جدلية: ما الذي دفعك إلى تأليف هذا الكتاب؟
تامر مصطفى: بدأ البحث من أجل تأليف هذا الكتاب سنة 1997 حين كنت طالب دكتوراه في القاهرة. ولقد سحرتني حقيقة أن المحاكم المصرية كانت منتدى مهماً للناشطين المعارضين كي يطعنوا في صحة نتائج انتخابات مجلس الشعب في 1995. وكانت الصحف تمتلئ يومياً بتغطية للقضايا التي فضحت الغش والتلاعب بالانتخابات. وكنت مشوشاً حيال فهم لماذا يسمح نظام استبدادي متأصّل للمحاكم حتى أن تستمع لقضايا كهذه.
وفي الوقت نفسه هناك القليل من الأبحاث حول وظائف وديناميات وسياسة المحاكم في السياقات الاستبدادية. وأخيراً، تمحورت دراستي بشكل أكثر تحديداً على المحكمة الدستورية العليا، التي صارت السبيل الأكثر أهمية لناشطي المعارضة في تحدي نظام مبارك.
جدلية: أية موضوعات ومسائل وأدبيات محددة يعالج الكتاب؟
تامر مصطفى: إن المسألة التي حفّزت بحثي هي "لماذا أنشأ نظام استبداديٍّ متأصّل محكمة دستورية مستقلة تتمتع بسلطة المراجعة القضائية؟" ففي بلاد يفرض فيها النظام الحاكم نفوذه على جميع مظاهر الحياة السياسية والتنظيمية مُنِحَتْ المحكمة الدستورية العليا استقلالية جوهرية عن السيطرة التنفيذية. وتبدو المفارقة أكثر إثارة للاهتمام حين يراجع المرء القرارات الجريئة والمفاجئة للمحكمة الدستورية العليا التي صدرت في مجالات مختلفة في ربع القرن المنصرم. وعملت المحكمة باستمرار كي تحد من السلطات التنفيذية وتوسّع من حدود حرية التعبير وتحمي مجموعات ناشطة في المجتمع المدني من هيمنة الدولة. فضلاً عن ذلك، قدمت الوسيلة الأكثر أهمية لأحزاب المعارضة ومجموعات حقوق الإنسان والناشطين السياسيين من كل المشارب كي تتحدى بشكل معقول الحكومة المصرية للمرة الأولى منذ الانقلاب العسكري في 1952.
استخدمت أحزاب المعارضة المحكمة الدستورية العليا كي تطعن في صحة قوانين انتخابية والقيود الصارمة على النشاط السياسي٬ واستخدمت مجموعات حقوق الإنسان المحكمة الدستورية العليا كي تدعم ضمانات حقوق الإنسان، واتخذ اليساريون إجراءات قانونية هدفت إلى عرقلة خصخصة النظام للبرنامج، وحتى الإسلاميون قاموا بالتعبئة من خلال المحكمة الدستورية العليا كي يتحدوا الأسس العلمانية للدولة. وأثناء هذا كله كانت المحكمة الدستورية العليا في قلب الجدل الأكثر سخونة حول التوجّه السياسي والهوية الجوهرية للدولة المصرية.
وقد اعتبر الباحثون عامة المحاكم في الدول الاستبدادية بيادق لأنظمتها، تدعم مصالح النخب الحاكمة وتعرقل جهود معارضيهم. لكن في مصر، البلد الذي يحتوي على أكثر النظم الاستبدادية استمرارية في العالم وجد المعارضون في المحكمة الدستورية العليا حليفاً دائماً لهم. وهكذا فإن الأسئلة التي حفزت كتابي كانت: لماذا أسس نظام مصر الاستبدادي محكمة دستورية تتمتع باستقلالية كاملة عن السيطرة التنفيذية في 1979؟ فضلاً عن ذلك، لماذا لم يعكس النظام على الفور مصالحه حالما بدأت المحكمة الدستورية العليا بتحدي الفرع التنفيذي في قضايا عالية الأهمية؟ وعلى نحو مشابه، لماذا دعم حكام مصر المحاكم الإدارية، السبيل المهم الذي من خلاله رفع المواطنون المصريون (وربحوا) دعاوى قانونية ضد مسؤولي الدولة، وضد وزراء الحكومة ورئيس الجمهورية نفسه؟
يُنْكرُ الفهم التقليدي للأنظمة السياسية الاستبدادية احتمال أن تبزغ سياسة قضائية من داخل الدول الاستبدادية. إن التصوير الساخر للدول الاستبدادية يميل إلى إنتاج فهم ثنائي للسياسة القضائية عبر أنماط الأنظمة. ويُقاد المرء إلى الاعتقاد بأن الأنظمة الديمقراطية تتمتع بالاستقلال القضائي لكن الدول الاستبدادية لا تتمتع، وأن المحاكم في الدول الديمقراطية تحمي حقوق المواطنين لكن المحاكم في الدول الاستبدادية لا تفعل. ومن الواضح أن معظم باحثي السياسة القضائية يمتلكون بضعة أوهام حول غموض القانون والمؤسسات القانونية في الخلفيات الديمقراطية. لكن حين تبنى كثنائية فاقعة حتى الشخص الذي يعرف العيوب الرئيسية للعدالة وإخفاقاتها في المحاكم الأميركية يمكن أن يُغرى بالانغماس لوقت قصير في إحساس مزيف من الرضا عن النفس.
