غرفة فسيحة سقفها عالٍ. جدرانها الكئيبة، باخ لونها، تملؤها الكتابات. سرير ضيق يشغل فسحة صغيرة وهزيلة، قطعة الأثاث الوحيدة في الغرفة. أعلى الجدار، شباك صغير تملأ فراغه قضبان سميكة موشاة بالصدأ. يقف حليم فوق السرير حافي القدمين. يثني ركبتيه. يستجمع طاقته الضئيلة المتبقية. يقفز في الهواء. يزقزق السرير المعدن. يقفز من جديد. يستند بكفيه على الحائط. بارداً كان وأملسَ. باطن كفه مندّى بالعرق. يحمل قدمه ويحاول الاستناد بركبته على الحائط ليرفع جسمه للأعلى. بنطلون البيجاما القطن لا يساعده على ذلك. قماش البيجاما مهلهل. يخلع حليم البنطلون. لسعة برد تتسرب إلى ساقيه. يحاول الصعود من جديد. يرفع ركبته. يسندها على الجدار أو يسند الجدار عليها. وللحظة خاطفة، يفقد حليم توازنه. وتختلط عليه الأمور. مَن يسند مَن؟ هل يسند ركبته بالجدار، أم أنه يسند الجدار بركبته. واللحظة الخاطفة تلك، بثت الرعب في روحه. خدر بارد راح يسري في محيط ركبته. يحاول الحفاظ على توازنه. لا يجرؤ على النزول. قد يسقط الجدار. نسمة رخوة تدفقت من الفتحة الصغيرة أعلى السقف. تنفسها حليم دفعة واحدة. امتلأت بها رئتاه. ولم يزفرها إلا بعد حين. تسرّبت من فمه ببطء كي لا يفقد توازنه. أضاع حليم إحساسه بأعضائه. أو أنه لم يعد يشعر بها منفصلة بعضها عن بعض. لم تعد لديه يدٌ أو ساقٌ أو ركبة أو رأس. صار جسده كتلة واحدة، متكاملة. وقلبه النهدان لم يعد ينبض خلف صدره. صار النبض يندفع من كل مساماته. حتى تهيأ له أن الحائط ينبض أيضاً. غلبه التعب. يحاول عبثاً السيطرة على جفنيه. يفتح عينيه على اتساعهما. عرق بارد يسيل على جبينه العريض. يصبّ في عينيه. تحرقانه. يفتحهما قدر المستطاع. تمرّ ثوانٍ قليلة، فيرتخي الجفنين ويغمضان. يعاود فتحهما. لا يعرف حليم متى أو كيف أغمضهما ونام.
استيقظ فجأة. ما تزال عيناه مغمضتين. يلبط الحائط بقدميه. صار الحائط فراغاً. يحاول الصراخ لكن صوته يخرج جافاً كقطعة حطب يابسة. يحاول عبثاً رفع يديه.
الحلم ذاته.
ينهض حليم من سريره العريض. ومثل كل صباح، يسترق النظر إلى يمينه، فلا يجد سُليمى. يهرول إلى خزانة الملابس. يفتح الدرفة اليمنى. مرآة طويلة ثبتت من الداخل. ينظر إلى وجهه. يتأمل ملامحه المتعبة والمنداة بالعرق. يعثر على نفسه فيرتاح. الخوف ذاته كل صباح. يخشى أن يفتح درفة الخزانة وينظر إلى المرآة فلا يرى شيئاً. ربما يرى صورة الحائط معكوسة على المرآة. يرى الصورة المعلقة على مسند السرير فوق رأسه بالضبط. قد يصبح شفافاً ولا يلمح نفسه في المرآة. تتسارع نبضات قلبه. ينهض بصعوبة. يفتح الدرفة. تمتزج زقزقة الخشب العتيق بصوت قلبه ينبض بقوة. يلمح نفسه فيرتاح وشيئاً فشيئاً تستعيد دقات قلبه هدوءها. يغلق باب الخزانة. يستدير ببطء. يجلس على حافة السرير. يتأمل الصورة المعلقة. يظهر جانب صغير من حديقة السبكي. يقف حليم في الوسط. تظهر كنزته الصوف الحمراء وراء سترة من الجلد المهترئ. ينظر إلى عين الكاميرا من وراء نظارة طبية عريضة. على شفتيه، ثمة ابتسامة مستعجلة. وكأن المصوّر غير محترف أو هاوٍ وقد أمضى نصف ساعة ليلتقط صورة بسيطة. بالضبط هكذا. ابتسامة حليم مستعجلة كانت.
