اليوم وقد نجحت ثورة تونس في إحداث أول ثقب في جدار القمع العربي، وأبهرت العالم وألهبت خيال الحرية لدى العرب، فقد آن الأوان لطرق أبواب الفضاء الإعلامي بعد أن عمته موجة من الهواء النقي المعتق برائحة الياسمين الثائر. هواء الحرية والديمقراطية حرر الألسن والأقلام وجعل الصورة تحاكي وتحكي. وأطلق عنان الصحفي ليرتوي ويروي محيطه، فقد تفنن النظام السابق على امتداد 23 سنة بإجلاء الصحفيين من مجال الابداع الاعلامي. اليوم وقد تحررنا من النسور والعقبان المحوّمة في بياض أوراقنا بحثا عن أصابعنا لتلتهمها كتبت أو لم تكتب، يمكنني أن أسرد تجربة فريدة في زمن التعتيم والتحريف والتزوير. فالأيام القليلة قبل سقوط النظام، الذي كان من بين الأكثر مراقبة للصحافة وقمعا لحرية الرأي في العالم، شكلت لي الفارق بين حياة إعلامية مليئة بالخوف والخطر وأخرى أكثر بياضا وانطلاقا وحرية.
انقلبت الموازين وزالت القيود في زمن المفارقات، زمن ساء فيه حال الصحافة والصحفيين وصمتت فيه الحناجر غير أن مرّ التساؤل فجر عزيمة الشباب التونسي وأخذنا على حين غرة ليهبنا الحرية والديمقراطية. بحسرة في القلب كنت أتابع في صمت مقيت ما يحدث من قمع وقتل في مدينة سيدي بوزيد حيث أقدم محمد البوعزيزي على إحراق نفسه احتجاجا على الظلم والفقر والخصاصة. وما يدور في محافظة القصرين، التي قدمت أكثر من خمسين شهيدا من شبابها، ومدينة تالة، التي انتهكت أعراض نسائها، والرقاب التي فقد أهاليها أمنهم أمام بطش البوليس.
كانت الأنباء القادمة من الوسط الغربي التونسي من خلال المواقع الاجتماعية والتي كانت تؤمنها كاميرات الهواتف النقالة للاهالي هناك تزيدني خجلا أمام عجزي على الذهاب هناك بكاميراتي لأنقل للعالم ما يحصل بالصوت والصورة . كنت وزملائي الصحفيين نعيش تحت وطأة التهديد، هواتفنا مراقبة ووكالة الاتصال الخارجي التي تعودت التدقيق في ما نكتب وما ننقل من أخبار كانت تتابع كل حركتنا، بل ذهب بها الأمر إلى دعوة بعض مراسلي وكالات الأنباء الأجنبية وهددتهم باتخاذ الإجراء اللازم ضدهم إذا تمادوا في تغطية الاحتجاجات الشعبية في مدن وسط وغرب تونس. لم يكن حالي أفضل من زملائي، فقد كنت انقل للإذاعة وللموقع الالكتروني ما يحدث في تونس وأسترق السمع لحركة العقبان المحومة حولي.
غير أن ما كنت أحصل عليه من أخبار عن بعد لم يقنعني كمراسلة لمحطة تلفزيون ألمانية في تونس، وانطلاقا من مبدأ أن الصحفي يجب أن يكون على أرض الواقع حتى ينقل الحقائق بكل أمانة، قررت كسر حاجز الخوف والقيام برحلة ميدانية لأوصل الحقيقة بصدق واعتدال ومسؤولية دون خوف أو تضخيم. بين تشجيع الأفراد وتحذير المجموعة، خاصة بعد منع رجال الأمن لصحافيين من الوصول إلى ميدان الحدث وحجز معداتهم، زاد نداء الواجب الإعلامي امتدادا في داخلي فوجدت صداه في صديقة صحافية تعمل لفائدة لصحيفة ”الهدهد“ الالكترونية.
