أبلغ رسالة يمكن إيصالها إلى المجتمعين اليوم في القاهرة أن الوقت من دم وحقوق وتقطيع أوصال واعتقال وإهانة وتعذيب وحرق الأشجار والمساجد وحصار وعدوان، خصوصًا على غزة، وتهويد للقدس وعزلها وإبعاد سكانها عنها وتوسيع جنوني للاستيطان، بحيث لن يقبل الشعب الفلسطيني من المجتمعين إضاعة المزيد من الوقت وتأجيل إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية لأي سبب، بما في ذلك انتظار مصير مبادرة اللجنة الرباعية الدولية، واللهث وراء سراب استئناف المفاوضات وإمكانية توصلها إلى حل متوازن أو انتظار مصير الربيع العربي، خصوصًا استكمال نجاح الإسلام السياسي في الانتخابات، وهذا وذاك على أمل مساعدة طرف على حساب الطرف الآخر لكي يحقق مصالحة وفقًا لشروطه وأهدافه.
لا مستقبل لفلسطين ولا لأي فصيل من فصائل حركتها الوطنية؛ بحكم حجم المخاطر والتحديات والمؤامرات والاختلال الفادح في ميزان القوى لصالح إسرائيل إلا من خلال استعادة الوحدة الوطنية على أساس ديمقراطي وشراكة حقيقية، وإعادة الاعتبار للبرنامج الوطني بعد استخلاص الدروس والعبر من التجارب السابقة.
كتبت في المقال السابق إن المصالحة الوطنية بانتظار 26 كانون الثاني المقبل وما بعده، وأوحيت بأن الاجتماعات التي ستشهدها القاهرة لن تحدث اختراقًا، لكنني لم أتوقف بشكل كافٍ أمام الأسباب والجذور التي لا تزال تمنع إنهاء الانقسام.
إن الربيع العربي وانعكاساته إقليميًا ودوليًا وفلسطينيًا، يوفر فرصة ذهبية لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة، فالعوامل العربية والإقليمية والدولية التي كانت تلعب دورًا فاعلًا في إعاقة إنجاز المصالحة تراجعت كثيرًا بالرغم من أن قيادتنا لا تصدق ذلك حتى الآن.
فلم يعد نظام حسني مبارك قائمًا بكل جبروته وقدرته على منع أي مصالحة لا تلبي الشروط الأميركية والإسرائيلية، بل أصبحت مصر فاعلة في إنجاز المصالحة، بدليل جهودها المثمرة لتوقيع اتفاق المصالحة وتطبيقه. ولم تعد إيران وسوريا في وضع يؤهلهما لممارسة أي ضغوط لمنع اتفاق المصالحة إذا لم تجرِ المياه في طواحينهما. أما قطر فنقلت بندقيتها من كتف إلى كتف، وعادت إلى سيرتها الأولى، واصطفت في معسكر دول الخليج خشية من امتداد الربيع العربي إليها، وقامت بدور قيادي لاحتواء الثورات، ولو اقتضت الحاجة الاشتراك مع حلف الناتو.
كما أن الإدارة الأميركية تراجع دورها وأصبحت منشغلة أكثر بأوضاعها الداخلية مع استمرار أزمتها الاقتصادية، وبدء حملة الانتخابات الرئاسية، وانسحاب قواتها من العراق وهي تجر أذيال الخيبة والهزيمة من دون تحقيق أهدافها من الحرب. وإسرائيل بالرغم من تطرفها المتصاعد إلا أنها مقيدة في هذه الفترة، كونها لا تعرف ماذا تفعل، لأنها لا تريد فعل ما يحرك رياح الربيع العربي ضده، وإحباط الجهود الأميركية والغربية لاحتوائه.
