استمعت مؤخراً لأغنية شمس الحرية لـ“ألتراس وايت نايتس“. الحقيقة أنني عندما استمعت لأغنية الألتراس لأول مرة، صعقت وانفعلت. وأدركت من اللحظة الأولى أنني لست أمام أغنية أخرى فحسب بل إنني أمام تجربة مؤثرة. وما لفت إنتباهي وميز الغناء والأداء هو التالي:
• الغناء في كورس: أتخيلهم يضعون أيديهم على كتف بعضهم البعض، وهم يقفزون أعلى وأسفل أثناء المشاركة في الغناء، كما هو الحال بالإستاد.
• الدف الحماسي: المصاحب للأغنية من البداية إلى نهاية، وهو عنصر أساسي من عناصر التشجيع الكروي.
• اللغة الأصيلة: "ولع فلام يمحي الظلام".
• عدم تكرار الأبيات: دليل على عقلية ترى أنه لا فائدة من التكرار، السمة التي تميز الغناء الإستهلاكي، ودليل على غنى المضمون، الذي تشعر وكأنه من الممكن أن يسترسل طويلاً محافظاً على هيكله وتنوع رسائله دون أن يُستهلك.
• الشعارات العبقرية: عن ثقافة المقاومة والتحرر من القيود والتفاني في الفداء.
• إيقاع سريع ومتحرك.
السمات العامة المتأصلة في اغنية الألتراس من شعارات تجسد تفاني فوق طبيعي (1)، وهو نابع من أصل كلمة ألتراس اليوناني، ويعني ما فوق الطبيعة. إضافة إلى سمات أخرى متأصلة وهي الإيقاع الحماسي الذي يتسم بالاستمتاع في الأداء والهتافات التي تجسد لأفكار المقاومة (2) والأبيات الصغيرة المتقطعة التي يسهل حفظها والقاؤها في مجاميع. كما تتميز الأغنية بتلقائية الأسلوب وغيرها من السمات وجميعها سمات تعبر بشكل واضح عن طبيعة تكوين الألتراس وافكاره.
[شريط لأغنية شمس الحرية.]
[أغنية غالي لـ“ألتراس وايت نايتس“]
وما يهمني بشكل خاص هو هذا المنتج الفني الذي ينشأ من تنظيم بهذا الشكل، ومدى إخلاص مادته الفنية إلى أفكاره وطبيعة تكوينه الإجتماعي؟ كل السمات السابقة وغيرها تعبر عن منتهى الصدق وعن جمع المؤلف بين أسلوب حياته والعمل الفني الذي ينتجه. إن ابسط وأوضح الروابط التي تجعل من الألتراس حركة ترتبط بصورة ضرورية بالثورة هي:
• مقاومتهم لجهاز الشرطة القمعي وتعرضهم لظلمه وخبرتهم في التعامل معه.
• التكوين الإجتماعي لأفرادها الذي يتألف من شباب في مقتبل العمر، قلت فرصه في قيادة حياة كريمة، وضاق اهتمامه حتى أصبحت الكرة شاغله الأشغل وهو يعي ذلك.
• هيكلهم التنظيمي الأفقي والمستقل عن المؤسسات الإقتصادية أو السياسية التي قد تؤثر في أرائهم وتوجهاتهم.
• الضرر الذي لحق بهم من قبل جهاز الإعلام الموجه الذي يتعمد تشويه صورتهم لتحقيق مصالح الطبقة الحاكمة.
هكذا تعبر أغنية الألتراس "شمس الحرية"، كما عبرت أغاني لهم قبلها بشكل أقل تطوراً، عن تكوين إجتماعي اتسقت افكاره وممارساته مع إنتاجه الفني حتى أصبح من السهل استنباط الأصول التعبيرية التي يستخدمها وتعود إلى طبيعة حياتهم - مع الحفاظ على قوة التعبير. منتج فني كهذا، ذهب في عقلانيته وصدقه وضرورية محتواه إلى أن أصبح إنتاجه معبراً عن احتياجاته، ومن ثم مخرجاً ملائماً لقدراته الإبداعية. منتج فني كهذا، في إخلاصه لـ"أسلوب حياة" مؤديه، هو عمل أصلي جداً يندر وجوده في المجتمع المصري. نحن بالتأكيد أمام ظاهرة شعبية أصيلة.
هذه ظاهرة، أبحث عنها كباحث معماري مهتم بالنظم المعمارية التي تنشأ بشكل شعبي وافقي، ولا اجدها كثيراً. وإن وجدت، فلن نجدها بهذا الحجم والتطور.
إن التكوين الإجتماعي لجماعات الألتراس كثيراً ما يستخدم كتهمة تلقى ضدهم للحط من شأن مشاركتهم بالثورة المصرية أو وجودهم في العموم. وبرأيي فإن هذا التكوين بالذات هو المثير في هذه الظاهرة. قد يكون فردا من الألتراس همجياً أو غير واع بشكل يليق بمستوى هذه الأغنية. وبرأيي فإن المؤسسات هي التي تنتج وتشكل الوعي وليس الأفراد هم من يشكلون المؤسسات. وها هي مؤسسة الألتراس تعلن في أغنية تمثلها عن مبادئ شعبية راقية جداً، يتشكل بها أفرادها، وهم من أنتجوها من خلال مؤسستهم التي تتشكل منهم. وعم مرور الوقت، يفرزون اجيالاً وفنون وممارسات اكثر تعقيداً و تنوعاً لتثري الساحة المصرية، الفنية والثورية وغيرها. و قد يمتد تأثيرها لساحات أخرى في المستقبل قد لا تربطها بها علاقة مباشرة.لا أستبعد، ولا أتخيل غير ذلك، ان تكون ساحة العمارة من بينها.
وما عمارة القاهرة الجديدة إلا تعبير عن حالة مجتمع فقد توازنه الثقافي وحسه الفني وتخلف في إنتاجه وزادت الفروق بين طبقاته. ما عمارة القاهرة الجديدة إلا ترجمة ونتاج لفشل سياسات التخطيط والعمران في العقود الماضية.
كلمات أغنية الألتراس تعبر عن مضمون يفوق مجرد الإهتمام بلعبة كرة (3). كلمات تربط مباراة كرة بمصير الوطن، والقدرة والإستعداد للفداء من أجل غاية أسمى، والمقاومة الصامدة ضد الظلم والفساد. أغنية كهذه تعدت في كلماتها الإهتمامات الخاصة لكي تعبر عن إهتمامات مشتركة للوطن، حتى تكاد تكون صالحة لأن تصبح نشيداً وطنياً للثورة بإستثناء بعض المقاطع.
إن الألتراس ومنتجهم الفني الذي عبر بإخلاص وصدق عن ثقافتهم وأسلوب حياتهم ظاهرة مجتمعية ناشئة وغنية جداً تنذر بتأثير ثقافي هام ومباشر ولد من رحم حركة شعبية أصيلة من شأنها، ومن أولى إهتمامنا، أن نتابع عن قرب كيف تتوغل وتعمل على إثراء النسيج الثقافي المصري المعاصر، وأن نستنبط منها دروساً من الممكن ترجمتها في نواحي شتى من إنتاجنا الفني والتطبيقي.
هوامش:
(1) "فارس عايش للنضال"
(2) "فارس عقليته مقاومة و حياته الصمود"
(3) "الكورة حياتي لكن لبلادي اموت"
مصادر إعتمد عليها المقال: