يبدو أنه سيحقق وقتاً جيداً اليوم. الميل الأول انتهى. ٥ دقائق. يعدو ويعدو ويعدو. تنطلق أفكاره. يفكر أنه فعلاً محظوظ ليتم اختياره للمشاركة بالسباق. يفكر أن صحته تتحسن، ونفسيته تتحسن. يفكر أن هذا كله لن يعني شيئاً بعد بضعة أشهر. ينظر مرة أخرى إلى الساعة. حان وقت الغيار الثاني. الغيار الثاني صار أسهل. أصبح أكثر قدرة على السيطرة على جسده. في البداية كان يشعر أن جسده عدوه. أنه في معركة دائمة معه. أن جسده يخذله في أي فرصة تسنح له. أما الآن فجسده قطع خط الحصار وأصبح حليفه. كأنهما رفيقان في تنظيم، يتعاونان ويساعدان بعضهما، لأن مصيرهما واحد وفائدتهما واحدة. وهكذا، العداء وجسده تابعا العدو. (ولكن مهلاً، في هذه الحالة بالذات، العداء وجسده لهما مصالح تقع في أمكنة مختلفة تماماً). أعلم، أعلم، ولكني أحاول أن أروي قصة. تمهل قليلاً.
إذن، العداء يركض. هو وحيد. يصغي لألحان أنفاسه فوق وقع أقدامه. قطرات العرق ترسم بقعة على صدره. حياته قبل هذه الفرصة لم تكن تمنحه الكثير. أما الآن فالمجد والشهرة أمامه. أن يعمل شيئاً أمامه. أن ينفس عن غضبه أمامه.
سرح باله وهو في الميل الثاني وأخذ يتخيل ملصقاً يحمل صورته على حائط غرفة مراهق. هو لا يرغب في هذا، ولكن إن كان النجاح حليفه فهو حاصل لا محالة. أي صورة سيستخدمون يا ترى؟ هو لا يذكر آخر مرة تصور فيها. ولكنهم حتماً سيجدون صورة. إنهم دوماً يفعلون. ترى هل تكون صورة من أيام الوجه المرهق الملئ بالبثور أم وجهه الآن؟ تقفز أمامه سيارة من شارع فرعي، يتفادها وتنقطع سلسلة أفكاره. هو الآن في الغيار الثاني، وقت أحد الغيارات العليا. يزيد من سرعته ويثبتها. يمر من أمام فتاة جميلة. ترمقه بنظرة وبقايا ابتسامة. هذا لم يحدث من قبل. يبتسم. تزداد سرعته دون أن يشعر.
يوم السباق سيكون حافلاً. مليئاً بالحركات الأخيرة. سيكون وزنه أثقل قليلاً مما هو الآن ولذا سيعاني وقته بعض الشيء. سيلبس رقماً وشعارات شركات تدعمه. سيتحول إلى لوحة إعلانات متنقلة متكلمة وغاضبة. تقول من أين يأتي الغضب؟ وهل يجب أن يأتي من مكان ما؟ ألا يولد الإنسان غاضباً؟ عذراً أنا أنحرف عن الموضوع. نعم. سيكون يوماً حافلاً وسيكون هناك العديد من المتسابقين. العداء عليه أن يكون ضمن الثلاثة الأوائل ليتأهل للسباق القومي وتتم دعوته إلى منصة التتويج حيث يصافحه وزير الشباب. ينظر إلى ساعته ويجدها تقول ٨ دقائق. يجب عليه أن ينهي تحت ٣١.٥ دقيقة يوم السباق. يجب عليه أن يتأهل. يجب عليه أن ينجح. يجب عليه أن يفوز. العديد يعولون عليه لذلك. ولكن أين هم هؤلاء؟ يمر من أمام مجموعة رجال يجلسون على باب مقهى. أحدهم يحمل بربيش الأرجيلة في يد وسيجارة في يد أخرى. يخيم الصمت عليهم وتتابعه نظراتهم. وجودهم يشعره بالسخف في ملابس الركض. الشورت قصير جداً وواسع بحيث يظهر ملابسه الداخلية، والبلوزة تظهر ما عنده من شعر على ظهره.
السباق ما زال بعيداً، حوالي ٤ أشهر. ٤ أشهر من ٢٤ عاماً. ٤ أشهر من ٢٨٨ شهراً. أصبحت نهاية الأشهر الأربعة ليست بذاك البعد. ١٠ دقائق ونصف. ترى هل سيظهر له أعضاء الإدارة أثناء تمارين التبريد عند انتهائه كما حصل الأسبوع السابق؟ أراد الإداريون أن يتأكدوا من عزمه وجديته. عدم ضعفه يوم السباق. جاوبهم بأن السباق أهم بكثير له مما هو لهم. من هم ليجرؤوا على التشكيك بقوة إرادته؟ على الأغلب أن الأوغاد قد استبقوا هذا من معرفتهم أنه كان بلا عمل طوال السنتين السابقتين. ولكن هؤلاء الأوغاد، والأوغاد الآتون من بعدهم، لا يعلمون القصة وراء القصة. هم فقط يحكمون. وكثرة الأوغاد هي كل المصداقية التي يحتاجون إليها.
