مقطع بعنوان " رياح أكتوبر" من رواية ” سارق النوم غريب حيفاوي“ لإبتسام عازم التي صدرت مؤخراً عن دار الجمل.
تدحرج جسدي وتمرّغ وجهي بالرمال بعدما ألقوا بي من السيّارة على شفة الشاطئ الحيفاوي الّذي يطلّ عليه الكرمل. لم تأبه بي الرمال الّتي كانت مستلقية هناك، لا شيء يعكّر صفوها. كان البحر متقلّبًا كعادته في هذا الوقت من السنة، تلاطفه رياح أكتوبر أحيانًا وتعصف بموجه مراراً معلنة جبروتها. لماذا اختاروا هذه الجهة من الشاطئ ليلقوا بجسدي فوقها؟
قبل أسبوع، وليس بعيداً عن هذه البقعة، كان جسدي يرتعش عندما لمست صدر همسة وقبّلته وكانت كلّ مسامة فيه تتفتّح بكسل فوق جلدي، كما يتفتّح زهر اللوز الناعس في فصل الربيع. شفتاها تورّدتا وكان القمر ساهراً فوقنا يحمل ضوءه ويلقي بشباكه الفضية على شعرها وجسدها الأسمر النحيف وصدرها الممتلئ. كانت همسة تخلع ملابسي عنّي وتتحسّس جسدي كمن يفرط حبّ رمّان ولا يترك حبّة واحدة دون أن يقبّلها أو يلمسها بأنامله.
قبل أقلّ من ساعة كنت وسط فوضى الهتاف ورمي الحجارة. فهتفت ورميت الحجارة كغيري إلى أن دبّ الرعب في قلبي عندما التقطتني أياديهم.
"يا ابن الشرموطة! تعال هون!" قالها أحدهم وهو يصفعني. كانت كلمة ”شرموطة“ تخرج من فيه دون أيّ لكنة. هل هو درزي أم بدوي؟ تساءلتُ بين الصفعة وبين ارتطام رأسي بصدر الجندي الثاني، الذي تناوله ووضعه بين رجليه. شدّوني من رقبتي فشعرت بأنّها سوف تكسر.
كانت خدمة الدروز الإجبارية بالجيش قد خلقت بينهم وبين سائر الفلسطينيين في الداخل جفاوة. ولم يشفع لهم أن فئة لا بأس بها من رموزهم ما كانوا يؤيدون إنخراط شبابهم في صفوف الجيش الإسرائيلي ولم يشفع لهم كونهم مجبرين بالقانون على التجند دون غيرهم من العرب. لكن القطيعة والسمعة السيئة للجنود الدروز وطريقة تعاملهم مع الفلسطينيين في الضفة والقطاع كانت قد سبقتهم إلى كل الحواجز التي يقفون عليها. وأي محاولة لفهم ما يحدث معهم، دون أن يعني ذلك تقبل إنخراطهم في صفوف الجيش بل فقط محاولة لفهم كيف من الممكن أن يصبح الضحية جلاداً لأخيه الضحية؟ كانت تقابل ببصق كلمة الخيانة بالوجه.
سارت السيّارة بنا وأنا على هذه الحال أُسبّ إلى أن توقّفوا عن صفعي ورموني خارجها بعد أن توقّفت فجأة عند الشاطئ وودّعوني بسيل من البصاق. لماذا تركوا الحشد وسط البلد وأتوا بي إلى الشاطئ؟ هل كانوا يعرفون أنّني كنت مع همسة على هذه البقعة بالذات قبل اسبوع؟ كنت أتخيّل أنّهم يعرفون كلّ شيء. لا معنى للكذب عليهم. هم يعرفون كلّ شيء دون شكّ، يقفون الآن بعيداً ويراقبوني ويحاولون معرفة ردّ فعلي.
