61% من قوة العمل في بلادنا يعملون مقابل أجر. 72% من دخل الأسر المصرية يأتي من الأجور. 44% من دخل الفقراء يموله العمل المأجور. لهذا فإن الأجور أمر يمس حياة الأغلبية الكاسحة منَّا، مما يجعل منها عن حق المقياس الذي يعتمده المصريون للحكم على أحوالهم بعد الثورة. لكن هذا الطموح المشروح في حياة أفضل يصطدم بحجج يقدمها متخصصون وسياسيون ومسئولون حكوميون.
1. الإنتاجية ضعيفة والمصريون كسالى
يكرر المعارضون لرفع الأجور في مصر هذه الحجة المرة تلو المرة. عندما ينتج الموظف أو العامل المصري الكسول أولا يصبح من حقه ثانيا أن يطالب برفع أجره. ويقارن المتخصصون بين معدلات إنتاجية المصريين وبين إنتاجية العاملين من شعوب أخرى في قطاعات مختلفة للتدليل على هذه الفكرة. لكنها في الحقيقة فكرة معيوبة. فمن الصحيح أن إنتاجية عموم الناس في بلادنا هي الوسيلة لزيادة الثروة وللنهضة والرخاء، إلا أن هذا يصبح صحيحا لو كان توزيع الناتج عادلا أو قريبا من العدالة.
تقول الأرقام إن نصيب الأجور من الناتج المحلي الإجمالي تراجع من 36% عام 1980 إلى 25% فقط عام 2007، في وقت تراجعت فيه نسبة المشتغلين لحسابهم أو أصحاب المنشآت الاقتصادية الصغيرة بسبب جبروت الشركات الكبرى وقسوة احتكارات الكبار. يعني هذا أن عدد العاملين بأجر زاد مقابل تراجع نصيبهم من الثروة التي ينتجونها بالفعل. هناك إذن أزمة عدالة وليس الأمر أساسا أنهم ينتجون ماهو قليل. ويؤكد هذا الوضع الفجوة ما بين الزيادة المعتبرة في النمو الاقتصادي الحقيقي في السنوات الماضية (وصلت به إلى 7%) وما بين التراجع في الأجور الحقيقية (هناك دراسات عديدة في هذا الشأن من أهمها دراسة للدكتور سمير رضوان تستطيع مطالعتها على موقع مركز معلومات مجلس الوزراء). المجتمع إذاً كان يعطي حصاد إنتاجيته بشكل منحاز ضد العاملين بأجر.
أما ضعف الإنتاجية نفسه فالمسئول عنه عوامل عديدة ليس من بينها عزيمة المصريين، الذين يعمل ملايين منهم أكثر من عمل لتوفير الكفاف لأسرهم. إذ أن إنتاجية العمال في الرأسمالية المعاصرة تعتمد على عناصر أخرى غير أداء العامل. فلننظر معا لحالة مصنع غزل المحلة وقطاع النسيج. فقد توقف صاحب المصنع (وهو الدولة في هذه الحالة) منذ سنوات عن الاستثمار في الآلات وفي تطوير التسويق، في قطاع قفزت وتقفز فيه التقنيات كل يوم قفزات هائلة مؤثرة وانظر إلى التجربة الصينية مثلا. بل وطالب العمال المضربون والواعون بهذه الحقيقة دولة مبارك في 2007 و2008 بالاستثمار في المصنع، مما نتج عنه وقتها تحت ضغطهم خطة لضخ 400 مليون جنيه في الآلات. المؤكد أن المصنع بحالة ماكيناته القديمة المزرية، وبأجور عماله غير الإنسانية، يحقق أرباحا هي نتاج صلابة العمال للدفاع عن لقمة عيشهم.
