” إنني أخاف من السيارات، من الكلاب، من الأفاعي، أخاف من الطائرات، والمروحيات، من الدبابات والجنود. أخاف من العمليات الإرهابية. أخاف من اليهود، أخاف من العرب، واخاف أن يضعونا يوماً ما في مخيمات لللاجئين.“ (سيد قشوع، صحيفة هآرتس، 2002) بهذا الإقتباس يبدأ أول مشهد في الفيلم الوثائقي ”خائف إلى الأبد“ (2009) وهو من إخراج الإسرائيلية دوريت تسمباليست (العنوان بالانجليزية يختلف عن العنوان العبري للفيلم وهو ”خائف منذ الطفولة“) ومدته 50 دقيقة تقريباً ويعرض في الكثير من المهرجانات الأوربية هذ العام. يأخذنا الشريط في رحلة إلى عالم الصحفي والكاتب الفلسطيني سيد قشوع الذي اختار لإسباب عدة الكتابة بالعبرية.
أصدر قشوع حتى الآن ثلاثة كتب ” العرب الراقصون“ 2002 ”وليكن صباحاً“ 2005 ” ضمير المتكلم“ 2010. صدرت هذه الكتب بالعبرية وتتحدث عن العلاقة المعقدة بين الفلسطينيين في الداخل ومجتمع الأغلبية الإسرائيلي. وتصدرت كتب قشوع لوائح المبيعات في إسرائيل وهو يكتب عموداً اسبوعياً في جريدة هآرتس كما عمل كناقد وكاتب تلفزيوني.
استغرق العمل على الفيلم سبع سنوات وكانت الفكرة قد ولدت لدى المخرجة، على حد قولها، بعد أحداث هبة أكتوبر عام 2000 التي راح ضحيتها ثلاثة عشر فلسطينياً في الداخل. هذه الأحداث صعقت المجتمع الإسرائيلي، كما عبرت في حينه الكثير من الصحف الإسرائيلية التي رأت أن فلسطينيي الداخل، أو كما يطلق عليهم "عرب إسرائيل"، يقومون بمظاهرات كتلك التي تخرج في الأراضي المحتلة منذ عام ١٩٦٧، الأمر الذي يستهجنه الكثيرون في المجتمع الإسرائيلي. ومن المهم فهم الفيلم في هذا السياق لأن كل ما سيأتي لأحقا سيكون بمثابة محاولة للإجابة على سؤال أساسي: لماذا قام الفلسطينيون في الداخل بهبة أكتوبر؟
تحاول المخرجة الإجابة على هذا السؤال عن طريق تتبع حياة الصحفي والكاتب الفلسطيني الذي اختار أن يكتب بالعبرية كتباً تتحدث بشكل ساخر ولاذع عن المجتمع الفلسطيني في الداخل وتنتقده كما تنتقد أيضاً المجمتع الإسرائيلي. لكن القارىء الذي يتوجه إليه قشوع في الأساس هو الإسرائيلي. والقارىء الافتراضي الذي يتوجه إليه الكاتب يلعب دوراً كبيراً في آفاق القراءة ومعانيها المحتملة ايضاً، لأن ذلك يضع النص أصلاً في سياق معين بغية محاولة فهمه بصورة ما. تحدث قشوع في لقاءات صحفية عدة عن أنه يتمنى أن لا تُقرأ نصوصه وتربط بقوميته ودينه دائماً. وهي أمنية مفهومة إلى حد كبير، ولكن أغلب نصوص قشوع يتحدث عن الحياة الاجتماعية والسياسية لسكان البلاد عرباً ويهوداً. وقشوع لا يعيش على القمر ولا يكتب عن سكان المريخ. أي أن الإقصاء الكامل للسياق السياسي والإجتماعي، بما في ذلك لغة الكتابة، لن يساعد على التفاعل والتعامل مع النص. الكتابة بلغة ”الآخر“، والآخر هنا ليس أي آخر، بل هو ذلك الآخر الذي لا زال يحتل ويسن قوانين عنصرية وهو الآخر المسؤول عن النكبة وتبعاتها وعن أوضاع الفلسطينيين المزرية.
الكتابة بالعبرية في هذا السياق هي سيف ذو حدين. ولا أريد أن أطيل الحديث هنا عن هذا الموضوع لأن له مقام أخر. لكن اختيار قشوع للكتابة بالعبرية نابع دون شك من صعوبة في ترويج الكتب العربية عالمياً ومحلياً. وهذا ما يقوله في تعليق له على سـؤال أحد الصحفيين في هذا الصدد، حيث يتحدث عن حقيقة أن الكتابة بالعبرية تتيح له فرصاً أكثر للنجاح. فالكتابة بالعبرية أو أي لغة أجنبية أخرى هي نافذة أكبر من غيرها للخروج إلى الترجمات العالمية. لكن قشوع، وعلى عكس الأغلبية الفلسطينية في الداخل والتي تدرس في مدارس عربية وضع أغلبها بائس، درس في مدرسة العلوم والفنون في القدس حين كان في الخامسة عشر من عمره. وهي مدرسة معروفة ولغة التدريس فيها العبرية ومعظم تلاميذها من اليهود. ولا شك بأن القبول في هذه المدرسة المرموقة ترك أثراً في حياته وربما كان أحد الأسباب التي تقف وراء اختياره الكتابة بالعبرية. بالإضافة إلى ذلك، قد تكون لدى قشوع رغبة بإيصال كلمته إلى المجتمع الإسرائيلي والتي تُسهلها نظرياً الكتابة الصحفية أو الأدبية باللغة العبرية. لا يخلو هذا التصور، إن صح، من التساذج لأن الرأي العام الإسرائيلي لم يكن ابداً ليستمع لأبنائه عندما كانت لهم آراء مغايرة عن القضية الفلسطينية عامة أو اوضاع الفلسطينيين في الداخل فما بالك إذا جاءت هذه المحاولات من كاتب فلسطيني!