بصقوا عليّ وكانت رائحة أفواههم كريهة. شعرت كأنّني حاوية زبالة يأتي كلّ من هبّ ودبّ ويرمي وسخه فيها. وبقيتُ لسنوات طويلة كلّما استحممتُ ورشق ماء على جسدي، أشعر وكأنّهم يبصقون عليّ مجدّداً. وأجبرتُ على تذوّق طعم بصقاتهم لأنّ فمي كان مفتوحاً وأنا أصرخ من ألم اللكمات التي سدّدوها لي. لا أنكر أنّ حدّتها ازدادت عندما صنعت أنا أيضاً من أمّهاتهم وأخواتهم عاهرات، بل أنّني زدت الطين بلّة ونعتّ آباءهم باللوطيين. لم أعهدني سوقيّاً إلى هذه الدرجة، أستعمل كلمات كهذه. وخجلت من صديقي سامي عندما تذكّرت أنّني استعملت هذه الكلمة كشتيمة! وتساءلتُ إن كنت سوف أصارحه مرّة بذلك.
أين هي؟ لقد كانت معي قبل قليل، قبل أن يجرّوني من شعري المجعّد الطويل ويأخذوني من بين الجمع ويضعوني بالسيّارة وينهالوا عليّ بالضرب. قبلها بثوانٍ فقط كنت أقبض على يدها خوفاً من أن تصاب بأذى. هل اقتادوها هي أيضاً إلى إحدى السيّارات؟ هل شتموها كما شتموني؟ هل نعتوها بالعاهرة؟ هل تحسّسوا جسدها؟
كان الليل قد تكحّل بأكثر ألوانه سواداً والسماء طردت القمر من كنفها ولم يبقَ على عرشها تلك الليلة إلا إله الوحدة الأزلية، يتربّع دون أن يعكّر صفوه شيء. كنت ملقى على الشاطئ تحت هذه السماء وبدا لي أنّ الأرض من تحتي تتحرّك بشكل غريب دون أن تهتزّ. ازداد كحل الظلمة سواداً كلّما تمعّنتُ بها أكثر ولم أرَ للبحر أثراً، إلا هديره الّذي كنت أسمعه ولا أراه.
تحسّست الظلمة بعد أن تحسّسني النمل وتسلّقني. كان النمل يأتي من قاع البحر الأسود ويتسلّقني وأنا هناك ملقى جثّة هامدة لا تقوى على الحراك. ولا أخاف. كنت هناك لا أخاف ولكنّي مستلقٍ لا أقوى على تحريك أيّ شيء من جسدي غير بؤبؤ عيني الّذي اتّسع ليبتلع الظلمة كلّها.
كانت أحداث اليوم قد دارت دون أن أستطيع السيطرة على مجراها. شعرت كأنّني قارب غرق قبطانه وظلّ يبحر لوحده تحرّكه الرياح والأمواج كما تشتهي. ”غريب حبيبي! خلّينا نروح عالمظاهرة نِتْضامن مع أهل الضفّة واللي بصير معهم. لازم يعرفوا إنّه إحنا مش راح نسكت على اللي بعملوه. لازم صوتنا يكون عالي في هالدولة. إذا هم ما بدهم يسمعو صوتنا إحنا لازم نسمّعهم غصبًا عنهم مهما كلّفنا الإشي.“ قالت همسة بصوت واثق. أمّا أنا فهمست في أذنها وارتسمت ابتسامة متوتّرة على شفتيّ: ”عشانِك بروح" قلتها ولم أكن أحبّ الذهاب إلى المظاهرات.
مظاهرات سيطلقون عليها إسم "هبة أكتوبر" فيما بعد، وسيقع ضحيتها عشرة أشخاص خلال أيام قليلة. وسيغضب البقال يتْسِك، الذي يسكن حيّنا ورأى أنه من الضروري أن يعبر لي عن خيبة أمله الكبيرة من عرب إسرائيل كما كان يحلو له أن يسمي الفلسطينيين. "كأنها إنتفاضة" قال لي وأضاف وخيبة الأمل واضحة على وجهه، ”هذه المناظر كأنها في ”شطحيم“ ( الأراضي الفلسطينية المحلتلة عام 67). لا يمكن يا غريب لا يمكن أن يخيب العرب في البلاد أملنا إلى هذا الحد! يتصرفون كأهل الضفة. كيف يمكننا أن نثق بهم؟“ . إستغربت إستغرابه وقلت له كان من الأفضل أن تنضموا إلينا لكي نحارب سوية. رفع حاجبيه مستغربا و بتر الحوار كما تبتر الأطراف في الحروب. وأكتفينا بالحديث عن أحوال الطقس وتقوقع كل منا في عالمه وإنكمش على نفسه، وسرعان ما طغت أخبار الإنتفاضة الثانية على الأخبار الأخرى وبات الشرخ بين كل من الطرفين أكبر.