من لم يعرف حليم جيداً، سيظنّ أن الصباح هذا استثنائي. وأن التفاصيل التي أدوّنها تحدث للمرة الأولى. لن يصدّق أن اللحظة تستنسخ نفسها في اليوم التالي وفي اليوم الذي يليه والثالث والرابع وكل الأيام. منذ ذلك اليوم البعيد، فقدت اللحظة قدرتها على التجديد. وصار الفرق الوحيد بين ما يحدث اليوم وما يحدث في الغد هو ببساطة أرقام التواريخ التي تزيد رقماً كل يوم. لذلك لن أكرر عبارة (ومثل كل صباح..) بعد الآن. فكل ما سأكتب عنه، يتكرر حرفياً وبلا أدنى مبالغة. وكأن الزمن توقف. ربما يصعب استيعاب الأمر.
ومثل كل صباح، امتلأت عيناه الصغيرتان بالدموع. عفواً، سأعيد صياغة الجملة. امتلأت عيناه الصغيرتان بالدموع. لفّ ساعديه حول صدره، كأنه يعانق نفسه. ما أن يحيط صدره بساعديه، حتى يستسيغ فكرة معانقة نفسه. والدموع تنهمر من عينيه، غزيرة، سلسلة. يعانق نفسه للحظات طويلة. ويبكي. يشتاق إلى نفسه طفلاً. ويحنّ إلى أمّه. يتذكر أنها لم تعانقه يوماً، وأن رائحة صدرها ليست سوى اختراع قام به ليحمي هشاشته. بما أن أمّه لم تعانقه يوماً، وبما أن رائحة صدرها ليست سوى اختراع، يمكنني أن أجزم بأن ثمة ثقب في ذاكرة حليم لا يمكن ملؤه على الإطلاق. ثمة أمور، لا تستوي الحياة إن لم نكتسبها. وكيف يستطيع من لم يشمّ أمّه جيداً، أن تنضج مشاعره. من لم يمرّغ رأسه الصغير في صدرها وبين خصل شعرها، لن يستطيع أبداً قطع حبل السرّة. ببساطة لأنه لم يملك ذلك الحبل يوماً. قـُطع الحبل فور خروجه من رحمها. قُطع مجازاً وحقيقة. وكيف سيتخلص من أمر لا يملكه؟ سيظل الحبل ملفوفاً حول رقبته، خانقاً ومؤسياً.
لم يكن حليم قد تجاوز السنتين عندما رحل أبوه. ولم يكن في حوزتهم سوى بيت حجر متداعي الجدران. يحتوي على غرفتين صغيرتين ومطبخ لا يتسع إلا لشخصين وحمّام مسقوف بألواح خشب تتسرّب الشمس وزرقة السماء في النهار من بين فتحاتها. في الشتاء ينامون في الغرفة الشرقية وفي الصيف في الغرفة الثانية الغربية. سبع صبية وأمّهم الأرملة، لم يتجاوز عمرها الثلاثين. ينامون على الأرض فوق فرشات صوف رقيقة. حليم كان أصغرهم سناً. بلغ السنتين ولم يمشِ. أمّه تذهب كل صباح إلى سهل "الروج" حيث صارت تعمل بعد رحيل زوجها. إخوته الستة في المدرسة. أكبرهم في الرابعة عشر. ترحل صباح وتلفّه حول بطنها بمنديل طويل. تذهب مشياً على الأقدام. في إحدى المرّات، راح حليم يبكي ويبكي بفجور. نزعته صباح عن بطنها ووضعته على الأرض. أكملت طريقها. صباح لا تعرف كيف طاوعها قلبها وتركته هناك. لكنها تعرف جيداً أنها في تلك اللحظة ضجرت البكاء وضجرت حياتها. أكملت طريقها وكأن شيئاً لم يكن. صوت بكائه يشق صمت الصباح. وحيداً على الأرض، يبكي. صباح تمشي بسرعة وصوت البكاء ينخفض شيئاً فشيئاً. وقبل أن يختفي تماماً، استدارت وهرولت إليه. حملته بين يديها وذهبت به إلى "الروج".