اختارت المخرجة أن تتتبع محطات في حياة قشوع لتجيب بذلك على بعض الأسئلة التي تحير قلوب الإسرائيليين حول الفلسطينيين في الداخل وحياتهم. لكننا لا نرى الحياة في المدن أو القرى العربية في الداخل، كمدينة الطيرة في المثلث على سبيل المثال، وهي مسقط رأس قشوع. خصوصاً أن الأخير يشكو في الفيلم من صعوبة العودة اليها والعيش بها مجدداً بعدما غادرها للدراسة والعيش في القدس. عندما يصور الفيلم محاولة قشوع العودة مع زوجته وإبنته للسكن في الطيرة وشعوره بالإختناق هناك فإننا لا نرى المدينة على حقيقتها. ولا أريد هنا أن اقلل من الضائقة التي من الممكن أن يعيشها أي إنسان مثقف، درس وعاش في إحدى المدن الكبيرة في البلاد، عند محاولته العودة إلى المناطق العربية والتي تتسم في الغالب بكون المجتمعات فيها محافظة إلى حد ما. كما أن الحياة فيها تفتقر إلى الكثير من شروط المدنية من حيث البنى التحتية. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو لماذا وكيف أصبحت الأوضاع في المناطق الفلسطينية في الداخل بهذه الحال المزرية؟ وأين دور الدولة والسياسة في كل ذلك؟ الفيلم لا يجيب على أي أسئلة من هذا النوع، كما أنه لا يظهر هذه الاوضاع أصلاً. حيث لم نر حتى شارعاً واحداً في هذه المدينة. وشوارعها كأغلب القرى والمدن العربية في الداخل مهدمة وقسم لا بأس به من طرقاتها غير معبد. لا نعرف، من الفيلم، بأن المواصلات الحكومية العامة لا تصل تقريباً إلى هذه المدن، بينما تصل إلى القرى والمدن اليهودية المجاورة. لم تدخل المخرجة إلى المدارس ولا إلى الأحياء الفقيرة، لم تتحدث عن البطالة ونسبة الفقر ولا الشعور بالاغتراب. وعندما يذكر الاغتراب، فإنه يأتي في سياق شعور قشوع بالاغتراب داخل مجتمعه ولأن العرب لا يحبونه لأنه ناجح! لا شك بأن هناك سوء فهم لسخرية قشوع التي يستعملها في مقالاته وكتبه ولكن هل هذا كاف لأن ندعي أن العرب يكرهونه لأنه ناجح كما يدعي الفيلم في مواقف عديدة؟
يحاول الفيلم اقناعنا بأن الإسرائيلين لا يحبونه {قشوع} لأنه عربي ويرون أنه سكران طوال الوقت. أما العرب فلا يحبونه لأنه ناجح“. مما لا شك فيه أن قشوع، الإبن الناجح ،لا يتحدث إلى أبناء جلدته بلغتهم، فكل كتاباته بالعبرية في صحيفة نخبوية. لذلك لا أعتقد أن الكثيرين يكترثون أساساً لما يقوله. أضف إلى ذلك أن الكتب الثلاثة التي صدرت لقشوع حتى الآن تتناول الشخصيات العربية بشكل سلبي ونمطي. ولا أرى، شخصياً، وخاصة عند تناول شخصيات معينة في الأدب، أي حرج في إبراز سلبيات مجتمع ما. لكن هذه الطريقة في التناول تصبح مثيرة للجدل عندما لا تتم كتابتها بلغة هؤلاء الذين نتحدث عنهم أو نسخر من اهوائهم. وإلا فما الهدف من هذا التناول؟ ولماذا تبرز فقط شخصيات عربية سلبية ونمطية في كتب تتوجه لمجتمع لا يحتاج الكثير أصلاً لكي يرسخ الآراء المسبقة والعنصرية المتجذرة في ثقافته ومخياله الجمعي.
من المثير أننا لا نسمع صوت المخرجة في الفيلم، فكل التعليقات والإقتباسات إما عن صحف إسرائيلية أو أجنبية تتحدث عن كتابات قشوع أو من مقالات قشوع وكتبه. ومن حق المخرجة ألا تعلق على ما تراه أو تسمعه لكن الأهم هو ما لا نراه نحن في هذا الفيلم والذي يلخص علاقة الكثير ممن يطلق عليهم باليسار الإسرائيلي مع فلسطينيي الداخل.