طريق زيادة الإنتاجية على مستوى المجتمع هو معكوس المنطق الاقتصادي الذي طبقته حكومة نظيف ومازال أنصاره يسعون بيننا: زيادة الإنتاجية هي بالانفاق على التعليم والصحة وليس بتقليصه، زيادة الإنتاجية تأتي بتقليل البطالة وليس باستخدامها للضغط على "المحظوظين" ممن يعملون للعمل أكثر مقابل أجور أقل، زيادة الإنتاجية تجيء عندما يعدل المجتمع في توزيع الأعباء والناتج، وفي هذا فإن نظاما عادلا للأجور للمدرسين أو الأطباء أو عمال النظافة أو غيرهم لن يعني إلا دعم الإنتاج لأنه ينعكس مباشرة على حياة المنتجين.
2. يضعف التنافسية ويؤذي الاقتصاد
قام المشروع الاقتصادي المعادي لأغلبية المصريين، الذي سيطر على مصر في العقد الأخير، على أسطورة القدرة على تكرار نموذج كوريا الجنوبية والنمور الآسيوية في الإنتاج للتصدير. من هنا صدرت لنا آلة النظام الجهنمية تلك الفكرة مرة تلو الأخرى: لا أمل للاقتصاد والنمو والتنمية سوى باقتحام الأسواق العالمية.
ويبدو هذا التصور متوافقا في الوقت ذاته مع إثارة الحمية الوطنية في إعادة قيمة المنتج المصري والعملة المحلية التي سيصبح لها قيمتها عندما يصبح ما نصدره للعالم أكبر مما نستورده..الخ. وتقوم هذه الاستراتيجية على عدة أعمدة لكن أهمها هو أن تراهن على ميزة انخفاض تكلفة العمل لكي تستطيع البيع بأسعار تنافسية في السوق العالمية.
لكن هذه الفكرة نفسها سقطت بحسب مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد)، الذي أعلن وفاة هذا النموذج العام الماضي. فمع تراجع الطلب العالمي بسبب الأزمة الأمريكية ووجود العرض الصيني الهائل منخفض الأسعار أصبح هناك استحالة في اقتحام أسواق جديدة وصارت ميزة انخفاض الأجور لا قيمة لها تقريبا كمحرك لنهضة اقتصادية تقوم على التصدير. وتذهب الاونكتاد إلى صعوبة ايجاد معادل موضوعي لصناعة السفن في حالة كوريا أو المحتوى الاكتروني والتعهيد في حالة الهند أو غيرها من المنتجات أو القطاعات التي لعبت دورا أساسيا كقاطرة في مسيرة الناجحين بالتصدير. بل إن هؤلاء، في نظر المنظمة الدولية، هم أكثر من يعاني الآن بسبب اعتمادهم على السوق العالمي المتذبذب.
وينصح الأونكتاد لإنقاذ الاقتصاد ودفع نموه وقدرته بالاعتماد على سياسة لتنشيط الطلب المحلي وتوسيع السوق الداخلية. كيف؟ برفع الأجور.
3. لا يوجد تمويل
ينطلق أصحاب هذه الحجة فيما يتعلق بموظفي الحكومة من وجود عجز كبير في الموازنة العامة وتضخم مستطير في الدين العام. وزاد من هذا أن الدولة بعد الثورة صارت تعاني لتمويل أنشطتها. لكن الحقيقة أن كل هذا يستند على موازنة تقوم على توازن مصالح مختل سياسيا واجتماعيا لصالح الأغنياء. تمول الموازنة نفسها من نظام ضريبي يحابي أصحاب الشركات وكبار الممولين ويفرض عليهم نفس معدل الضريبة الذي يفرضه على موظف السجل المدني في بسيون، أو عامل النظافة في أبوكساه..الخ. تتبنى مصر نظاما ضريبيا يدفع فيه العاملون بأجر أكثر مما تدفع شركات الأعمال. الأكثر من ذلك أن أنشطة المضاربة في العقارات وفي الأسهم، وهي أنشطة بان أثرها المدمر على الأسواق والاقتصادات، تمضي بلا ضريبة ولا قيود. بل تدعم الدولة من أموال العاملين بأجر أصحاب مصانع الأسمنت والسيراميك ومصدري الكويز.