نهض حليم بتثاقل. جسمه يؤلمه عندما يستيقظ. كل جزء من جسمه بلا استثناء. حتى أسنانه تؤلمه من كثرة ما يكزّ عليها. أصابعه متيبسة وقد أمضى الليل وهو يضمّها إلى كفيه كمن يؤدي تحية العلم. دخل إلى الحمام الفسيح إلى جانب غرفة النوم. نظر إلى المرآة الضخمة المعلقة فوق المغسلة البيضاء. لمح شحوباً في وجهه. ضاق صدره. يبذل جهداً في الشهيق، ومثله في الزفير. وطاقته الهزيلة يستجمعها لسحب الهواء. والهواء ليس وفيراً ولا يلبي جوعه للأوكسجين. يدير حنفية الماء البارد. يضع رأسه تحت الماء. قشعريرة مريحة تسري في جسمه. البرد وحده يخفف من اندفاع الأدرينالين في الجسم. يخلع بيجامته القطن ويبقى عارياً وقد سالت بضعه قطرات من شعره المبلل على كتفيه وظهره. لماذا يبدو شاحباً؟ اليوم لا يزال في أولّه. لم يدخن حتى الآن ولم يحتسِ قهوته بعد ولم يقم بأي جهد عضلي يبرّر شحوبه. يفرك وجهه بقسوة ليمسح الشحوب ويترك للدم فرصة التجمع على الوجنتين. خرج من الحمام. اتجه إلى الصالون الفسيح. أرخى الستائر المخمل وراح يسترق النظر إلى الشارع الخالي تماماً إلا من سيارة القمامة. ليست هذه هي الساعة المخصصة للملمة الزبالة من شارعهم. بدأ قلبه يرفّ وينقبض بنبضات متلاحقة ومنهكة. ما الذي دفعهم للمجيء في هذه الساعة المتأخرة؟ قفز رجل أربعيني يرتدي الزي الأزرق المخصص للزبّالين. راح يدفع عربة القمامة الخضراء. ساعداه ثخينان، تبرز عضلاتهما وقد شمّر الرجل عن زنديه. دفع العربة باتجاه مؤخرة سيارة القمامة. صوت ارتطام العربة بالسيارة يشلع الروح. ليس أي روح. فكّر حليم. فقط تلك المعذبة. وهل روحك معذبة حقاً؟ إنها ثلاثة أشهر يا حليم وليس ثلاث سنوات! هناك من أمضى أحدى عشر عاماً ثم بدأ من جديد. كل صباح، يحاور حليم روحه بهذه الطريقة. وفي لحظة محددة، ينقطع الحوار. وتحلّ مكانه الوساوس المعتادة. صوت الارتطام يسحب الروح. حليم يعرف جيداً أن الصوت هذا محفور في ذاكرته منذ ذلك اليوم البعيد. ولن تفلح قوة على الأرض أو في السماء بزحزحته ولو قليلاً. خلص. إنه هناك. يرقد بصمت في ثنايا الذاكرة. لكنه صمت حذر. ما أن يدغدغه ذلك الارتطام حتى ينفجر ويسيل. في واحد من الدفاتر الأربعة، كتب حليم أعلى الصفحة: في الحادية عشرة، سحبت أقفال الأبواب الحديد الثخينة بشكل يقلع القلب.
