يرى البعض أن العنصر الذي حسم مسألة إسقاط مبارك وإجباره على التخلي عن الحكم هو اندفاع الجماهير الشعبية مدفوعة بضيق العيش ومصاعب إجتماعية شتى في مظاهرات مليونية، ومواجهات عنيفة مع قوات الشرطة ، أدت إلى فقدان النظام الحاكم جزءً كبيراً من اتزانه، وبالتالي اضطرار الطبقة الحاكمة إلى التخلي عن مبارك بوصفه أحد وكلائها. ولا يرى هذا الإتجاه أهمية لمسألة التنظيم، سواء أخذ شكل الحزب أو الحركة أو غيرها من الأشكال التنظيمية المتعارف عليها. بل أنه يرى فيها أحياناً معطلاً للعملية الثورية، وعائقاً أمام عفوية الجماهير القادرة وحدها على إسقاط النظام .
فى حين يرى البعض الآخر أن النضال الذى خاضته بعض المجموعات السياسية والتنظيمات والجبهات المطالبة بالديمقراطية والمدونين وغيرهم ضد نظام مبارك على مدار العقد الأخير هو الذى حسم مسألة إسقاط رأس النظام بما أدى إليه من ازدياد الوعي بضرورة التغيير كحل أساسي للأزمات التي يُعانى منها المصريون ، وبالتالي اتساع دائرة الرافضين لاستمرار مبارك في الحكم وصولاً لذُروة هذه العملية في 25 يناير وما بعده .
أحياناً يتم طرح هذين التصورين في مواجهة بعضهما البعض، بين من يرون في القوى والمجموعات السياسية المنظمة كيانات انتهازية تسعى فقط للركوب على حركة الجماهير من أجل تحقيق أهداف ذاتية، ومن يرون في اندفاع الحركة الجماهيرية وعفويتها خطراً قد يهدد بالفوضى إذا لم يتم ضبطه والسيطرة عليه وفق أهداف سياسية واضحة، وكلا التصورين يعتوره الكثير من القصور .
فعملية تحول الجماهير من نقطة الثبات والرضا بالواقع الظالم الذي تعيشه إلى نقطة التمرد والانقلاب عليه، ثم العودة ثانية إلى النقطة الأولى بعد الحصول على بعض المكتسبات أو الانتصار الشامل أو الهزيمة الشاملة لا تحدث بشكل قدري، بل هى نتاج لتطورات عسيرة. منها ما يتعلق بطبيعة القوى المنظمة في المجتمع، وتلاقي رسالة بعض هذه القوى مع أحلام وطموحات الجموع الغفيرة أو على الأقل قطاعات منها. ومنها ما يتعلق بجهاز الدولة ذاته في لحظة معينة، ومدى استعداد الحركة الثورية للاستيلاء عليه وتجفيف منابع قوة النظام، وغيرها الكثير من الأطراف في هذه المعادلة التى لا يصح أن نتعامل معها كما لو أننا نتعامل مع معادلات الكيمياء.
فالجماهير الغفيرة ليست شيئاً واحداً، مثلما هو الحال أيضاً بالنسبة للقوى السياسية المنظمة. بل إن هذه الجماهير تنقسم إلى طبقات وهذا لا يعني أيضاً أن مصالح كل طبقة من هذه الطبقات واحدة. بل داخل كل طبقة منها شرائح مختلفة ومتصارعة وهو ما ينعكس على وعيها وثقافتها، ومن ثم استعدادها للثورة على النظام ومواجهة آلة قمعه. على سبيل المثال فإن العام السابق لبداية الثورة (عام 2010) شهد موجة عارمة من الإضرابات العمالية التى رفعت مطالب اقتصادية في مواجهة سياسات السوق الحر، التى أدت إلى إنهيار مستوى معيشة الملايين من العمال. إلا أن هؤلاء العمال الذين خاضوا تلك الإضرابات لم يشاركوا بنفس القوة والتنظيم في مليونيات يناير 2011 التى أسقطت مبارك. كما لم يشاركوا في كل الاعتصامات منذ يناير وحتى مظاهرات مذبحة بورسعيد. وهذا لا يعنى أنهم كانوا ضد الثورة، أو أن الثورة وما رفعته من شعارات لم تكن تعبر عن مطالبهم وطموحاتهم، بقدر ما يعني ضعف الصلة والتفاعل بين هذه القطاعات العمالية وبين المجموعات السياسية أو ( الشبابية ) سمها كما تشاء، والتى أطلقت مبادرة 25 يناير أو تلك التى حملت الراية في النضالات اللاحقة.