كان الانتماء إلى تلك الربوع المشتعلة يحرك زميلتي صوفية الهمامي، وكان واجبي وحرفيتي يحفزانني كصحافية تسعى لنقل فضاعة ما يجري للعالم، وزادتني مرافقة الزميل توفيق العياشي طمأنينة لما يتميز به توفيق من شجاعة وتجربة في الميدان كلفته الكثير في زمن بن علي.
انطلقنا في مهمتنا التي بدت لنا في تلك الأيام العصيبة المحفوفة بالمخاطر مستحيلة. كنا بانتظار ان يعترض طريقنا رجال الأمن ليتم منعنا وحجز معداتنا والتحقيق معنا عن وجهتنا. طوال الطريق كان حديثنا حول الأحداث والاحتمالات الواردة، وأمام شعوري بخطر محدق مسكت الكاميرا وأوصيتها بي وبرفاقي ثم أدرتها في كل الاتجاهات حتى تبقى الصور دليلا على تجربتنا الفريدة ومغامرتنا المجنونة في الوقت الذي كان فيه النظام التونسي يمسك البلد من عنقها بقبضته الفولاذية.
الرقاب من محافظة سيدي بوزيد كانت قبلتي، مدينة الغضب والرصاص والقناصة بدت وكأنها مأخوذة من فيلم أرشيف من الثمانينيات وكأن الذي حدث خلال أسبوع وقع منذ سنوات. وقفت أتابع "أم الجرائم" والرقاب تشيّع في ذلك اليوم سبعة من قتلاها من بينهم منال العلاقي أول شهيدة خلال الثورة التونسية.
امسكت ورقة صغيرة كتبت فيها وصيتي الأخيرة :"10 جانفي 2011، ها نحن نقترب من مصير مجهول، ديدننا الوحيد إيماننا بان مهنتنا الصحافية تحتم علينا أن نكون هنا في هذه الأرض التي دفعت دماءها لإشعال ثورة شعب يدافع من اجل الكرامة و الخبز. قد نعود سالمين و قد لا نعود، لكن إيماننا قوي بان حرية التعبير تحتاج منا التضحية وان دماء الذين ماتوا ليست اغلى من دماء قد نتركها في مدينة الرقاب."
انتهيت من كتابة وصيتي بأنامل مرتعشة، ثم تناولت الهاتف لاتصل بوالدي. طلبت منه ان يدعو لي بالخير، نصحني ان الزم الحذر وان لا اجازف فهو يعلم جيدا اني لا اهدأ في مثل هذه الظروف. قلت له: فقط ادعو لي بالخير يا والدي. لكني لم اخبره اني ربما في طريقي لحتف او لتجربة أخرى في الايقاف والتحقيق.
وصلنا لمشارف الرقاب و بدأت نبضات قلبي تتسارع، كنا نخشى اي سيارة تتقدم نحونا، نخبىء الكاميرا ونداريها يمنة ويسارا، وقفنا في انتظار شخص سيصطحبنا داخل القرية اللغز. لكن كل اهالي القرية الذين مروا بنا، تجمعوا حولنا يشكون همومهم ويسردون علينا قصة ليالي وايام من الظلم والحيف والقتل والقنص والتخريب والسرقات. الكل غاضب و الكل حزين، فالقرية شيّعت لتوها سبع جثث لشباب أبرياء خرجوا يطالبون بالعدالة الاجتماعية فاعتبرهم الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي ارهابيين.
اخذنا بعض الحوارات ورصدنا في وجوه الكثيرين قدرا كبيرا من الخوف والحذر. تقدمنا نحو الاحياء فتزايدت وتيرة الهلع. ها نحن اذا في مدينة لم يكن يصلنا منها في الايام الاخيرة سوى شهقات الالم ودوي اطلاق الرصاص وهتافات المحتجين.
