يحذرنا هؤلاء بعلو الصوت: مالم تتوقف الاعتصامات والاحتجاجات "التي تأخذ شرعيتها من معتصمي التحرير"، فإنه الدمار الاقتصادي الكامل: ستتوقف المصانع والأعمال ولن يتلقى العمال والموظفون أجورهم وستصير كارثة. ويعمل هذا التحذير-التهديد، الذي صرنا نسمع صيغا متعددة منه من سياسيين ورجال أعمال وإعلاميين من أنصار "تقديس الاستقرار" أيا كان، عمله على مستويين: الأول إثارة حالة من الذعر بين المواطنين فيما يخص توفر السلع الغذائية على وجه الخصوص، ومن ثم خلق مركز ثقل سياسي يرفض الاحتجاجات الاجتماعية كعمل "تخريبي للاقتصاد". أما المستوى الثاني وهو الأهم، فهو وأد مطلب أساسي للثورة هو :العدالة الاجتماعية، وهو مطلب تنفر منه مصالح وأرباح كثيرين.
والأكيد أن فزاعة انهيار الاقتصاد ليست إلا مناورة سياسية. إذ أننا نمر بواحدة من تلك اللحظات في تاريخ الشعوب التي تصطف فيها الفئات والطبقات الاجتماعية وراء متاريس مصالحها المتناقضة، مستخدمة في ذلك كل الأدوات وعلى رأسها الدعاية، وفي هذه الحالة دعاية تقوم على خرافات ومبالغات جامحة.
"نحن نأكل من لحمنا الحي"، هكذا كان رئيس الوزراء المقال أحمد شفيق يصرخ في البرنامج التليفزيوني ليلة الإطاحة به –ليلة الأربعاء الماضي-، محذرا من أزمة في السلع الأساسية خلال "شهر أو شهرين". وغني عن البيان أن هذا التقدير "المسيس"، يتناقض مع تقديرات هيئة السلع التموينية ووزيرة التجارة في حكومة شفيق نفسه، قبلها بأسابيع قليلة. إذ أكدت لنا الوزيرة سميحة فوزي وبالأرقام أن مخزون القمح لدى مصر يكفي 3 أشهر ترتفع إلى 6 أشهر بالتسليمات التي تعاقدت عليها مصر بالفعل والتي تصلنا ابتداء من مايو. ولم تنس الوزيرة، ومن بعدها الهيئة، أن تشير إلى توافر كميات هائلة من السكر وكافية من الزيوت وغيرها تكفينا لأشهر. وما الذي يمنع الحكومة من تأمين هذه الاحتياجات في المستقبل؟ (وأغلبها في كل الأحوال، وبفضل الاستقرار الاقتصادي ما قبل الثورة، نستورده من الخارج).
أما عن توقف المصانع عن العمل فلا توجد إحصاءات رسمية أو حتى موثقة عن ذلك، لكنني سأفترض أنها ظاهرة تهدد إمداد الأسواق بالسلع، فالسؤال هو: من المسئول عن ذلك؟ فمعلوماتي أن النسبة الكاسحة من الاحتجاجات الاجتماعية، التي شهدتها مصر مع ثورة يناير، تمت في منشآت أو مصانع أو شركات حكومية أو مملوكة للدولة. وفي الحالات التي استجابت فيها الإدارة كما حدث مع عمال المحلة بإقالة المفوض الفاسد المعادي للعمال (وياله من مطلب فئوي جشع فعلا)، عاد العمال للعمل واشتغلت الماكينات. إذاً المشكلة الحقيقية قد لا تكون في الاحتجاج ذاته، ولا في الوضع الأمني كظاهرة عامة، وإلا كيف تعمل مصانع الدولة دون مشاكل. المشكلة هنا إن وجدت هي فيمن يتخذ قرار الإغلاق وإيقاف العمل وأسبابه في ذلك.
