استحوذ الجدل حول تعديلات الدستور والاستفتاء الذي جرى أمس على عقل وحركة المصريين خلال الأسبوعين الماضيين ليتراجع كل شيء آخر أمام تلك القضية السياسية الدستورية الهامة. ومع اتخاذ المصريين قرارهم بلا أو نعم يتوقف مستقبل الثورة على أن يجسد هذا الموقف نفسه في صورة موقف واضح من باقي مطالب الثائرين، التي لا يمكن فصمها عن السياسة، وهي المطالب التي طرحوها تحت شعار العدالة الاجتماعية.
توصف الثورة بأنها ذلك الدخول القسري للجماهير إلى عالم الحكم، عالم تقرير مصيرها. وفي هذا فإن اهتمام جماهير الثائرين بالدستور وما يرتبه من قواعد للعبة السياسية ليس هدفا في حد ذاته، وليس تعبيرا عن رغبتها في الفوز بمسابقة الدستور الأكمل قانونيا، وإنما يفترض أن يكون ذلك مجرد خطوة على طريق تأكيد نفوذها، الذي انتزعته بدماء الشهداء، في استعادة التوازن في المجتمع من القلة الحاكمة والمستفيدة إلى جموع الأغلبية المنتجة.
بالنسبة للمواطن الثائر، عماد التغير الهائل الذي شهدته بلادنا وهز العالم بأسره، الثورة هي أن يتحسن دخله، وأن يحصل على خدمات عامة كفئة دون تمييز بينه وبين الغني، وأن تنحاز القوانين والعملية الاقتصادية لمصلحته ومصلحة أبنائه، فتعطيه الوظيفة اللائقة والأجر الكريم المنصف والنصيب العادل من ثروات البلاد.
لا يمكن فهم الثورة المصرية ولا قدرتها على الحشد المدهش المفاجيء لملايين المواطنين إلى مواجهة بحجم الذي رأيناها منذ 25 يناير، مع جهاز دولة قمعي وعنيف وقاتل، كعمل سياسي ليبرالي ديمقراطي بحت بحثا عن الحرية الانتخابية وحسب. وليست الثورة المصرية في ذلك استثناء من الانتفاضات الجماهيرية التي شهدها العقد الماضي بدءا من إندونيسيا ومرورا بالأرجنتين وبوليفيا وغيرها من دول أمريكا اللاتينية. هذه إنتفاضات لاتفصل بين الديمقراطي والاقتصادي، وكان في القلب منها الانقلاب على سياسات اجتماعية واقتصادية، بعضها تم في ديمقراطيات انتخابية كالأرجنتين والمكسيك، أعطت السلطة على الأرض بتحويل ثروة المجتمع لحفنة من رجال الأعمال الكبار على حساب التنمية والبشر.
وفي مصر، هل يمكن فصل ثورة 25 يناير عن الاستياء الشعبي الواسع من سياسات التراكم الرأسمالي أولا، ثم تساقط فتات الثمار للأغلبية، عبر إعطاء الأولوية في الاقتصاد، الذي ينظم حياتنا اليومية جميعا، لمن يتحكمون في هذا التراكم. هل يمكن فصل زخم الثورة عن الفجوة الهائلة في الثروة والسلطة بين طبقة الأغنياء المالكة والمستهلكة وبين ملايين الفقراء المنتجين، الذين تم حرمانهم من التعليم والصحة والعمل الكريم عبر هذه السياسات المنحازة ضدهم.