ولنفترض أن سيارات القمامة توقفت عن المرور في شارعه، هل سيخرس ذلك الصوت المعدني القاسي؟ يسأل حليم روحه ويترك الإجابة معلقة. منذ زمن، فقدت الإجابات قدرتها على الإدهاش. لم تعد لها أية أهمية. وحدها الأسئلة، تتكرر بإلحاح وسماجة معكّرة صفو أيامه.
في بعض الأحيان، يتمنى حليم لو يرجع إلى الـ "هناك". على الأقل، سيتخفف من عبء الخوف. لا خوف هناك. مجرد انتظار ولهفة للخروج إلى الـ "هنا". وهذه التسمية ابتكرها حليم ببساطة لأنه لم يكن قادراً على الاعتراف والتأقلم. لا يريد أن يقول حتى ولو ضمناً إنه في السجن وكأن لفظ المفردة يؤكدها، بينما يحولها التجنب و الإهمال إلى وهم أو حلم. في الدفتر الثالث: يوماً بعد يوم، أخذ منزلي هذا شكل الديمومة. امتلأ بالألبسة والحاجات والطعام. بل صرت أكثر اهتماماً بنظافته وترتيبه. في البداية هناك حالة رفض للمكان وكأن ترتيبه ينفي صفة المؤقت عنه. هذا ما كتبه حليم. بعد أن صار الـ "هناك" منزلاً، ارتاح حليم. تصالح مع المكان. وفي اللحظة ذاتها، شعر بالغبطة والرضا. إذ لم يعد هناك ما يثير القلق. الآن، تغيرت الأمور. صار حرّاً. ولم يستمتع بتلك الحرية ولا للحظة واحدة. يظلّ مشغولاً بكيفية الحفاظ عليها. الخوف ينغص فرحته.
في الدفتر الأول: قد يستغرب أحدكم لمَ بدأت أضع نقطتين فوق التاء أو تحت الياء بدلاً من شخطة؟ في الحقيقة لأن كتابة (..) يأخذ وقتاً أكثر من (-). اليوم انتبهت لأمر آخر يستحق التأمل: لقد بدأت أشعر بالسعادة هنا أحياناً! كيف؟ مثلاً، أنا سعيد الآن لأن قرقعة مزراب البناية بسبب غزارة المطر تشبه الموسيقى. كما لفتني أن الـ "هنا" ساعدني كثيراً على العودة إلى طفولتي. أنصت إلى الأغاني من وراء الجدران، أدقق في كلماتها وأتذوق اللحن على مهل. لست مستعجلاً. أستمتع بصوت الأذان. أتعامل بلطف غريب عني مع السجّان. أشرب الشاي بتأنٍ وأفتح أنفي إلى أقصاه كي تدخل الرائحة الساخنة. أبتلع طعامي بتؤدة وأتمشى مع اللقمة لدى هبوطها من فمي إلى بلعومي وصولاً إلى معدتي. أصغي إلى صوت جريان الدم لدى تمدّد جسمي. أحسّ بحركة العضلات والأعصاب خلال المشي. أتمهل في إيقاظ كل عضو من أعضاء جسمي صباحاً قبل النهوض. ماذا أيضاً؟ أغسل يدي مرة ومرتين كي أتخلص من الدسم العالق على سطحهما خلال الجلي. أشم جواربي بعمق وأدحشهما بين فتحتي أنفي كي أتأكد أن الغسيل تخلص من الرائحة القذرة. هل هناك شيء آخر؟ طبعاً! أبذل جهداً عظيماً وأصب الماء بعد الماء كي ترحل رائحة البول عن التواليت. أنفض الشراشف جيداً كي يهرب الغبار وأعرضها للهواء كي تفرّ منها رائحة النوم.
