هل لبنان مستعد؟
قبل ثمانية وعشرين عاما، كان الذباب يحوم حول أجساد ممزقة، بعضها ببطون مبقورة، وبعضها الآخر تهاوى على الأرض في صفوف منتظمة. بعضها كان أشلاء، وبعضها الآخر كان متجمدا بيد ترتفع حاملة بطاقة هوية. بعضها كان يعود لرجال، ونساء، الكثير منها كان لأطفال. بعضها كان لحيوانات.
كانت أرض خراب، صورة ما يمكن للإنسان أن يرتكبه من هول، بيدين عاريتين، وفي مواجهة ضحيته وجها لوجه.
الذين عاثوا ما عاثوا في مخيمي صبرا وشاتيلا يومي السادس عشر والسابع عشر من أيلول العام 1982، كانوا من البشر. تسنى لهم النظر إلى ضحاياهم في عيونهم. رأوهم في ثياب النوم، أخرجوهم من أسرّتهم، صفوهم على امتداد الجدران، قتلوا بعضهم بالرصاص، وقرروا التخلص من البعض الآخر بالبلطات والسكاكين والقضبان الحديدية. لاحقوا البعض الآخر بين الأزقة وسمعوا أصوات استغاثاتهم.
الذين طوقوا المخيم كانوا يعلمون. الذين دخلوا المخيم كانوا يعلمون. والذين أرسلوا الطرفين كانوا يعلمون. وحدهم أهالي المخيم كانوا في الظلام في فجر السادس عشر من أيلول العام 1982. وعلى امتداد يومين، بقوا في الظلام وفعل القتل يلاحقهم من كوخ إلى كوخ، من غرفة إلى أخر. بقية العالم عرفت بعدما انتهى كل شيء. بثت الصور كما هي إلى جميع أصقاع الأرض. ومع التحذيرات إلى المشاهدين الذين يعانون من أمراض قلبية، أو المصابين بحساسية مفرطة- بالامتناع عن متابعة ما سينقل إليهم من صور، كانت تتناهى إلى الآذان أصوات طنين الذباب الحائم من فوق اللحم الحي المشرّع في أزقة مخيمات البؤس التي ارتضاها اللبنانيون مأوى وملجأ للفلسطينيين الذين بقوا على قيد الحياة وطردوا من بلادهم بالقوة ذات يوم من أيام ربيع العام 1948.
"العدو"، الذي اجتاح بيروت في ذلك الصيف، وطوق المخيم في الخريف، هو ذاته الذي أسس دولته على أشلاء ومجازر، وهو ذاته الذي يستمر حتى اليوم في زهق الأرواح والأرزاق كوسيلة وحيدة للاستمرار في العيش، اضطر لفتح تحقيق في الموضوع، وخرج بتقرير "كاهانا" الذي تفاوت تقييمه، إلا أنه سعى على الأقل، وإن من وجهة نظر منحازة، إلى تحديد المسؤوليات في ما حدث. بعدها، عاد ليكون ما اعتاد أن يكونه، معتبرا أنه أنجز ما عليه. المسؤول العسكري عن اجتياح لبنان، من بين أشياء أخرى، انتخب رئيسا للحكومة الإسرائيلية بعدها، واستقبل في عواصم العالم أجمع على أنه من رجالات السياسية القادرين على صنع السلام.
ما علينا. هو "عدو"، وهذا ما يفعله الأعداء.
ثمانية وعشرون عاما مرت، وسط محاولات حثيثة، تخفت حينا، وتصخب أحيانا، للإبقاء على الذكرى، لمنعها من الإنزلاق إلى غياهب النسيان والتجاهل والموت ....
ثمانية وعشرون عاما والصور القديمة التي التقط معظمها بالأبيض والأسود تزداد بهتانا، يضيفها الفلسطينيون إلى قائمة لا تنتهي من صور شهداء قتلوا في مناسبات مستمرة، ويعمل بعض اللبنانيين على نصرتها، ويسعى عدد كبير من الناشطين الغربيين إلى إبقائها حيّة.
في الأعوام الأربعة الأخيرة، كانت المسيرة التي تنظم سنويا في بيروت إحياء للذكرى تكاد لا تضم إلا اليساريين الغربيين وبعض الفلسطينيين من أهالي الضحايا.
في موازاة ذلك، سعى البعض إلى رفع قضايا، فردية وجماعية، في المحاكم الأوروبية لمحاسبة إسرائيل على دورها ومسؤوليتها في ما جرى. فشلت تلك المحاولات، ومازال البعض يحاول.
اليوم، وبعد مرور 28 عاما، وجد في بيروت من يقول: أن الذاكرة الجماعية اللبنانية ليست جماعية، بل هي مفككة، واستنسابية، وتختلف من منطقة إلى أخرى، ومن شخص إلى آخر، من مجموعة إلى أخرى، ومن طائفة إلى أخرى. وجد من يقول أنه لا يمكن طيّ صفحة المجزرة قبل دفن جثث الذين قضوا خلالها. وبعض هؤلاء مازال في عداد المفقودين إذ اقتيدوا إلى خارج المخيم في أعقاب المجزرة، ولم يعودوا. لا أحد يعرف من ساقهم، ولا أحد يعرف ما حلّ بهم، أو أين هي بقاياهم.
وجد أيضا من يقول أن من ارتكب الفعل، فعل المجزرة، ما زال حيا يرزق، معروف الهوية، ومكان الإقامة، معروف الأهواء والميول والتاريخ ، ويجاهر علنا بما يريد ارتكابه في المستقبل.
اليوم، بعد 28 عاما، وجد في لبنان من يسأل: قبل أن نطالب العالم بتحديد المسؤوليات والمحاسبة على ما حدث في خريف العام 1982، هل لبنان مستعد للقيام بذلك؟