في جميع الانتفاضات التي شهدتها أمريكا اللاتينية، كان هناك تغيير واضح في الموقف من سياسات الليبرالية الجديدة (انسحاب الدولة – قدسية تحرير الأسواق – تقليص الإنفاق العام على التعليم والصحة – الخصخصة ونقل الثروة في الصناعة والأراضي والخدمات). وظهر في هذه البلدان نمط تنموي جديد أسماه البعض "المؤسسية الجديدة"، والبعض الآخر "مابعد الليبرالية الجديدة". ومع التنوع الكبير في إطار هذا النمط وحدوده، بين التأميم مثلا في بوليفيا وفنزويلا إلى رأسمالية تستعيد دورا للدولة بسياسات توزيعية جديدة في البرازيل، فإن الصيغ جميعا حاولت الاستجابة للجماهير التي فرضت نفسها على مشهد اتخاذ القرار، بتجسيد هذا التوازن السياسي الجديد على الأرض في حياتها اليومية. ومازالت حدود هذه المهمة تحكم الصراع السياسي في هذه البلدان، بين هذه القوة البازغة وبين القوى الأخرى في المجتمع التي لم تنه الانتفاضات هيمنتها على السلطة الاقتصادية ومن ثم السلطة السياسية، حتى وإن كانت ترتدي ثياب الديمقراطية الانتخابية.
بعد تنحي مبارك بساعات كتب الصحفي وكاتب العمود بوب هيربرت في جريدة النيويورك تايمز الأمريكية ليعيد تقييم ديمقراطية بلاده في ضوء الثورة المصرية. قال هربرت تحت عنوان "عندما تضعف الديمقراطية" إنه "حين يعانى ملايين الأمريكيين العاديين من البطالة وانخفاض مستويات المعيشة، تسيطر النخبة المالية والشركات على جميع مقاليد السلطة الحقيقية تقريبا. وما يريده الناس العاديون ليس مهما فى الحقيقة.. فالأثرياء يعزفون اللحن والساسة يرقصون عليه".
يتحدث هربرت عن الديمقراطية الأمريكية العتيدة التي تئن تحت المبالغ الهائلة التي تنفقها النخب المالية والشركات على الحملات الانتخابية، وشراء النشطاء فى جماعات الضغط ومؤسسات الأبحاث بأثمان مرتفعة وكذلك شراء وسائل الإعلام، "وأى شىء آخر يمكنها التفكير فيه. وهم يغدقون على مشروبات ومأكولات كبار قادة الحزبين الجمهورى والديمقراطى. وعلى تنقلاتهم فى طائرات نفاثة خاصة، كما يشترون ولاءهم بملاعب الجولف، والعطلات الفخمة، ويمنحونهم وظائف عالية الراتب".
يشير الكاتب الأمريكي إلى أن النظام السياسي الأمريكي صار يعبر عن سياسة الفائز يكسب كل شيء. "وخطوة إثر خطوة، ومناقشة بعد مناقشة، يعيد المسئولون الحكوميون الأمريكيون كتابة قواعد السياسة الأمريكية والاقتصاد الأمريكى على نحو يفيد القلة وعلى حساب الكثرة". ويختتم هربرت مقاله باستعادة لقاء بينه وبين المؤرخ الأمريكي الكبير هوارد زين في يناير 2010 كان الأخير فيه متكدرا بسبب الأوضاع فى الولايات المتحدة، بيد أنه لم يكن خائفا . وقال: "إذا كان تغيير حقيقى سيقع، فسوف يتعين أن يجرى من أسفل إلى أعلى، من الناس أنفسهم". ويقول هربرت إنه تذكر ذلك، وهو يغطي الاحتفالات الجامحة بسقوط مبارك فى شوارع القاهرة.
ما الذي نفهمه من هذه النظرة القادمة من واحدة من أهم الديمقراطيات الليبرالية في العالم؟ أولا أن حرية الانتخاب والترشيح وتشكيل الأحزاب وكمال الدستور قانونيا ليست في حد ذاتها ضمانة كافية للديمقراطية بمعناها الإنساني الذي تفهمه الجماهير، إذا سمحت للأغنياء والشركات بمراكمة الثروة والسلطة لحسابها. وثانيا إن الضمانة الحقيقة هي ماتمثله الثورة من ذلك الاقتحام الجماهيري لساحة القرار السياسي، الذي يحسدنا عليه هربرت.
