اعتلى المنبر مستنداً إلى عكازين ليلقي التحية على جمع من ابناء الشعب الفلسطيني وعلى الجرحى وأهالي الجرحى. في كلمته المقتضبة يوم عقد مؤتمر صحافي في بيروت لتكريم الشهداء والجرحى وأهاليهم، حاول ان يجيب على سؤال راود كثيرين؛ وأنا كنت ممن طرحه عليه عندما زرته في بيته وهو طريح الفراش: ما الذي دفعكم للنزول الى السياج الحدودي في ذكرى النكبة؟ مِن على المنبر قال التالي: ما جرى أظهر للعالم إصرار الشعب الفلسطيني، وخاصة أطفال الشعب الفلسطيني، على العودة. لم نخطط لما قمنا به. ما قمنا به كان عفوياً. أردنا تحدي إسرائيل. وما أن سقط أول شهيد زادت عزيمتنا، وزادت إرادتنا. وعندما رأينا جنوداً إسرائيليين في أرضنا فلسطين وأسلحتهم موجهة إلينا، زاد إصرارنا وصمودنا وتحدينا.
*****
شادي كان واحداً من آلاف الفلسطينيين الذين تدفقوا من جميع انحاء لبنان جنوباً. جميعهم أتوا إلى قرية مارون الراس اللبنانية المشرفة بعلوها على مساحة شاسعة من شمال فلسطين المحتلة وذلك لإحياء ذكرى النكبة الفلسطينية في 15 أيار 2011.
كان هذا في نهار ربيعي جميل. كان من الجمال في خضرة الأرض والشجر النضرة، كما في السحاب الأبيض الكبير، سحاب لطّف من حرارة شمس حضرت بأشعتها ونشرت حرارتها على الأرض وعلى كل من خرج ليلقي بنظرة وولعة على فلسطين. كان هذا النهار والمكان من الجمال واللطف الطبيعي حتى شعرت بالرغبة في إلتقاط صورة لصديقتي خارج سياق أحداث ذلك اليوم ... الدامي. لم نكن نعلم بعد من ذاك العلو انه حقاً ما نسمعه من رصاص كان يُطلق ليخرُق أجساد محتشدين من شبيبة وشابات أمام السياج الحدودية. المكان حيث وقفت، مع مئات آخرين، يتوسط الطريق بين منصة الاحتفال التي علا منها صوت المشاركين في إلقاء الخطابات التي أعدت للمناسبة وبين السهل حيث ولىّ مئات من الشباب والشابات الفلسطينيين بشكل أساسي، ومن ثم اللبنانيين، وبعض الأجانب، وجههم صوب فلسطين، الممتدة هناك خلف السياج الشائك.
توالت الأحداث والأنشطة بعد ذلك اليوم، ولم أعد إلى كل التسجيلات والصور التي التقطتها في مارون الراس إلاّ بعد أكثر من أسبوعين. كانت الصور متشابهة، إلاّ تلك التي أسميتها صورة "خارج السياق". إذ يتوقف المرء لبرهة ويسأل نفسه، يسأل نفسه في ذاك التناقض في إجتماع جمال الخلق وقبح إنسان. قبح جندي يسيّل الدماء في يوم سلمي: سلم الطبيعة وسلم المحتجين امامه.
إقحام القبح في الجمال يحدث كل يوم في حياة منطقة كُتب لها أن تعيش دوامة عنف مستمر. أستذكر هنا يوم بعينه. يوم اختلط فيه الصفو الطبيعي بتدمير بشري آخر سبق 15 ايار 2011 بعقدين من الزمن. حدث هذا في صيف 1982 بُعيد اجتياح الجيش الإسرائيلي لجنوب لبنان. إذ سمح الجيش المحتل لأهالي مدينة صور وقراها القريبة بالعودة إلى بيوتهم بعد إمضاء إقامة جبرية على شاطئ البحر. هناك، أُستدعوا للبقاء حتى إنهاء عملية عسكرية أُستخدموا فيها كدروع بشرية للمدرعات الإسرائيلية والمشاة للحماية من رشقات متقطعة لمقاومةٍ كانت في ذاك الزمن. سُمح للناس بالعودة في ساعات الصباح الباكر. مشوا باتجاه مدينة يعرفونها ولا يعرفونها، والشمس تدفئ ظهورهم وتنير الأرض. هي، الشمس، يعرفونها. أما المدينة فأصابها الدمار. المدينة هي وليست هي. في العودة الجماعية كان على الناس أن يعلوا عن ردم هنا، وتجنب زجاج محطم هناك حتى الوصول إلى بيوتهم... وليست البيوت هي ذاتها. كل شيء تبدل وتشوه في يوم وبضع اليوم. بعد سنوات عديدة على ذاك الصباح، وأنا في السنة الجامعية الأولى وللمرة الأولى التي أقيم فيها في بلد آمن، تنبهت وتعجبت لذلك التناقض: المدينة تأن مجروحة من وطأة الدمار، أما الشمس فهي هي، تتسلق السماء لتصل الى عرشها. كانا يومها ذات الشمس وذات صفو البحر اللذان سانداننا وقدما الحجة دوماً لنا نحن الأطفال ضد تخوف أهل من رغبتنا في الذهاب إلى البحر. في يوم أوروبي وبعد بضعة سنين على تلك التجربة، تأملت في ذلك الانقطاع الحاد مع يوميات الانسان ومكانه المُعتادين الذي يُحدثه فعل مُعتدي ، فلا يبقى منهما سوى شمس تشرق وبحر صاف يتناقضان مع كل ما تؤول إليه حياته.
