ترك جوليانو مير خميس مهام عمله كمدير لمسرح الحرية في مخيم جنين وجاء بشكل طاريء إلى مسرح القصبة في رام الله مخرجًا لمسرحية الكراسي. الثالث من نيسان كانت ليلته الأخيرة؛ العرض الافتتاحي للمسرحية. قبل بدء العرض بلحظات صرخ من وراء الكواليس بصوته الجهوري "كاميرات.. بدون فلاش".. وخلال العرض سمعت صوت ضحكات عالية من المقاعد الخلفية في قاعة المسرح، كان هو، أحيانًا كان يطلق "هشششش" طويلة للممثلين كي يضبط إيقاعهم.. كان يكسر الصمت دون حرج، إنه جوليانو الذي اعتاد على كسر الجدار الرابع في المسرح، مخرجًا كان أم ممثلا، مشاهدًا كان أم عابر سبيل.. في الحياة وعلى خشبة المسرح.
في مسرحية "الكراسي" من تأليف يوجين يونيسكو طان جوليانو كما في كل أعماله الأخيرة خلاقًا متوهجًا. استدعاه جورج ابراهيم مدير مسرح وسينماتيك القصبة والممثل في المسرحية قبل الافتتاح بنحو 12 يومًا كي ينقذ المسرحية بعد أن ترك المخرج الألماني العمل. بنى جوليانو كل شيء من جديد، وضع عشرات الكراسي على خشبة المسرح ليكون مشهده الأخير، وكاد أن يلغي العرض لعدم الجاهزية، لكن الحكاية ستكون ناقصة، ولن تكون هذه ليلته الأخيرة، يحتفل فيها بافتتاح مسرحية جديدة من إخراجه. فكيف لنا أن نتذكر آخر ما قام به جوليانو على أنه عمل ناجح بامتياز، تحدّى فيه نفسه وضيق الوقت، وهو على موعد مع الموت في اليوم التالي!؟
في نهاية العرض الافتتاحي وقف مع الممثلين يحيي الجمهور. ثم أوقف التصفيق ليقلد الممثل إلياس نيقولا في الدقيقة الأخيرة من المسرحية؛ يصطنع من أصبعه وفمه صوت فتح زجاجة شمبانيا، وراح يستعرض نفسه أمام المصورين، مقلدًا الممثلة نسرين فاعور في مشهد من المسرحية. بعد نحو ساعة كان جوليانو والممثلين وطاقم المسرح والجمهور المحب يقضون معه سهرته الأخيرة، كان يحتفل بالحياة وبإنجاز عمل آخر. كان كعادته ينثر الطاقة على الجميع، يواصل عرض مونولوج الحياة، جوليانو الذي لا يتوقف. هذه المره على الطاولة يبتسم، يصيح، يضحك ويجادل.
بعد قليل ينضم جوليانو إليّ وصديق لي خلال جولته على من في المكان، تحدثنا عن مستوى المسرحية وصعوبة إنجازها خلال هذا الوقت القصير، وعما يجري في جنين من نهضة ثقافية متسارعة والتحديات التي تواجهها. كان سعيدًا، يريد عمل المزيد، يطفح منه التفاؤل يأيام جميلة للثقافة في جنين. انتقل إلى طاولة أخرى، وعلا صوته متقمصًا دورًا جديدًا وجميع من حوله يضحكون. ودّعته عند الواحدة ليلا، وكان لا زال ممتلئًا بالطاقة.
عند الساعة الرابعة والنصف من اليوم التالي اتصلت بي صديقة من أحدى الصحف لتسألني عن إشاعة حول إطلاق النار على جوليانو مير خميس في مخيم جنين. اتصلت بربيع تركمان الطالب بمسرح الحرية كي أتأكد من الخبر، أجابني باكيًا أن جوليانو قد قتل رميًا بالرصاص! ... كان هذا حكمًا بالأعدام خُطط له كما ينبغي.
في لقاء صحفي اجريته مع جوليانو عام 2006 بعد افتتاح مسرح الحرية قال لي: "حياتي عبارة عن انتفاضة، ومن حياته ليست انتفاضة فلن تكون هناك لغة مشتركة معه. أنا أكرّس حياتي من أجل التخلص من الصهيونية"... أسمع في هذه العبارة صوت والدته آرنا مير خميس، كانت تدافع عن الكرامة والحق بالعيش، نذرت نفسها لأبناء مخيم جنين. أقامت "مسرح الحجر" من مبلغ الـ 50 ألف دولار، قيمة جائزة نوبل البديلة التي منحت لها، ويشاركها جوليانو مدربًا في المسرح. بعد سنوات يُخرج جوليانو الفيلم الوثائقي، الغني عن التعريف "أولاد آرنا"، ثم يواصل دربها من بعدها، حين يؤسس مسرح الحرية للجيل الجديد من أبناء المخيم.
كان "جول" كما كنا نناديه خليطًا عجيبًا من لغات ثلاث: لغة أمه ولغة أبيه الشيوعي الفلسطيني صليبا خميس ولغة العالم. كان اختزالا مُبهرًا للصراع بين ضفتي الجدار، مشى في كل الطرق وجرب نفسه حيث لم يجرب الآخرون.. قال كل ما يفكر به بصوت عالٍ، صرخ بوجه النائمين الحالمين: استيقظوا.. حرّك المياه الراكده في كل الذين فقدوا الايمان بأنفسهم. أراد من الآخرين أن يكسروا حواجز الخوف والجهل والتسليم والتقوقع والزيف.
لم يصبني الحدث في جهة العاطفة وإنما في جهة الإدراك؛ فجوليانو هو أول من يُقتل من أصحاب الرأي على أرض فلسطين بسبب ما يحمل من أفكار. جرى ذلك على بعد أمتار قليلة من باب مسرح الحرية. أوقف عدة ملثمون جوليانو وهو يقود سيارته يريد توصيل إبنه الصغير والمربية إلى البيت. وأطلق النار عليه. خمس طلقات في الصدر.
قبل ذلك بخمس دقائق عند الساعة الرابعة من بعد ظهر الاثنين الرابع من نيسان، خرج جوليانو من مسرح الحرية في جنين، وكان آخر ما قاله لمنسقة مدرسة التمثيل راوند عرقاوي: "ديروا بالكم على المسرح حتى أعود..."
من أرشيف مسرح القصبة تصوير تلفزيون فلسطين