لم يستغل الفلسطينيون هذه الفرصة الذهبية جراء عدم وضوح المشهد بعد الربيع العربي، لأنه لا يزال مفتوحًا على احتمالات عدة، ولكن هذا لا يجب أن يلغي وجود الفرصة ولا أن يؤدي إلى إضاعتها. كما أن من الصحيح أن إسرائيل رغم أنها مكبلة إلا أنها قادرة على الحركة لتعطيل المصالحة، سواء من خلال وقف تحويل العائدات، أو تنفيذ عقوبات أخرى ضد السلطة، أو اتخاذ خطوات بتوسيع الاستيطان وضم مناطق أخرى لإسرائيل، ولكن قدرتها أقل من السابق، وإذا لم نستغل اللحظة المواتية حاليًا سنبقى رهينة لها وما يمكن أن تفعله بنا، وهذا يقضي على ما تبقى من مبرر وشرعية ومصداقية للسلطة، فلا بد من تغيير قواعد الصراع وتجاوز الاتفاقيات التي تجاوزتها إسرائيل منذ زمن طويل.
هناك أسباب فلسطينية تعمل على استمرار الانقسام، حيث بدت واضحة الآن كما لم تكن واضحة في السابق، فكان تأثير العوامل الخارجية يطغى على تأثير الأسباب الداخلية. أنا شخصيًا كنت من المؤمنين بأن هناك أسبابًا فلسطينية وراء الانقسام، والآن بعد حوالي خمس سنوات من الانقسام تعمقت هذا الأسباب أكثر، بدليل طغيان الصراع على السلطة على أي شيء آخر بالرغم من التقارب الحادث في البرامج السياسية.
إن الجماعات التي ساعدت على الوصول إلى الانقسام ازادات قوة ونفوذًا بعده، وذلك بعد أن ضمت عناصر جديدة نمت على جدار وجود سلطتين، وما يتفرع عنهما من وزراء وموظفين وأجهزة مدنية وأمنية ومشاريع ومساعدات ومؤسسات هنا وهناك، ما يجعل إمكانية إنهاء الانقسام أصعب، لأن "جماعات مصالح الانقسام" تخشى فقدان مواقعها ونفوذها، أو تراجعها على الأقل. لذلك، نلاحظ بحكم قوة "دعاة الانقسام" أننا نقترب أكثر وأكثر من الاتفاق على نوع من الإدارة للانقسام، ويمكن أن يتحول رويدًا رويدًا إلى اقتسام يصبح إنهاؤه أصعب إذا لم يتبلور مشروع قادر على النهوض بالشعب الفلسطيني مجددًا.
ويضاف إلى ذلك، أن حركة فتح تخشى من أن يؤدي صعود الاتجاهات الإسلامية وفوزها في الانتخابات في العديد من البلدان العربية إلى تقوية خصمها "حماس". فـ"فتح" قادت الشعب الفلسطيني عشرات السنين، ولا تزال تتمتع بالشرعية العربية والدولية، وتهيمن على المنظمة التحرير التي ترتبط باتفاقات مع إسرائيل وتحظى برعاية دولية، لذلك تبحث "فتح" عن مصالحة تضمن استمرار قيادتها للمنظمة والسلطة، وتعيد غزة للشرعية الفلسطينية، ولا مانع لديها من شراكة لا تمس بموقعها التاريخي.