لم ندخل من الطريق الرئيسية. سلك بنا رجل، من اهالي تلك المنطقة نسقنا معه مسبقا، طريقا ملتوية اخرى حتى لا يتفطن إلينا اعوان الامن. العيون كلها تلتفت ذات اليمين وذات الشمال، لكنها تثبت اخيرا امام عدسة الكاميرا فالكل يريد أن يصف هول ما رأى. الكل يريد أن يتحدث عن شرعية الاحتجاجات والبراءة من أحداث السلب والتخريب والحرق. الجميع متعطش لتلفزة ما أو جريدة أو إذاعة ما تنقل ما حصل فعلا، فقد غابت عن مأساتهم كل صنوف الإعلام البديل. كان زادهم هاتف جوال يسرق من عمر الثورة التونسية لقطات سيذكرها التاريخ لشهداء زعزعوا خمول الوطن العربي.
الجميع يتحدث عن مأساة واحدة: "لقد جوعونا وفقرونا وسرقوا منا السعادة، ينامون في القصور وننام تحت جدران تكاد تسقط من شقوقها، ينامون في الحرير ونرقد على حصر مهترئة، هل ثمة بعد هذا رغبة في الحياة؟ ثم يقتلون فلذات اكبادنا فماذا بقي لنا بعد غير ان نعرض صدورنا للرصاص، حياة اشرف منها موتنا ونحن واقفون؟" هكذا استوت عندهم الحياة و الموت فقد خسروا كل شيء وعاشوا الرعب اياما طويلة.
ذاب في داخلي الخوف إذا وانتهى تفكيري في رجال الامن و في احتمالات الإيقاف. غصت مع اهالي مدينة الرقاب في مأساتهم وشربت من معين آلامهم وارتوت اشرطتي و آلة تصويري من شكاواهم و تصريحاتهم حول الجرائم المرتكبة في حقهم.
كنت أريد أن تقع الكاميرا على أقصى قدر ممكن من الصور. كنت أريد أن أحصل على شهادات وحقائق أكثر وأكثر لأن الإعلام لم يصل بعد إلى هذه المنطقة إلا التلفزة الحكومية التي جاءت لتنقل صورة مشوهة ومغلوطة أرادها الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي عن هؤلاء المساكين الذين لا ذنب لهم سوى أنهم وقفوا أخيرا ليطالبوا بحقهم في الحياة.
كانت الحجارة تسد على رجال الأمن الطريق للأحياء في مشهد لم أكن أراه إلا على شاشات التلفزة من الاراضي الفلسطينية. الكل يتسلل من وراء باب شبه مغلق على ما يحدث في الخارج. الوجوه حزينة و النظرات تائهة، وعلى بعد خطوات دوي لطلقات رصاص متفرقة ضد المحتجين المعتصمين.
أخذنا ما يكفينا من صور و حوارات، أخذنا زادنا من توثيق للمأساة، دخلنا بيوتا خاوية وآيلة للسقوط، وعاينا بأنفسنا صنفا آخر من مواطنين تونسيين لم يجدوا لهم وسط هذا الوطن حيزا للحياة. بعد أن حدثنا سكان الحي عن نقص المواد الغذائية وجوع اطفالهم وحاجتهم الماسة لكل ضروريات الحياة، انتهى بنا المطاف في بيت رجل فقير يعاني مرض السل. كان مطروحا على ارضية عارية يتلوى ألما وتتلوى زوجته صاحبة الأطفال الخمسة جوعا وخصاصة وتبكي حظها التعيس فهي لم تجد ما تطعم به أطفالها ولا فلسا تداوي به علة زوجها المسكين.