الحل بسيط، ولا يتطلب حتى إجراءات ثورية فكلها قواعد معمول بها في دول الرأسمالية في العالم: ضرائب تصاعدية، إلغاء دعم الأغنياء خاصة أباطرة المحتكرين من أعمدة عصر مبارك وابنه، ضريبة على المضاربة. سيوفر هذا المليارات لإعادة بعض الحق لمن يستحق في صورة أجور إنسانية دون زيادة العجز.
أما في القطاع الخاص، وهو ما يسري على ماسبق أيضا، فيحتاج الأمر إرادة سياسية من الدولة لفرض حد أدنى للأجور يتناسب مع هوامش الأرباح ومع ضرورات العيش الكريم. وهنا فإن النقابات وإضرابات العمال ونضالهم المشروع بالتظاهر والاعتصام هو الضمان ضد إغلاق المصانع غير المشروع وتصفية العمال دون وجه حق.
4. رفع الأجور يرفع الأسعار
إذا رفعنا الأجور سترتفع الأسعار في السوق ربما أكثر من ارتفاع الأجور فلا يستفيد المواطن بشيء رغم كل تبعات هذه الزيادات. هذه الفكرة سليمة تماما لو كان التمويل بالعجز أو بطباعة النقود. لكن إذا رفعت الأجور بتحويل بنود انفاق من أوجه صرف لأخرى فإن الآثار التضخمية تكون محدودة، إذ أن ذلك لا يرفع عرض النقود. لكن الأكيد أنه في ظل وجود الاحتكارات الكبرى في أسواق السلع الاستهلاكية فإن رفع الأجور يجب أن يتوازى مع سياسات مواجهة للمحتكرين في الأسواق ليس فقط لمصلحة أصحاب الأجور لكن أيضا لحماية الاقتصاد وكفاءة الأسواق.
5. التوقيت غير ملائم
يقول أنصار هذه الفكرة إن الاقتصاد العالمي يمر بأزمة وإن الاقتصاد المصري يواجه كسادا واحجاما من المستثمرين بسبب الأوضاع الاقتصادية، وبالتالي فإن رفع الأجور (وإن كان عادلا بحسب البعض)، يحتاج وقتا حتى تستقر الأمور ولكي لا تزداد سوءا.
الرد على هذه الفكرة هو ما يحاول أن يفعله الرئيس الأمريكي باراك أوباما في الولايات المتحدة، على خطى ما أنقذ الاقتصاد العالمي كله من كارثة الكساد العالمي في الثلاثينيات. توجه أوباما في خطته الاقتصادية التي طرحها مؤخرا على الكونجرس هو رفع الضرائب التي يدفعها الأغنياء لتمويل الموازنة لتنشيط السوق برفع الأجور وخلق وظائف جديدة بقيمة تزيد عن 400 مليار دولار. وبغض النظر عن بعض الاقتصاديين (كالحائز على نوبل بول كروجمان) يقولون إن هذا لا يكفي وإنه مطلوب ضخ أموال أكثر في نفس الاتجاه، فإن هذا المنطق هو الأصلح لمواجهة تذبذب السوق: يوسع السوق المحلية بطلب مستقر لا يخضع لتذبذات السوق العالمي المدمرة، يحسن من كفاءة السوق برفع تشوهات دعم الدولة لمنتجين يحققون هوامش أرباح أسطورية، وبمحاصرة مضاربي الأسواق والمحتكرين الذين يخلقون الفقاعات المدمرة وموجات الصعود السعري الهائلة.
هذا وقت إعادة التوازن لصالح المنتجين، ولصالح الاقتصاد الذي هو ليس إلا مصالح أغلبية الناس في هذا البلد. هذا وقت رفع الأجور.
عن جريدة الشروق