طُوّب "الكليشيه" في فرنسا. إنّها أمة الثقافة، "الوعي" علامتها المسجّلة. يترعرع أهلها على حبّ الشعر، يعيشونه، يتنفّسونه، يلمسونه في زهور نوافذهم وأوشحتهم، أحذيتهم الزاهية، تلاعبهم المستمرّ بالألفاظ.
-
-
-
تعويذة اسمها القرداحة
صمتٌ وجيز، تحت سماء بيروت التي تستضيء أطرافها بحرائق خفية عند انقطاع الكهرباء، أوهمك فيه هديرُ المولّدات وارتجاجُ زجاج الشبابيك بأن شارع الحمرا سيقلع بمقاهي أرصفته وتاريخ مبانيه، بصحافييه ومتذمّريه وجماله وألفته، آخذاً معه العمود الذي ربط إليه رفيق شرف جواده أمام الهورس شو، وكشك الجرائد مقابل كوستا، ولافتات وسترن يونيون الذهبية، ومناقيش زعتر وزيت
-
لا حِدادَ على موتِ حشرة
في المدن الكبرى، يرفع الفجرَ الليلَ عن الشوارع الخالية فيدبّ فيها المتزاحمون المستعجلون كأنهم أسراب من اليرقات تهرب في كل اتجاه بعدما رفع صبيٌّ صخرةً صغيرة على ضفة نهر- يقودهم الضوء إلى أنفاق المترو والمكاتب تحت الأرض والمصانع في الضواحي، حيث مهاجرون فقراء في أمكنةٍ كالأقبية، مكتظّة ضيقة وسخة، رطبة معتمة، يعيشون مثل سمكات فضّية هيّنة التلاشي ولا يترك سحقها أثراً على البلاط. يضع الصبي الصخرة جانباً فيرى إ..
-
-
نتالي بونتان: ذُبابةُ الصَّيف
القهوة منطَلَقٌ لذبابةِ ذكرياتي القلقة. إنها، على عادتها، تحومُ حولي بحثاً عن مَدْرجٍ محتمَل لطيرانها. عبقتِ القهوة متقافزةً على الغاز بلهيبهِ المتألّق، فراحتِ الذبابةُ في البدء تحومُ حول الفنجان الأبيض: فوق نقوش البورسلان المذهَّبة الممحوة في بعض مواضعها، في دوائر بديعةٍ متناظرة، دوائر ذبابة لا تترنّح سُكْراً، ثقتُها أكبرُ بجناحيها الضئيلين اللذين قد تقتلعُهما نفخةٌ واحدة. في الهواء الذي سوف تجتاز..
-
جمهوريّة الكلاب: قصائد ستيفان واتس
الشاعر الإنكليزي ستيفان واتس مولع بالطيور. بمستطاعه أن يميّز معظم طيور المدن الكبرى من أصواتها وأشكال طيرانها، وعينه ترى، على سبيل المثال، الفارق بين الغاقّ والبطّ فوق صفحة الماء حين يعتم المساء. حين سمعته للمرة الأولى يقرأ شعره في القرية السورية الملّاجة ، قصيدته "طيور شرق لندن" تحديداً، كان إلقاؤه نابضاً بالحيوية، والغضب يمتزج بالرقة في أنفاسه المشحونة، فتخيلته طائر كراكي، بقامته الفارعة النحيلة وشعره الطويل الخ..
-
فدوى سليمان الجنة والجحيم
[تنشر هذه المادة ضمن ملف خاص أعده الكاتب جولان حاجي لمجلة "جدلية" . اضغط/ي هنا للإطلاع على بقية مواد الملف]
-
-
المدرسة الصينية في البناء والتربية
لا تتساوى الجدران في العظمة والشهرة. المثال الأعرق قدَّمه شيه هوانغ دي، الإمبراطور الذي شُيّد في حقبة حكمه سورُ الصين. أرفق هذا التشييد بمأثرةٍ تاريخية أخرى هي إحراق الكتب، ليستهلَّ الإمبراطورُ باسمه فجرَ التاريخ ويكونَ الأولَ في كل مضمار، مانعاً كلمة "موت" من التداول، معاملاً تلك البلاد الشاسعة في الشرق كأنها حديقةُ قصرٍ من قصوره، آمراً ب..
-
إسرائيل الثقافة
كتب فيليب روث، في "شكوى بورتنوي"، إن إسرائيل منفى اليهود. وبمقارنةٍ لا تستقيم هنا (لعل مردّها هو التكرار الغريب لمقولات تلحّ على تخوين الأكراد ووصمهم بالانفصالية وتشبيه أحلامهم في دولة مستقلة بأحلام الإسرائيليين بأرض الميعاد، والربط الملغوم بين الموساد وكردستان) رأى صديق أن كردستان العراق قد تكون منفى كذلك إ..
-
كلاب وشحّاذون
في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، أرسلتْ الباحثة كاترين كوكيو إيميلاً لحضور واحدة من محاضرات "تاريخ الدُّوار" للكاتب كاميّ دو توليدو، في بيت الشعر بزقاق موليير في باريس. ذهبتُ، متذكراً أثناء ذهابي بورخيس وهيتشكوك، وقد ترجمتُ أعمالاً لكليهما إلى العربية. تبقى استعاراتهما الكبرى، كالمرآة والكابوس والمتاهة، صالحة لأوضاع أي عالم، ماضياً أو راهناً.
.. -
-
أنا كتابٌ لم أكتبْه ولم أقرأه
لا أعرف شيئاً عن هشام خاطر. تكاد معرفتي بكتابته تقتصر على حدود الصفحات القليلة لهذا الكتاب "حَنداج".
رواة نصوصه أقرب إلى أولاد رفضوا النضوج لأنهم يرفضون التحول إلى مجرمين. إنهم يهذرون داخل رأس رجل وحيد يضبط هذياناتهم، لأن الكتابة في أحد وجوهها احتيالٌ على الخوف، للعيش معه والتحكّم به وحتى ممازحته، وقد تكون سبباً إضافياً في فقدان البصيرة، وإ.. -
مخلوقات رندا مداح
عمانوئيل سويدنبورغ رأى الجحيم. قال إن خالقَها قد هندسها على شكل إنسان وكساها جلداً، يسكنُ بشرٌ عراءَ أعضائها وظلماتِ أحشائها. إنّها تُعاش من الداخل، مسخاً حيّاً في جوفِ إنسان آخر. لكل منا جهنّمه الشخصية، بكامل صفاتها الإنسانية وشخوصها، والمتمايزة عن جهنمات غيرنا.
رسمت رندا بالرصاص- ونحتتْ في الطين والبرونز- مخلوقاتٍ قد نراها متجمّدة على تلك العتبة ا..