كنت احاول ان تلتقط الكاميرا اقصى قدر ممكن من الصور لإيصالها للعالم وكأني اتزود لأيام قادمة إذا رجعت سالمة للعاصمة تونس. فلم يكن في ذهني في ذلك الوقت أن الطاغية قد يسقط بتلك السرعة. فجأة جاءنا أحد الشبان من الحي مسرعا ليقول :"اخرجوا حالا، غادروا المكان، لقد وشى بكم فلان والأمن في طريقه الى هنا." خرجنا مسرعين لنركب السيارة فإذا بالجموع تفرقت من حولنا واسرع كل ليدخل منزله ويترك الباب شبه مفتوح حتى يراقب ما يحصل. هرعنا نحو السيارة، شغلت صوفية زميلتي المحرك باياد مرتعشة وانطلقنا نحو الامام وفي الجانب الآخر من الحي سيارة للامن تحاول اللحاق بنا.
سارعت لإخفاء الشريط في ركن من السيارة، فلسنا ندري قد يخطر لهم ملاحقتنا في مكان آخر وافتكاك معداتنا فقد تعودت على اساليبهم الدنيئة وخبرت التعامل مع النظام البوليسي بدهاء وخبث. كان الليل قد اسدل ستاره في طريق عودتنا. خرجنا سالمين من ذاك المكان، امتلأنا فخرا وفرحة فقد تمكننا من سبر اغوار تلك المدينة اللغز التي كانت تصلنا منها اخبار الغضب و الفجائع والضحايا.
وكالعادة حسبنا أن أعوان الأمن يتربصون بنا في كل مكان من الطريق إلى العاصمة تونس لكن لا شيء مما كان في الحسبان حصل في تلك الليلة. عدنا سالمين إذا، لم يعتقلونا ولم يفتكوا المادة التي صورتها ولم ينصبوا الحراسة امام منزلي كما تعودتهم حين ارتكابي لمثل هذه التجاوزات في حق أمنهم.
اتذكر تلك المغامرة فاضحك بيني وبين نفسي. أيهما الحلم؟ هل هذا الذي أعيشه اليوم، أم ذاك الذي عشته أمس؟ فبعد أربعة ايام فقط من ذهابنا لمدينة الرقاب وسط الخوف والفجيعة خلعت الاحتجاجات الشعبية في قلب تونس العاصمة زين العابدين بن علي. هرب بن علي وأصبحنا بين عشية وضحاها نتحدث في كل شيء ودون قيد او شرط. هرب بن علي فتنفسنا بعده رائحة الياسمين واستنشقنا هواء الحرية في الاعلام. لم أعد احتاج تصريحا بالتصوير لأحمل الكاميرا و أخرج إلى أي مكان في تونس لأرصد ما يجري.
أما وكالة الاتصال الخارجي، ذاك الهيكل الذي هرسلنا و قيدنا وراقبنا وفرض حولنا طوق بن علي ها هو اليوم يستجدي رضانا عنه ويحتاج مساعدتنا له وللعاملين فيه للدفاع عن بقائه.ما كنت أعتقد يوما أن يهدينا الشهداء هذا الكم الهائل من حرية التعبير والتخلص من كل القيود المفروضة على رقابنا. ما كنت أصدق أن ياتي يوم أخرج فيه إلى أكبر شوارع العاصمة لأقوم بتغطية الاحداث وأكون بمنأى عن أعوان الامن الذين كانوا يعترضون سبيلي في كل خطوة ليطالبني كل واحد منهم على هواه بأذن التصوير فامضي اليوم كله في انتظار أن يمرروا بياناتي لوزارة الداخلية.
ليس أمامي الآن سوى أن أقول وأنا أنعم بهذا الهامش الكبير من الحرية: رحمكم الله شهداء تونس الأبرياء الذين غذوا بدمائهم ثورة الياسمين،وليس أمامي سوى أن أعدكم وعدا لن أحيد عنه: أعدكم بأنني لن أفرط بعد اليوم بشبر من مساحة الحرية التي أصبحت أنعم بها كصحافية. ليس أمامي سوى أن أقول لكم : شرفكم أنكم ضمنتم لنا هذا الحيز الكبير من الحياة وشرفنا نحن الإعلاميون أن نحافظ عليه لأننا تذوقنا طعمه وأدركنا قيمته.