الأمر ذاته ينطبق على القوى السياسية التى شاركت في بداية الثورة ووقفت خلف متاريسها، فمن أقصاها يساراً وثورية إلى أكثرها محافظة وإصلاحية من القوى التي شاركت في معارك الثورة الحاسمة مثل جمعة الغضب 28 يناير ومعركة الجمل 2 فبراير. إلا أن الأمر لم يتوقف هنا، بل جاء اليوم الذى رفع فيه البعض الأحذية في وجه منصة الأخوان المسلمين وهو يوم 25 يناير 2012 إحتجاجاً على اختيارهم المهادنة مع السطة الحالية ومحاولتهم جعل ذلك اليوم يوماً احتفالياً بمرور عام على الثورة في ميدان التحرير، وهو الميدان الذى شهد قبلها بعام واحد بالتمام والكمال الأخوان والشيوعيين والليبراليين والناصريين وغيرهم ملتفين "بالجماهير الغفيرة" وهم يهتفون جميعاً "الشعب يريد إسقاط النظام"!
ومن الشواهد الأكثر وضوحاً في هذا السياق، الاعتصامات التى تلت إسقاط مبارك. فمثلاً إعتصام 8 يوليو الذى بدأ بمليونية طالبت بالإسراع في محاكمات قتلة الشهداء، واستمر عدة أسابيع محافظاً على قوته، إلا أن الإحباط والإنهاك أصاب المعتصمين في النهاية فبدأوا بترك الميدان يوماً تلو الآخر. ثم قررت بعض المجموعات الانسحاب، وقرر البعض الآخر الاستمرار حتى تم فض الاعتصام بالقوة . وخلال الاعتصام ذاته لم تنجح المجموعات، سواء الراديكالية أو الإصلاحية، في تطوير الاعتصام وتقويته إلى مرحلة يستطيع معها انتزاع مطالب حقيقية تؤدي إلى زيادة ثقة القطاعات الأوسع من "الجماهير الغفيرة" في آليات النضال التى تشبه التظاهر والاعتصام وغيرها. بل إن هذه المجموعات، خاصة تلك التى قبضت على جمر هذا الاعتصام حتى آخر لحظة، غرقت في تفاصيل مواجهة المخبرين وعملاء الأمن وتأمين الاعتصام وإعاشة المعتصمين وهو ما أعاقها عن تحويل هذا الاعتصام إلى قوة ضاربة في حائط ديكتاتورية العسكر، وهو ما تكرر في أحداث محمد محمود ومجلس الوزراء ومذبحة بورسعيد، حيث تبدأ المظاهرات أو الاعتصامات قوية جداً ثم تضعف بالتدريج داخل الميدان الذى لا يسمح لأحد بالسيطرة عليه أو قيادته. وعلى الرغم من كون هذا أحد نقاط قوة ميدان التحرير الذى يرفض السلطوية، إلا أنه في ذات الوقت نقطة ضعف يتسلل من خلالها العسكر وحلفاؤهم في كل مرة لإفشال الفاعلية وتصفيتها تدريجياً من خلال الضغط الإعلامى ودس عناصر مخربة واستقطاب بعض المجموعات والشخصيات المهادنة لمائدة التفاوض التى لم تنتج يوماً شيئاً مفيداً، إلى أن تتبخر طاقة المقاتلين الذين يعودون في نهاية المطاف لبيوتهم لأخذ استراحة المحارب والاستعداد لجولة جديدة .
ما سبق يوضح أن الأزمة ليست في العفوية وحدها أو في التنظيم وحده، بل في الإثنين معاً، وتحديداً في نوع العفوية ونوع التنظيم. فليست كل التنظيمات أو الأحزاب أو المجموعات ثورية بطبيعتها، بل أن أغلبها وأقواها هو في واقع الحال إصلاحي ومهادن، يرى في اندفاع الحركة الجماهيرية وسيلة جيدة وسهلة لكسر الجناح الأقوى في النظام ليس بهدف إحداث التغيير الذي تطمح إليه هذه الجماهير، وإنما بهدف الحلول محل هذا الجناح، وهو ما يضع هذا النوع من التنظيمات في مرحلة معينة في موقع معاد لحالة الانتفاض والثورة، والدعوة للهدوء حتى يستقر لها المقام، ويبدأ ذلك بترك التنظيمات والمجموعات الأضعف والأكثر راديكالية (رفاق الأمس) تناضل وحدها ضد النظام، وتحاول وحدها تعبئة الجماهير العفوية، ثم يتطور الأمر لمهاجمتها إعلامياً، وينتهي الأمر بمواجهتها بالقوة إذا تطلب الأمر، مثلما حدث مع مسيرة الثوار التى توجهت لمجلس الشعب يوم 31 يناير وفوجئت بشباب الإخوان يمنعون تقدمها ووصولها إلى المجلس .
