلا الإمام الأكبر شيخ الأزهر، والقراراتُ الصادرة من هيئة كبار العلماء مجتمعةً، ومجمعُ البحوث الإسلامية مجتمعًا، أو دارُ الإفتاء فيما تُصدره من فتاوى، تلتزم بالأصول الإسلامية التي لا خلاف عليها في الأزهر الشريف وبين علمائه."21 كما جاء في بيان مجمع البحوث الإسلامية المنعقد بتاريخ 11 مايو الماضي، على أثر الحديث الإعلامي لسالم عبد الجليل وكيل وزارة الأوقاف المثير للغضب، وذلك في محاولة للتغلب على فجوة عدم التجانس الداخلي والفكري داخل المؤسسة باتساع رقعتها في مقابل القطاعات التي أتي على ذكرها البيان والتي يُمكن أن يضمن ضبطها. يُبرز البيان السابق بشكل رسمي التمايز بين الأزهر بالقطاعات التابعة له من جانب ووزارة الأوقاف من جانب آخر، وهو التمايز الذي تُدرك المؤسسة أهميته حاليا، في ضوء التباينات بينها وبين وزارة الأوقاف، وفي ضوء كبر أعداد الدارسين والخريجين والمحسوبين على المؤسسة وتعاليمها، ومن ثم تسعى للتشديد على هذا التمايز وعدم الاكتفاء بالصمت تجاه نسبة أية آراء أو خريج للمؤسسة الأزهرية كما كان في أوقات سابقة التزمت فيها المؤسسة الصمت تجاه عدد من الوقائع، ونّذكر هنا واقعة تظاهر عدد من أئمة المساجد ضد وثيقة الأزهر حول مستقبل مصر في عام 2011 لاعتقادهم بانفتاحها وعلمانيتها على نحو لا يقبلون به لمؤسستهم وبلدهم،22 والتي مرت دون تعليق ملحوظ من جانب الأزهر حينها، وهو ما لا يُمكن للمؤسسة الصمت إزاء أية محاولات مشابهة قد تُحسب عليها حاليا. إلي جانب ما بدى من خلافات داخلية تقودها اتجاهات أخرى داخل الدولة ودوائر الإعلام والثقافة التقليدية والتي رفضت قسوة هذه الحملات على الأزهر.
تبقي هنا نقطة بالغة الأهمية أثارتها حملات تجديد الخطاب الديني المتتالية، فإلى جانب الهجوم الوطني الشعبوي، هناك أطروحات تمت إثارتها بشكل هامشي والتي تعرضت لموقع الأزهر وموقفه الإجمالي المحافظ إزاء ملفات الحقوق والحريات الشخصية والعالمية، وهو أيضا أمر يُدركه شيخ الأزهر جيدا، حيث أنه لا يتوارع في أحاديثه الأخيرة عن الاشتباك جزئيا وبشكل صريح مع أطروحة الحقوق الشخصية من خلال تأكيده على تمسك المؤسسة المطلق بتلك المنظومة المحافظة وعدم الرضوخ لأية ضغوط قد تأتي بها حملات الهجوم على الأزهر بحجة تجديد الخطاب الديني بما يُصب في صالح التطبيع مع هذه المنظومة الحقوقية وإقرارها، وخاصة حقوق بعينها قام بتسميتها وهي الإجهاض والمخدرات والزواج المثلي. في مقابل قضايا أخرى يُقر أن هناك فجوة وتحدي ما تعمل المؤسسة على العمل لمواكبته من خلال توجيه المجمعات الفقهية العلمية لإعادة النظر فيها ودراستها مثل قضايا الشرعية القانونية والدستورية، والديمقراطية والتمثيل النيابي، وحقوق المرأة استكمالا لمسار وثيقة حقوق المرأة التي أقرها الأزهر.23
خاتمة
يبدو إن تغير تموضع خطاب الأزهر عن وضعه الراهن بشكل جاد-كما يُروج له الخطاب الشعبوي- سواء في اتجاه أكثر تقدمية أو رجعية/ محافظة، هو تغيرا لا يُمكن أن تتحمل تكلفته السلطة والدولة المصرية بميراثها الثقيل، حيث لا يُمكن أن تُبدي السلطة أي قدر من التسامح تجاه أية محاولات محتملة تقدمية لإيجاد صيغة دينية جادة ومعمقة مستوعبة للأطروحات الحقوقية والاجتماعية، والتي تتعارض مع منظومة الهيمنة شديدة السلطوية والرجعية تجاه الأفراد والجماعات المختلفة، وبالتالي لن تتسامح مع أية هوامش تُمهد لمثل هذا التمكين. كذلك في حال كان تغير هذا التموضع نحو وضعية أكثر رجعية وانغلاقا من الناحية الشرعية والفقهية فأن من شأنه تقليل هامش التمايز بين الأزهر من جهة وغيره من التيارات الدينية والفكرية الأكثر رجعية ومحافظة، والتي تخوض السلطة الحالية في مصر حربا مفتوحة ضدها بتنويعاتها. يبدو أن المؤسسة ستشهد فصولا أخرى من المواجهات والتوتر مع هذا الخطاب الشعبوي، خاصة في ضوء تراجع أفق السياسة، وركون السلطة عوضا عن ذلك لمحددات تقليدية وبدائية لحل أزماتها، إلا أن هذه المواجهات تُكسب المؤسسة بالتعبية قدر كبير من التسييس والنضج المؤسسي والإدراكي لا يُمكن التنبؤ بمالآته حاليا.
هوامش:
1.وثيقة الحريات الأساسية لعام 2012.
2. القوى السياسية ترحب بدعوة الطيب للحوار...وتختلف حول وثيقة الأزهر، مصرس، منقول عن جريدة الأخبار، 14 أغسطس 2011،
3. وثيقة مستقبل مصر
4. وثيقة الأزهر لنبذ العنف
5. جورج فهمي، "الأزهر والتحول الديمقراطي في مصر"، منتدى البدائل العربي للدراسات، فبراير 2015، ص:5
6. مرسوم بقانون رقم 13 لعام 2012 لتعديل بعض أحكام قانون تنظيم الأزهر لعام 1961،
7.جورج فهمي، نوران أحمد "وزارة الأوقاف وإدارة المجال الديني في مصر"، منتدى البدائل العربي للدراسات، 2015.
8. وثيقة تجديد الخطاب الديني 2014،
9. الأزهر يُطلق استراتيجيته لتطوير الخطاب الديني،
10. راجع وثيقة الأزهر حول مستقبل مصر السالف الإشارة لها، ونصوص دساتير 2012 و2014.
11. هيئة كبار علماء الأزهر تسقط عضوية يوسف القرضاوي،
12. الرجل الثاني..في الأزهر للكنيسة، جريدة الصباح،
13. تعرف على أول تعليق من شيخ الأزهر على قضية تجديد الطلاق الشفوي،
14. مقابلة شخصية مع أحد شيوخ الطريقة النقشبندية، القاهرة، يناير 2015
15. خطاب السيسي في ذكري الاحتفال بالمولد النبوي،
16. الأزهر يستأنف جلسات الحوار لإصدار "وثيقة تجديد الخطاب الديني" عقب عيد الفطر
17. ننشر نص وثيقة تجديد الخطاب الديني: رفض شعارات التكفير وشعارات "الخلافة الكاذبة"، المصري اليوم
18. مثقفون وسياسيون يطالبون بسرعة إصدار وثيقة تجديد الخطاب الديني، جريدة المصري اليوم
19. بدأ نشاط هذه الأدوار الخارجية للأزهر في أعقاب 2011 سواء في استقباله لعديد من السياسيين الإقليميين والعرب، وإصداره لتصريحات ووثائق متجاوزة للإطار الوطني مثل وثيقة الربيع العربي والتي تعاطت مع ثورات المنطقة العربية بالتأييد، والاحتفاء بوثيقة مستقبل مصر ومحاولة إعادة استنساخه وتبنيها في الأقطار العربية الأخرى.
20. إسلام البحيري يعلق على إقالة رئيس جامعة الأزهر: سعيد بالقرار، جريدة المصري اليوم
21. بيان مجمع البحوث الإسلامية حول ما صدر عن الدكتور سالم عبد الجليل
22. أئمة الأزهر يصفون وثيقته "بالعلمانية"
23. نص كلمة شيخ الأزهر بمؤتمر الحرية والمواطنة