يقترب من نهاية الميل الثالث. كل متسابق يحصل على دعم للسباق، ويتحول للوحة إعلان متحركة. بفضل تحركات رئيس مجلس الإدارة المذكور أعلاه وحنكته تم الحصول على دعم للعدّاء بمبلغ كبير من كاتر بيلار. شعار الشركة كبير وذو خط أسود عريض، وهو مثالي لتخبئة الحزام الناسف تحته. يقلل من سرعته ليوزع مجهوده. هدف العملية هو وزير الشباب. سيعتلي العداء المنصة ويقترب منه الوزير. على الأغلب سيكون في المركز الثالث ولذا سيكون أول من يتوج. سينحني ليتمكن الوزير من وضع الميدالية حول عنقه، وعندها سيقفز عليه العداء. سيضمه بأقصى ما يملك من قوة. يجب عليه أن يضمه كأنه يحبه حباً جماً. فحزامه الناسف صغير وانفجاره متواضع. أكثر ما يأمل له الفريق هو قتل الوزير، وإن ابتسم لهم الحظ، إصابة بليغة للرياضيين على المنصة. وهكذا (وجواباً على سؤالك السابق) فكل رشاقة العداء التي يكتسبها هي هزيمة لذاتها. كل بناء عضلات ولياقة ومرونة لن يطيل عمره أو يحسن صحته، بل سيفتته لقطع صغيرة.
الطقس جميل اليوم ومناسب للركض. ينظر إلى شجرة زيتون عمرها مئات السنين ويشعر بالغيرة. لم تنزح الشجرة، ولم تغير لونها، ولم تتمزق جذورها. ولكنها بقيت وحيدة، فكل ما حولها اقتلع. يحافظ على سرعته متواضعة. لم تُركت الشجرة؟ ربما كشاهد على جريمة؟ أو لإرسال رسالة معينة؟ أم هي كانت فقط أكثر حظاً من أخواتها، أم أسوأ حظاً؟ يمسح المزيد من العرق عن جبينه. رباط الرأس امتلأ بالعرق وفاض. يفكر مبتسماً. هل سينزعج الوزير من عرق العداء على بدلته؟
بقي أمامه الميل الأخير. يركب الغيار الرابع وينطلق. يحس بالريح في شعره ويشعر بالنشوة. أي تحسين في الوقت له معنى يمكن تعزيزه الآن. ولكنه تَعب. الخطوات أصبحت أثقل والثواني تطول والنفس غير مشبع الآن. يثابر. يتذكر أن ما سيفرقه عن غيره يوم السباق هو احتمال الألم. وهذا لن يجد فيه منافسة جادة. يزيد من سرعته رغماً عن جسده. يتذكر قول أحدهم “الخيل الأصيلة بتشد بالآخر". “كس أختك أنت وأصالتك" أخذ يفكر. ما علاقته هو بالخيل، وكيف لا يكون الخيل أصيلاً؟ هل يكون أصيلاً بانتمائه للصحراء؟ إذا كان هذا صحيحاً، فلم تغلب عليه خيل الجبال والمروج الخضراء؟ بغض النظر، الخيول حيوانات غبية. ما زال يعدو سريعاً. وقته جيد.
ترى كيف يكون آخر يوم؟ كيف تكون آخر ليلة؟ آخر وجبة؟ أسيأخذ وقتاً أكثر وهو ينظف أسنانه لأنه يعلم أنها المرة الأخيرة؟ هل سيصغي لصوت أخيه الصغير بانتباه أكثر؟ ماذا عن آخر لقمة، وآخر رشفة قهوة؟ يمسح العرق عن وجهه. هل سيستيقظ باكراً ليرى آخر فجر؟ هل سيجلس في المرحاض ويتأمل تفاصيل في حمام بيته – الذي عاش فيه منذ ولد – لم يرها من قبل؟ وصل إلى نهاية مسافة السباق. أوقف الساعة، وتحول من الركض إلى المشي السريع. بعد دقيقتين بدأ تمارين التبريد. شد ساقه وانحنى ليلمس طرف حذائه، عدّ ١٥ ثانية ثم شدّ ساقه الأخرى. وقته اليوم ٢٩.٤٣ دقيقة. جيد جداً. هو أقوى وأسرع مما كان قبل شهرين ويحس بسيطرة تامة على جسده. يود أن يحقق وقتاً تحت الثماني وعشرين دقيقة يوماً ما. هذا أقل مما يحتاجه لتنفيذ العملية. ولكن لا يهم. هو يرغب بهذا لنفسه. نوع من التحدي الشخصي. والسباق على بُعد أشهر. ولذا، فهو سوف يحاول.