وهكذا يمكن اعتبار أن اختزال الثورة المصرية في كمال دستور "الشرعية الثورية" بمعزل عن "العملية الثورية"، أو تعليق مصير الثورة على نص قانوني مهما كانت أهميته في مقابل مقتضيات تمكين الجموع سياسيا واقتصاديا، هو الانقلاب الحقيقي على الثورة ومطالب الثائرين لصالح المصالح القديمة.
في هذا الإطار فقط كان يمكن لأحد رجال الأعمال الكبار، الذي حصل على أهم نشاطاته في مصر من خلال صفقة بالملايين تحولت لمليارات في غمضة عين بعد أن تضمنت احتكارا لخدمة هامة لعدد غير قليل من السنوات، رجل أعمال رحب بشدة بحكومة نظيف وسياساتها، أن يضع نفسه وسيطا مع السلطة ثم فجأة متحدثا باسم الثورة ثم متبنيا لموقف لا لتعديلات الدستور، مصطفا في ذلك مع أغلبية المعارضة بما فيها اليسار الراديكالي برغم أنه أبرز من هاجموا احتجاجات العمال والموظفين الشرعية من أجل تحسين أجورهم الزهيدة واصفا إياهم بالجشع، وغير مكتف في ذلك بالموقف وإنما دخل بثقله المالي ليدعم حملة إعلانية واسعة بمئات الآلاف، إن لم يكن بالملايين لترويج هذا الموقف. هذه هي خطورة الاحتجاجات الجماهيرية من زاوية مصالح هذا الرجل ومن هم على جانبه من المتاريس: أنها تضمن استمرار اقتحام الجموع لمجال الحكم، وليس فقط شكليا عبر صندوق الانتخاب.
فقط في فترة الثورة، عندما تتخلخل الأساسات والجدران الاجتماعية للمجتمع القديم بفعل ضغط الناس، يستطيع أي عمل سياسي ذو بعد اقتصادي اجتماعي تقوم به أن يوقظ في ساعات معدودات قطاعات كاملة من الطبقة العاملة، لم تكن قد تأثرت حتى ذلك الحين، من حالتها السلبية، وسرعان ما يعبر هذا الأمر عن نفسه بالطبع على شكل نضال اقتصادي عاصف. "فالعامل الذي يستيقظ فجأة بفعل الصدمة الكهربائية التي يصيبه بها العمل السياسي يقبض حالا على السلاح الذي في متناول يده، وهو الإضراب والاعتصام، ليقاتل ضد ثقل وضغط قيوده الاقتصادية، ومصالح تلك القوة الهائلة التي خلقتها سياسات الليبرالية الجديدة في مصر.
في هذا الإطار فإن الخطوة التي أعلنها وزير القوى العاملة بإطلاق حرية تأسيس النقابات هي في تقديري الانتصار السياسي الأكبر للثورة حتى هذه اللحظة. ذلك لأنها خطوة تفتح الباب لجموع المنتجين للربط بين الحريتين التي لا انفصام بينهما: حرية الرأي والاختيار وحرية العيش. هذه النقابات التي بدأت تبزغ على الأرض في مصر بمبادرة شعبية مباشرة، هي الضمان الأول لكي لا يسيطر المثقفون ورجال السياسة والمحللون الاستراتيجيون، ومن وراءهم أصحاب المال، على الطريقة الأمريكية، على المجتمع مرة أخرى. الاحتجاجات الاجتماعية والاقتصادية، التي يصمها البعض زورا بنشر الفوضى، هي الطريق الوحيد لديمقراطية ولأحزاب ولدستور لا يكتفي بأطر سياسية وقانونية وحزبية كاملة شكلا، ومفرغة مضمونا، لصالح القلة القوية..هي الطريق الوحيد لتأسيس سلطة جديدة شعبية ديمقراطيتها تنعكس حتى في الهواء الذي نتنفسه.
*عن الشروق