رحلت سيارة الزبالة وسحبت معها كل الضجيج. استعاد حليم بعضاً من هدوئه. عرق بارد راح يرشح من جبينه العريض. ثمة ما يقرقع في معدته الخاوية. يسترق النظر إلى هاتفه. لم يرنّ منذ يومين. ومن سيتصل؟ فكّر حليم. لن يتصل أحد. إلا أن حليم ينتظر طوال الوقت. لا بل ويلعب مع نفسه أيضاً. ومع الزمن. يخفي هاتفه في مكان ما. غالباً في الجارور المخصص للملابس الداخلية. يضعه بين القمصان البيضاء المطوية بعناية. يحكم إغلاق درفة الخزانة. يخرج من الغرفة. بعد ساعات، يمشي بهدوء باتجاه غرفة النوم. يفتح الباب ويتسلل خلسة. يتلذذ بفتح درفة الخزانة. ينصت إلى الزقزقة بتروٍ. يسحب الجارور. يمدّ يده ويفتش عن الهاتف بين ثنيات القمصان. يتحايل على ذاكرته، يتجاهلها، يتصرف وكأنّ أحداً ما خبأ الهاتف وحليم لا يعرف مكانه. يروح يفتش ويبحث ويخرّب ترتيب القمصان والكيلوتات. يجده أخيراً. ينظر إلى شاشته. يتفاجأ، لم يتصل أحد به. يعيده إلى مكانه بين القمصان ويبدأ اللعبة من جديد. قبل أن يبدأ، يرتب القمصان وكأن الترتيب جزء مهمّ من اللعبة.
كانت سليمى في المقهى. تجلس أمام الكومبيوتر المحمول. تكتب بضعة كلمات ثم تمحوها. تعيد قراءة الصفحة الأولى ثم الثانية ثم تفقد تركيزها. أصوات الزمامير والهتافات تجزّ في الأذن وتدخلها بالقوة. لملمت أغراضها على عجل. خرجت من المقهى. لفحتها شمس آذار اللئيمة. وقفت تنتظر سيارة أجرة. لم تعد تركب سيارتها إلا نادراً. الزحام يخنقها. ومزاج الناس صار مخيفاً منذ بداية الأزمة. البعض يصرخ بلا سبب والبعض يشتم والبعض يسخر والبعض يضع يده على الزمور ويرفض نزعها. الغثيان لا يهدأ. تنظر سليمى إلى الأعلام تتسلل من شبابيك السيارات، طبعت عليها صورة القائد. سيارات الأجرة تمرّ مسرعة، ملتاشة في زحمة الهتافات. حتى أن السائقين لا يعيرون أدنى انتباه إلى المارة. بعض المشاركين يمدّون رؤوسهم من الشبابيك، يرمقونها بنظرات فيها مزيج من الاستغراب والشبق. يستغربون وقوفها صامتة على حافة الرصيف. أو أنهم لم يستغربوا. سليمى اعتقدت ذلك. في الأيام الأخيرة، ابتلعت ما يكفي من الخيبات حتى صارت عاجزة عن تمييز نظرات الاستهجان من تلك الحيادية. جارتها شروق صارت تتجنبها. تلمحها خارجة من البيت فتصعد الدرج مسرعة خوفاً من حديث عابر. وقبل أيام، تقصدت سليمى الاتصال بها. جملها مقتضبة كانت ولهجتها رسمية لا تليق بجيران مضى على وجودهما في العمارة ذاتها أكثر من عشرة أعوام. دعتها شروق إلى بيتها بداية الأحداث. صحن تبولة وكبة مشوية وكأس نبيذ ودموع تنهمر من عينيها دون توقف. وسليمى تجلس بصمت. لم تتفوه ولا بكلمة واحدة. إلا أن صمتها كان موقفاً جارحاً بالنسبة إلى شروق. فهي لم تساير دموعها ولم تخفف عنها مخاوفها. ذلك المساء، شعرت سليمى بالارتباك. جارتها وصديقتها تبكي. وكما يحدث في الأحلام، لم تتمكن سليمى من النهوض إليها واحتضانها. أرادت ذلك لكنها لم تستطع. حاولت النهوض، إلا أن شيئاً أقوى منها راح يمسكها ويمنعها من تحريك أي جزء من جسدها باستثناء الرأس. راحت تهزه بإيقاع متساوٍ ومضبوطٍ كالآلة. شروق تبكي وتحكي عن قهرها وسليمى تهز رأسها. عيناها كانتا معلقتين بعيني شروق. نظرة شاردة وفارغة تفرّ منهما. – رح يدبحونا.. والإمام علي رح يدبحونا.. قليلي وين بدنا نروح.. أبعرف شو بدي ساوي.. شو بعمل بالولاد.. وين بروح بحالي.. أسئلة شروق ظلت معلقة هناك في فضاء الغرفة المليء بالدخان وبخار الأنفاس القاتم والمغثي. ومنذ ذلك اليوم، صارت تتحاشاها. لا تريد التقاط نظراتها الشاردة والفارغة.