إن فهماً رصيناً للسياسة القضائية يتطلب من الباحثين أن يشككوا لا في ”أسطورة الحقوق“ في الخلفيات الديمقراطية فحسب، بل أيضاً في فهمنا التبسيطي لكيف تعمل المؤسسات القضائية في الدول الاستبدادية. إنها المهمة أكثر إلحاحاً في هذا المفصل الحساس من تاريخ العالم، حيث بدأ الفرق بين الدول الاستبدادية والديمقراطية يخف في كثير من أنحاءالعالم.
وحتى الآن، على أي حال، إن الفهم الدقيق نفسه الذي يقدمه الباحثون في القانون المقارن حول المحاكم كمواقع متنازع عليها في الدول الديمقراطية تخلو منه بشكل كبير معرفتنا للصراعات القانونية في الدول الاستبدادية. أما في القانون المقارن وأدبيات العلوم السياسية فإنه يُسَلَّم جدلاً بفرضية أن الديمقراطية مطلب لبزوغ القوة القضائية بحيث أن الأبحاث في السياسة القضائية في دول الحزب الواحد نادرة. لكن وعلى نحو مثير للاهتمام تكشف جميع الدراسات التجريببة للمحاكم في الدول الاستبدادية تقريباً أن الحقيقة على الأرض أكثر تعقيداً مما نتخيله عادة. ففي كثير من الدول ذات الحزب الواحد تحدث الصراعات القانونية القوية يومياً وتقدم المحاكم المواقع الأكثر أهمية لنزاع المجتمع - الدولة في الساحة السياسية الرسمية. ويسلّط هذا الكتاب الضوء على المحاكم كساحة للنزاع السياسي في دولة استبدادية حيث لا نتوقع أن نلاحظ وجود صراعات قانونية قوية.
خصصتُ عامين من العمل الميداني على الأطروحة (1997- 98، 2000- 2001) وفترات عودة كثيرة لفهم الديناميات الفريدة للسياسة القضائية في مصر في عهد مبارك.
عثرت على طريقي إلى نسيج الجماعة القانونية\\الناشطة المصرية، وحضرت جلسات استماع في المحكمة ومشاغل للمساعدة القانونية. وأجريتُ أكثر من 150 مقابلة مع محامين وقضاة وناشطي حقوق إنسان ومسؤولين حكوميين. وانخرطت في تحليل نصي وثيق لمئات قرارات المحكمة الدستورية المصرية وقمت ببحث أرشيفي موسع في أرشيف المحكمة وطورت شبكة واسعة من الصلات داخل الجماعة القانونية المصرية.وزودتني كل هذه المساعي بالمعرفة السياقية والمعطيات لتأليف الدراسة الأولى في اللغة الإنكليزية للمحكمة الدستورية المصرية ولتطوير إطار نظري جديد لفهم وظائف المحاكم في الأنظمة السياسية الاستبدادية على نحو أوسع.
جدلية: من تأمل أن يقرأ الكتاب وأي نوع من التأثير تريده أن يحدث؟
تامر مصطفى: من خلال هذه الترجمة إلى العربية التي قامت بنشرها ”دار تدوين“ أنا سعيد أن الكتاب وصل أخيراً إلى قراء العربية. أردت أن أترجم الكتاب منذ سنوات والآن بسبب الاضطرابات السياسية من 2011- 2014 يخدم الكتاب كتاريخ سياسي للسياسة القضائية في حقبة مبارك. ويشكل الكتاب مصدراً مهماً لفهم أصول التمكين القضائي في الأنظمة الاستبدادية بشكل عام أكثر وتاريخاً سياسياً مهماً للمحكمة الدستورية المصرية بشكل خاص. وقد برهنت المحكمة الدستورية العليا أنها لاعب جوهري في اضطرابات 2011- 2014، وأكيد أنها ستواصل لعب دور مهم في صياغة التفاعل بين الدولة والمجتمع في السنوات القادمة.
جدلية: ما المشاريع الأخرى التي تعمل عليها؟
تامر مصطفى: أنهي حالياً كتاباً بعنوان ”قوننة الدين: الشريعة الإسلامية، الحقوق المدنية والدولة“. سينشر الكتاب في 2019 في مطبعة جامعة كامبردج.
* الصراع على السلطة الدستورية، دور المحكمة الدستورية العليا في السياسة المصرية، هو عنوان الكتاب الصادر مؤخراً للدكتور تامر مصطفى عن دار تدوين، 2017.
*تامر مصطفى: أستاذ الدراسات الدولية وأستاذ كرسي ستيفن جاريسلوسكي في جامعة سيمون فريزر في كندا. يتمحور بحثه على تقاطع القانون المقارن والمجتمع، الدين والسياسة، وعلاقات الدولة- المجتمع، ويركز على الشرق الأوسط وعلى جنوب شرق آسيا.
تمحور مشروع مصطفى الرئيسي الأول على المحكمة الدستورية العليا في مصر وسياسة المحاكم في الأنظمة الاستبدادية بشكل عام أكثر. وأتى هذا أكله في نشر كتاب الصراع على السلطة الدستورية: القانون، السياسة والتنمية الاقتصادية في مصر (مطبعة جامعة كامبردج 2007) و حكم القانون: سياسة المحاكم في الأنظمة الاستبدادية (مطبعة جامعة كمبردج 2008، حُرِّر بالاشتراك مع توم غنسبرغ).
حصل مصطفى على زمالات في كل من جامعة بيركلي، جامعة برنستون، كلية هارفارد للقانون وسُمِّيَ باحثاً بكارنيغي في 2007 بسبب عمله حول الشريعة الإسلامية والحقوق الليبرالية.