وكان هناك فريق من الفلسطينيين في الداخل يحاول تغليف ما قام به المتظاهرون وتسويقه على أنه أعمال صبيانية ومسح العرق الذي تصبب على جبين بعض جيرانهم وأصدقائهم اليهود من التوتّر والدهشة. وكان فريق آخر يرى الشرخ يكبر، فيضرب فيه كي يكبر أكثر فأكثر. فلم تعد الحياة تطاق. وكأنهم يقولون لهم إما أن تصيخوا السمع لنا، وإلا متنا سوية في هذا القبر الذي إسمه إسرائيل!
لم تربطني صداقة من بعيد أو قريب بالمظاهرات أو الاحتجاجات، وذلك على الرغم من إيماني الراسخ بحقّ الشعوب في الاحتجاج على أوضاعها بل بأهمّية ممارستها لهذا الحقّ. إلا أنّني كنت أحسّ دائمًا أن في المظاهرات شيئًا يخيفني ويخنقني. ولكنّي اضطررت للذهاب لأنّني وعَدْت همسة بذلك والأهمّ من ذلك لأنّني كنت أخاف عليها من الذهاب لوحدها. كنت أقبض على يدها خوفًا من أن يصيبها أذى. لا أدري كيف التقطوني من وسط الهتافات وكيف اختفى كفّها من بين أصابعي الّتي كانت تتشبّث به.
لم يطاوعني أيّ عضو من أعضاء جسدي على الحركة، إلا عينيّ فهما وحدهما وافقتا على أن أفتحهما بعد أن ابتلعتا كلّ الظلمة في داخلهما وخفت عليهما من العمى فأغلقتهما. كانت أمّي تقول إنّني إذا استمررت بالحملقة بالشمس كما أفعل فسوف أُصاب بالعمى. واعتقدتُ أنّ الحملقة في الظلمة تصيب بالعمى أيضًا، فأغلقت عينيّ.
تجمّع النمل فوق جسدي وكساه، ولولا شهيقي وزفيري الّذان كان يرتفع وينخفض النمل معهما كلّما انقبضتْ وارتختْ عضلات قفصي الصدري، لكنت اعتقدت أنّني ميت. كنت أبدو ككومة زبالة ينغل النمل فيها.
تك تك تك تك، هكذا أشعر من كثرة ما تحدثوا عن العرب كقنبلة ديموغرافية موقوتة أو كقنبلة موقوتة، لسبب ما لا يهم. ما هو الأهم أن العرب في الدولة قنابل. وكنت أمشي أحياناً وأحس بأنني فعلا سأنفجر في كل لحظة. تك تك تك تك. كنت مغمض العينين وكنت أسمع التكتة في كل مكان من حولي. تك تك تك تك تك تك تك تك تك تك تك تك تك تك تك تك تك تك تك تك تك تك تك تك تك تك تك تك تك تك تك تك .
شقّ صوت همسة الدافئ طريقه إليّ، وانحنت بجسدها فوق جسدي. ”غريب، قوم لازم نروح! الطريق قدّامنا طويل.“ أزالت همسة النمل من على جسدي واستغربت لأنّها لم تقرف من جسدي المغطى بالنمل.أزالت أصابعها النمل عن جسدي بحركات واثقة. مشينا جنبًا إلى جنب.
ابتسمت همسة وكأن الله قد تجلّى في ابتسامتها، فسألتها:
- وين هو؟
- مين قصدك؟
- لكبير، هو! ما تقوليلي إنّك ما بتعرفي مين قصدي!
- إنت ما بتعرف لليوم إنّه تركنا من زمان... شو إنت من أهل الكهف!