في الثورة الأرجنتينية التي بدأت في ديسمبر 2001، وأطاحت بحفنة من رؤساء الجمهورية خلال أشهر، (إذ لا فرصة في الثورة لمن يظهر بوضوح أنه يعمل ضدها، والجماهير تعرف من معها ومن ضدها سريعا)، كان المفجر أزمة اقتصادية طاحنة أنهت سنوات من السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي تعلي شأن الاقتصاد، بمعنى مصالح القلة من أصحاب الأعمال على الناس. وكان من نتائج هذه الأزمة تجميد الحسابات البنكية للمواطنين، بينما أغلق العديد من رجال الأعمال مصانعهم بفعل الأزمة الاقتصادية. في هذه الحالة كان المتسبب في غلق المصانع والفوضى الاقتصادية هو أزمة رأسمالية وفي أرباح أصحاب الأعمال وكان على الجماهير أن تدفع الثمن. لكن ثورة الأرجنتينيين ابتدعت أسلوبها الخاص بحركة شعبية ضمت عشرات الآلاف من العمال بإعادة فتح المصانع رغما عن أصحابها (بأحكام قضائية)، وإدارة العمل فيها ذاتيا لإمداد الأسواق باحتياجات الناس.
إيقاف المصانع بقرار من أصحابها هو إجراء سياسي كلاسيكي في الثورات عندما يرى بعض هؤلاء أنها تهديد لمصالحهم، كما حدث في تشيلي في 1973 عندما كان رجال الأعمال والجيش والمخابرات الأمريكية صفا واحدا ضد الرئيس المنتخب شعبيا سلفادور ألليندي، الذي سقط بفعل حصار فرضته شركات النقل على العاصمة، منع عنها السلع الغذائية، مهد لانقلاب عسكري سافر.
برغم أن ارتفاع الأسعار هو من موروثات النظام القديم بامتياز، يستخدم أنصار العودة للمنازل هذه الفكرة للتأكيد على أن هناك كلفة هائلة للاستمرار في الثورة. والحقيقة أنه إذا أسقطنا خرافة الندرة فإن ما يتبقى من فكرة خطر التضخم وارتفاع الأسعار هو داع أكبر لاستمرار الثورة.
فالسبب الأول المحتمل لارتفاع الأسعار هو السوق العالمية. وقد ارتفع مؤشر منظمة الفاو لأسعار السلع الغذائية في فبراير لأعلى مستوياته منذ إطلاقه عام 1990. هذه حقيقة ستؤثر على الأسعار المحلية بلا شك، خاصة وأننا نستورد أغلب غذائنا من الخارج. لكن إجراءات ديمقراطية قانونية ضد احتكارات الاستيراد، التي تسمح بارتفاع الأسعار المحلية مع العالمية ولا تسمح بانخفاضها حين تنخفض، ستؤدي إلى تخفيف أثر هذا التضخم المستورد. هذا بالإضافة إلى الاحتكارات الداخلية في الأسواق التي تمتد من الحديد والأسمنت إلى الألبان وغيرها.
تحتل فكرة انهيار البورصة المحتمل بسبب الثورة واستمرار الاحتجاجات مكانة أساسية لدى أنصار إيقاف حركة الناس. وتستند الفكرة على جبن رؤوس الأموال، خاصة الأجنبية منها، وأن هذا الوضع يؤدي إلى إعادة تقييم ترفع من كلفة المخاطر فتهرب الأموال من السوق مسببة إنهيارا في أسعار الأسهم.
والحقيقة أن هذه الفكرة على صحتها تبالغ بشدة في دور البورصة في الاقتصاد. البورصة أداة لتسهيل التمويل عبر الاقتراض والاقراض بما يخدم الاقتصاد الحقيقي في النهاية. هذا هو دورها الحقيقي الذي يجعلها مرآة للوضع الاقتصادي. أما فقاعة التبادل المالي والمضاربات فقد أثبتت الأزمة المالية العالمية خطورتها البالغة على الشركات والاقتصاد والرأسمالية أولا ثم الأجور والبطالة ومستويات المعيشة بل وميزانيات الدول ثانيا.
ويجدر بنا هنا أن نعيد ما كان أنصار الاقتصاد أولا يقولونه إبان الأزمة المالية العالمية التي أنهت مسيرة البورصة المصرية الصاعدة بالقول إن أساسيات الشركات المصرية ممتازة وبالتالي فإن تقييمها لن يلبث أن يرتفع، وإنه إذا لم يقم المستثمرون بالبيع فإن الخسائر تبقى دفترية على الورق، ومن ثم ما أن يتضح أي من الشركات مبني على أداء اقتصادي سليم ستعاود الأسعار الارتفاع لتعكس التقييم الحقيقي لأصولها.