دخلت سليمى باب العمارة. إحساس بالكآبة يعصر قلبها. صعدت الطوابق الثلاثة بتثاقل وضجر. باب البيت كان مفتوحاً. الفوضى تملأ الصالون. أوراق متناثرة هنا وهناك. التلفاز مرمي على الأرض وقد تهشمت شاشته. غرفة النوم أيضاً مكركبة. بدت الخزانة وكأنها تقيأت الملابس دفعة واحدة. وحده الحمّام كان مرتباً. أخذوا حليم.
كان عائداً إلى البيت. صعد الدرج. فتح الباب. بعد دقائق قليلة من دخوله، رنّ الجرس. فتح حليم باب البيت. رجل في الأربعينات، طلب كأساً من الماء. ابتسم حليم. أغلق الباب بهدوء. لم يعاود فتحه. إن كان الرجل صادقاً في طلبه، سينتظر ثم سيضجر ثم سيرحل. أما إن صدقت شكوك حليم، فسيبقى الرجل واقفاً ثم سيرحل أيضاً وستفشل محاولة الاعتقال. وقف حليم خلف الباب. راح ينظر من الثقب الصغير أعلى الباب. الرجل يرنّ الجرس من جديد. ينظر إلى الثقب، إلى عيني حليم مباشرة. أو أن حليم ظنّ ذلك. وللمرة الأولى في حياته ربما، يختبر حليم ذلك الإحساس بالألم. عينا الرجل تصيبانه بالألم. توجعانه. تلسعانه. عرق بارد راح ينفر من مساماته. وفجأة، لم يعد الباب الخشب الذي يفصلهما واحدهما عن الآخر مجرد باب. أصبح الحياة بأسرها. حياة حليم لملمت بعضها، تجمعت، تكثفت بين ذرات الخشب. الباب هو الحياة. ولم يعد لما تبقى أي وجود. الغبش يملأ قطع الأثاث الأخرى. الجدران اختفت. وحده الباب، يسند حليم أو أن حليم يسنده.. لا فرق. مشى بهدوء باتجاه الصالون. راح يلتقط أنفاسه بصعوبة. لا بد أن يصحو من هذا الكابوس. لا بد أن يرحل الرجل بعد لحظات ويرنّ جرس البيت الآخر ليطلب كأس الماء. لا يذكر حليم كيف فُتح الباب بعدها. كيف دخل خمسة رجال أقوياء، وأمسكوه كالريشة وأنزلوه إلى الشارع. سيارة بيضاء كبيرة كانت بانتظاره. رموه على أرضها. ولم يستيقظ حليم إلا "هناك". جالساً كان على كرسي خيزران. يطلب كأس ماء من المحقق. يطلبه بنبرة لطيفة كتلك التي تحدث بها الرجل الأربعيني قبل ساعات، أو قبل أيام أو أشهر. لا يعرف حليم متى بالضبط. فالوقت فقد قدرته على الإدهاش. حليم يطلب كأس ماء، والمحقق يصفعه مرة على خده الأيمن ومرة على خده الأيسر ومرة على مؤخرة الرأس. مرة "هنا" ومرة "هناك".