وليس الفارق بين الثوريين والمهادنين فى شرف أولئك وانتهازية هؤلاء، بل الأهم هو في قدرة هؤلاء الإصلاحيين المهادنين على حشد وتعبئة مئات الآلاف للنزول للشارع حين يتطلب الأمر ذلك. في حين لا يستطيع الثوريون فعل ذات الأمر إلا عندما تقرر "الجماهير الغفيرة العفوية" النزول لسبب أو لآخر. وفى هذه الحالة لا يكون للثوريين أى نوع من التأثير على حركتها، التى غالباً ما تنتهى بتقديم النظام لبعض التنازلات التى لا تغير واقع الحال البائس، ويظل هو محتفظاً بالسلطة وأدواتها .
لا يكمن حل هذه المعضلة في قيام الثوريين بحقن هذه الجماهير بأفكارهم الثورية المجردة، أو في حملات التوعية المبتذلة، التي ترى في سكون الشعب ورفضه الاستجابة لدعوات التظاهر والاعتصام نوعاً من أنواع الجهل الذى يحتاج إلى دورات لمحو أميته السياسية. كما لا يكمن الحل أيضاً فى الكفر بكل أنواع التنظيم ورفضها، وتمجيد المارد العفوى وحده دون غيره، فحقاً خرج هذا المارد مراراً دون أي توجيه، ووجه ضربات عنيفة لوحش السلطة الكاسر، إلا أنه لم ينتصر، فقط كما قلت في بداية المقال. لقد أفقد هذا الوحش إتزانه فقط.
إن الحل ببساطة يكمن في ضرورة أن ترتبط هذه المجموعات الثورية بكل النضالات الجزئية العفوية التي يخوضها العمال والطلاب وسكان الأحياء الفقيرة وغيرهم، حتى وإن لم ترق مطالب هذه القطاعات إلى سقف الثوريين السياسي المرتفع بطبيعته. ولنا في تجربة اللجان الشعبية خير دليل، عندما قررت الجماهير العفوية تشكيل لجان شعبية للتصدي لبلطجية النظام الذي أراد نشر الرعب في شوارع مصر في محاولة أخيرة لإنقاذ مبارك. وهي التجربة التى كشفت عن استعداد هذه الجماهير لاستبدال إحدى مؤسسات الدولة الهامة وهى مؤسسة الشرطة، بمؤسسة شعبية قائمة على التعاون بين الناس وتبادل الأفراد لدوريات الحراسة في الشوارع والميادين. إلا أن ذات اللجان الشعبية هي من كانت تقوم بالقبض على أي أجنبي أو أي ناشط سياسي لمجرد أنه يتمتع بمظهر لا يبدو مألوفاً لأبناء الأحياء الشعبية، والسبب في ذلك التناقض هو انعدام التواصل بين المجموعات الثورية والراديكالية وبين هؤلاء الناس، مما أدى إلى تفكك أغلب هذه اللجان بعد مرور العاصفة التي أطاحت بمبارك .
هذا التواصل الذي نتحدث عنه في هذا المقام يجب أن يبنى من خلال كل الوسائل الممكنة، بداية من الصحافة الشعبية التي يجب أن يرى فيها الناس تدويناً لواقع حياتهم اليومية، وتعبيراً عن أحلامهم، مروراً بالارتباط بنضالهم من أجل تحقيق مطالبهم البسيطة، ومشاركتهم الفنون التى يفضلونها والتى يعتبرها بعضنا إسفافاً، وغيرها الكثير والكثير من الطرق . هذا التفاعل فقط هو ما يمكن أن يجعل هذه الملايين الشعبية تلتف حول هؤلاء الثوريين الحالمين بعالم جديد، ليطلقوا معاً طاقة الثورة التي تستطيع أن تكنس هذا العفن القديم .
[نشر هذا المقال بالتعاون مع موقع "ايجيبت اندبندنت".]