الأكيد هنا أن بعض الشركات ستتأثر مثلا بقضايا الفساد، إذ أن بعضها كان مرءوسا من قبل رجال أعمال كانوا في قلب النظام القديم وتورطوا بذلك في عمليات مشبوهة دفعت بهم وراء القضبان. لكن صدمة سياسية كتلك، والتي قد تكون مؤقتة إذا كانت الشركات قوية من حيث الأداء الاقتصادي قد تعني الخير كل الخير للاقتصاد الوطني ولعيش الناس. فإذا كانت الشركة مقيمة بأعلى من قيمتها فإن تراجع أسعار أسهمها هو تصحيح سوقي لابد منه في اقتصاد سليم. أما إذا كانت هذه الشركات مبنية على دعائم مالية واقتصادية سليمة، فإن استرداد حقوق الناس فيها، لن يلبث أن يعود بالمنفعة على الاقتصاد القومي، ومن ثم على حياة الناس عموما سواء كانوا مستثمرين في البورصة أم لا.
يقدر مكتب النائب العام حجم الثروات المنهوبة لدى مسئولي الدولة ب 500 مليار جنيه، وهو رقم هائل نسبة إلى حجم الناتج الإجمالي للاقتصاد كله في عام كامل. ماذا لو استردت الخزانة العامة نصف هذا المبلغ ووظفته في صالح الناس؟ أليست خطوة كتلك أفضل باعث للنشاط الاقتصادي ولثقة الاستثمار الأجنبي ومن ثم أداء الأسهم المصرية وبورصتها؟
تجمع 3 تقارير عن الاقتصاد المصري بعد الثورة أصدرتها بنوك استثمار بلتون وفاروس واتش سي على أن الآثار المحتملة على الاقتصاد والبورصة ستكون بالأساس على المدى القصير. وبينما يؤكد تقرير بلتون أن الثورة قد تفتح الباب لانتعاش اقتصادي كبير وتدفقات هائلة للاستثمار الأجنبي في المستقبل، يعطينا بنك فاروس تصورا لسيناريو تعافي عميق بمجرد استقرار الأوضاع السياسية، بناء على التعافي الأمريكي وفرص الصادرات، وارتباط المخاطر هنا بالتغيير السياسي وليس أزمة اقتصادية عميقة كما كان الحال في نهاية التسعينيات وفي عام 2000. ومن المؤكد إن تفكيك الاحتكارات (كالحديد وغيرها) سيفتح الباب أمام مستثمرين عرب وأجانب لدخول سوق كان مغلقا أمامهم لحساب محاسيب النظام).
ويربط اتش سي بشكل أوضح بين السياسة (من زاوية مصالح من أثرتهم سياسات الليبرالية الجديدة في السنوات الماضية عبر الخصخصة وتحرير الأسواق وإعطاء الأولوية الاجتماعية لأرباح القلة) وبين المستقبل. ويقول اتش سي إن احتمال "ظهور حكومة اشتراكية توقف الإصلاحات الاقتصادية ذات الاتجاه الليبرالي" سيكون له "نتائج اقتصادية سلبية على المدى الطويل".
في مقال له يوم الأربعاء الماضي بالفاينانشيال تايمز، يقول الكاتب الاقتصادي البريطاني مارتن وولف، إن الثورات العربية قد تؤدي إلى صدمة نفطية في الأسواق العالمية منهيا مقاله بتساؤل: إن المقايضة القديمة بين البترول الرخيص مقابل السماح بالديكتاتورية مناسبة لرأسماليات الدول المتقدمة، لكن هل هي مقبولة أخلاقيا أو حتى يمكن استمرارها سياسيا على المدى الطويل؟ ويلخص عنوان المقال إجابته "الحرية العربية تساوي أكثر من صدمة قصيرة". وفي الحالة المصرية فإنك إن ساويت الاقتصاد بمصالح الشركات الكبرى، فستحصل بلا شك على إجابة خاطئة من وجهة نظر اقتصاد الوطن، ومصالح أغلبية سكانه المنتجين.
*عن صحيفة الشروق