في هذا السياق، أنصح حركة فتح بأن تسارع في إنهاء الانقسام الآن، لأن تحقيقه اليوم، وهي لديها أوراق كثيرة، أفضل من الغد، بعد أن تخسر المزيد من الأوراق، وبعد أن يحصل خصمها على ما يعززه، فعجلة التاريخ لا تعود إلى الوراء، ولا يمكن لأي حركة أن تأخذ زمنها وزمن غيرها، وإن الوقت الذي يمكن فيه لحركة واحدة أن تقود الشعب الفلسطيني قد ولى ولن يعود. وهذه النصيحة نفسها أقدمها إلى حركة حماس، فلا يمكن أن تبدأ من الصفر وتلغي الإنجازات والوقائع الفلسطينية عميقة الجذور في الأرض والتاريخ والثقافة والسياسة التي نرى فروعها ممتدة أينما تواجد الشعب، وتدل على أنه مثله مثل الأرض الفلسطينية تعدديٌ ومتنوع، وأن سقوط اتجاه لم يؤدِ إلى تصفية القضية الفلسطينية، بل إلى صعود اتجاه آخر. لذلك، فالتعددية كانت أهم مصدر لقوة ومناعة الشعب الفلسطيني، وقدرته على إبقاء قضيته حية بالرغم من العواصف العاتية التي كانت يمكن أن تحطم السفينة الفلسطينية منذ زمن بعيد.
إن فشل الإستراتيجيات المعتمدة، سواء إستراتيجية المفاوضات كخيار وحيد أو رئيس، أو إستراتيجية المقاومة المسلحة كخيار وحيد أو رئيس لحل الصراع، يجعل من المستحيل أن تنهض الحركة الوطنية الفلسطينية مجددًا من دون بلورة إستراتيجية جديدة قادرة على البناء على ما تحقق، وتتجاوز الأخطاء والخطايا والثغرات والنواقص وما وصلنا إليه في ظل الاحتلال والانقسام.
ما يمنع الوحدة بالرغم من توفر الفرصة لتحقيقها عدم وجود فصيل قادر لوحده على القيادة من خلال برنامج قادر على تحقيق الأهداف التي لم تتحقق حتى الآن، ففتح تراجعت لكنها لا تزال قوية، وحماس تقدمت وفازت في الانتخابات ولكن من المشكوك به حصولها على أغلبية كبيرة ثابتة ومستقرة، تؤهلها لقيادة الشعب منفردة، ما يجعل الشراكة الحقيقية على أساس أن يحصل كل طرف على ما يستحقه فعلًا هي كلمة السر ومفتاح الخلاص.
وما يمنع الوحدة أيضًا، أن الاعتراف بفشل عملية السلام والمفاوضات لم يصل إلى حد قطع حبل الأوهام حول هذا الطريق، فلا يزال الرهان على إمكانية استئناف المفاوضات قائمًا؛ لذلك يتم ربط المصالحة والتوجه إلى الأمم المتحدة والموقف من السلطة والمقاومة الشعبية بالمفاوضات وفرص التسوية، مع أن التسوية لن تتحقق إلا عندما يتغير الموقف جذريًا من خلال إعطاء الأولوية لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة، وبلورة رؤية قادرة على توحيد الشعب الفلسطيني بكل قواه وفعالياته، داخل الوطن وخارجه، على أساس ميثاق وطني يجسد ركائز المصلحة الوطنية العليا وبرنامج سياسي يجسد القواسم المشتركة.
وبدلًا من حوار وطني شامل يشارك فيه أوسع عدد ممكن من القوى والفعاليات بعيدًا عن القوالب المعتمدة سابقًا من أجل بلورة الإستراتيجية المطلوبة، يتم دعوة "حماس" للأخذ ببرنامج منظمة التحرير بعد تآكله خلال أكثر من عشرين عامًا ماضية وقبول الاتفاقات والالتزامات بالرغم مما انتهى إليه اتفاق أوسلو، وتستجيب حماس رويدًا رويدًا بعد أن علّقت المقاومة، لأنها تريد الحفاظ على السلطة في غزة، والحصول على الشرعية العربية والدولية اللازمة لمد سلطتها إلى الضفة، ما يبقي طريق الخلاص، طريق بلورة إستراتيجية جديدة، مغلقًا، أو إذا أردنا الدقة، شبه مغلق؛ لأن باب الأمل يبقى مفتوحًا، خصوصًا أن الحلول الجزئية والإجرائية والانتظارية والفئوية لا تقدم ما يكفي للخروج من المأزق الذي يعاني منه الجميع.