تظهر حياة قشوع الزوجية وعلاقته بزوجته من خلال الفليم لتؤكد الآراء المسبقة عن الرجل ”الشرقي المثقف والشيزوفريني“. فهذا الرجل الذي يحاول تربية إبنته بصورة واعية ودون عقد المجتمعات المحافظة، يجلس في البيت وزوجته العربية هي التي تقوم بأعمال البيت طوال الوقت. ولا نكاد نسمع صوتها، فهي في الخلفية غالبا ولا نرى أي قرارات تتعلق بمكان السكن وتربية الطفلة تؤخذ وتكون هي شريكة في اتخاذها. والأمر سيان بالنسبة لقرارات تتعلق بما يكتبه قشوع عن علاقته بها والحميمية بينهما. لا نسمع أي كلمة منها عن هذا الموضوع أو نرى أنها امتنعت على الأقل عن الإجابة. كما أن العلاقة بينهما (على الأقل هذا ما يظهر في الفيلم) مبنية على الصمت ومن إقتباسات من كتبه عن هذه العلاقة. وعندما يتبادل قشوع بعض الجمل معها تكون بالعبرية لأن المخرجة لا تعرف العربية ولأن ” قشوع وزوجته كانا من اللطافة بأن يتحدثا بالعبرية مع بعضهما البعض عند وجودي كي أفهم ما يدور دون جهد يذكر!“ هذا ما علقت به المخرجة في إحدى المقابلات الصحفية حول غياب اللغة العربية في حياة قشوع اليومية، وهو الأمر المعاكس للواقع تماماً. وعلينا أن نتذكر أننا هنا نتحدث عن فيلم وثائقي!
وهنا بالذات تبدأ رحلة الغياب في الفيلم والاشكالية الكبرى. فاللغة العربية غائبة، بإستثناء مقطع من ”التراث“ طبعاً تتحدث فيه جدة قشوع عن رأيها بما يدور من جدل حوله. فهي إمرأة بسيطة لا تتقن العبرية تجلس عاكفة على سجادة الصلاة تمثل المجتمع التقليدي الذي يرى الكثير من الإسرائيليين أنه السائد عند العرب. فالجدة نموذج ما كان عليه العرب قبل أن ” تنعم عليهم إسرائيل بالحضارة والتمدن“. في المقابل هناك قشوع الذي استطاع أن يجسد قصة نجاح لمن يريد أن ينجح!
على الرغم من أن الفيلم يوهمنا بأننا نتعرف على هموم العرب عن طريق التعرف على قشوع ومخاوفه وهي مرآة لمخاوف الكثير من الفلسطينيين في الداخل وهو يعبر عنها في الفيلم بجرأة أحياناً، إلا أن التعرف عليها يبقى سطحياً وفي سياق الشرح والتبرير الدائم من قبل قشوع ومحاولاته الدونكشوتية لكي يستمع الاسرائيلييون إليه ويحاولون فهم ما يدور في المجتمع الفلسطيني في الداخل. ويتجلى هذا الشرح الدائم في الكتابات المقتبسة أو من خلال ماراثون المحاضرات التي يلقيها قشوع أمام لفيف من الجمهور الإسرائيلي في المدارس وأمام الجنود وفي قراءات أدبية والأهم فيها هو السخرية.
صحيح أن فن السخرية أداة مهمة يمكن من خلالها التطرق للكثير من النقاط الموجعة أو الحساسة لدى فريق ما ومحاولة إنتقاده وجذب الإنتباه لهذه المشاكل، كالعنصرية وغيرها. لكن أحد اهداف فن السخرية في الأدب هو توليد الرغبة لدى المشاهد( في المسرح والسينما) أو القاريء( في الأدب) في الإبتعاد والتنصل من هذه الشخصيات العنصرية أو المحتلة ومحاولة تغيير الواقع. لكن ما يحدث هنا هو أن سواد الجمهور الإسرائيلي يأتي للضحك على نفسه ولكي يثبت لنفسه مجدداً بأنه قادر على أن يقوم بذلك وأنه قادر على السماح للعربي بأن يسخر منه ومن عنصريته. يلعب قشوع هنا دور المهرج، إذاً، مهرج البلاط. لأن الفيلم ليس عن قشوع بقدر ما هو عن المجتمع الاسرائيلي الذي يحب أن يرى أن ديمقراطيته تسمح لقشوع بأن يدلو بدلوه. فالفيلم الذي يبدأ بإقتباس مثير عن مخاوف قشوع، لا يتطرق لهذه المخاوف ولا لأحوال المجتمع الفلسطيني في الداخل بصورة عميقة، لأن التطرق لها بعمق يعني أن تغرس المخرجة إصبعها في عمق ”الجرح“ الإسرائيلي. فما غاب هنا كان أكثر بلاغة مما حضر وظهر على الشاشة.