*****
في السابع عشر من أيار 2011 كان شادي سيعقد قرانه على فتاة أحبها. إلا إن موعد مع حب آخر كان قد حُدد في الخامس عشر. يحدث للمرة الأولى منذ أن ولد قبل 26 عاماً. هو حب أخصب خياله منذ الطفولة. تماماً كما يحدث لكل فلسطيني نما وترعرع في كنف جد وجدة عاشا فلسطين، وأم وأب تمنّياها. رُوِيَت عروقه من قصص الأرض الخصبة. أرض البيادر والخيرات. فتشوق لها بتشوق من أتا منها.
أعجبته فكرة أن أقرانه من سوريا ومصر ولبنان سوف يكونون على نفس الموعد في نفس التوقيت. فتحمس. هناك من لم ينم الليل قبل حلول اللقاء. أخذوا يتخيلون كيف انهم سوف يرون الأرض بتفاصيل قراها عن قرب. "أردنا أن نرى، ونصور، ونشبع من وطننا." فلذا عند الوصول إلى نقطة اللقاء، استفزهم الجبل. لم يكن قريب كفاية. كما لم يكن في مارون الراس ما يغنيهم عن الاقتراب أكثر من الأرض أو يردعهم كفاية. فهبطوا إليها. هكذا، تلقائياً. "نحن جميعاً في الـثانية والعشرين، والخامسة والعشرين من العمر ولم نرها من قبل. هذا ما دفعنا اليها. لنراها عن قرب. أردنا أيضاُ ان نقول للعالم ان هناك ناس في مخيمات اللجوء ما زالت متيقظة وتنتظر وتطالب بحق العودة. ما قمنا به قليل في وجه عدو مقيم في أرصنا ومُسلّط سلاحه في وجهنا ولا يريدنا أن نقترب منها. علينا ان نقوم بأكثر من ذلك."
ذلك الذي قاموا به لم يكن أكثر من رمي الحجارة في وجه الجنود. كسائر الشباب والشابات الذين تخطوا أعدادًا قليلة من جنود الجيش اللبناني إلى السهل، ذاك السهل ذو الامتداد الطبيعي مع فلسطين، كهؤلاء جميعاً، رمى شادي الحجارة في اتجاه جنود بدأوا يخرجون من وراء الشجر خلف السياج. خمسة منهم، ثم ستة جنود. فعشرة وأحد عشر. لحظ شادي إلى جانبه صبية لبنانية تخاطب الجنود بالعبرية وترميهم بالحجارة. كانت قريبة من السياج الشائك على الناحية اللبنانية. وفي لحظة ما سلّط جندي اسرائيلي النار عليها فأصابها في ساقيها. هنا أسرع شادي لانتشال رفيقة الحجارة ونقلها الى شباب آخرين لإيصالها إلى الإسعافات. ما أوشك أن يسلمها حتى شعر بشئ يخرق جسده هو الآخر.
*****
ذهبت الى الجنوب لأتحدث إلى أهالي الشهداء، وإلى الجرحى وشهود في المخيمات وخارجها. ظننت أن المخيم الذي يقيم فيه شادي لن يكون عصي علي. فقد زرته سابقاً. قبل أربع سنوات ذهبت إلى هناك لاستمع إلى شهود آخرين لمأساة أخرى حدثت في مخيم اللاجئين الفلسطينيين في نهر البارد الشمالي في مثل هذا التوقيت من أيار. وهكذا اعتقدت إنني على معرفة بأزقة المخيم. وان كنت تعرفت إلى بعضها، إلا إنني علمت أن المكان حيث يقيم شادي هو المخيم القديم. يقع هذا القسم على تلة. تلة لم أقم بزياتها من قبل إلا في كتب التاريخ التي تقول إنها كانت تعبر من خلالها المياه العذبة لمدينة صورالبحرية في ما قبل التاريخ. صور التي حكمها الملك الفينيقي حيرام، والتي حرمها فرعون مصر من هذه المياه عندما حلا له الغضب على هذا الملك. في التاريخ الحديث، حلّ الحرمان على هذه البقعة ولاجئيها مرات ومرات عدة. ولا يزال.
عند شجرة توت وارفة وجدت البيت. يدخلك الفلسطينيون إلى بيوتهم بسهولة وترحاب وكأنك تعرفهم من زمن. كان للحرمان أن يجعل من قلوبهم قاسية. فلا. لا يحدث هذا. يبتسم ويرحب شادي. وكأني صديقة قديمة أجلس عند قدميه. إصابته طرحته في الفراش. يزوره كثر ليطمأنوا إليه هذه الأيام ما جعله ينقل مكان استلقائه إلى غرفة الاستقبال. أنظر حولي سريعاً فأرى في بناء البيت ما يحرم أهله حتى من الخصوصية. هي حال الحياة في مخيم يزداد تعداد أهله اللاجئين فيما تنقص المساحة.
*****
أطلب من شادي ان يحدثني عن كيف تلقى أهل المخيم خبر إحياء ذكرى النكبة هذه السنة وعن الذهاب إلى مارون الراس. إحياء المناسبات الوطنية هنا بديهي. والبديهي الآخر لشاب يظمأ أرضا لم يرها هو ربط ذكرى النكبة بمطلب العودة. هنا فلسطين تحيا فيك وأنت تحيا في فلسطين. وشادي يَخْبَر فلسطينيته في كل تدريب يقدمه للأطفال في المخيم على مزمار القربه وأشياء وطنية أخرى. أسئلتي عن التهيآت لإحياء الذكرى تصبح غير ذي جدوى. أنتقل الى أخرى. وصف الرحلة. الحديث عن الهتافات الوطنية في الحافلة. الوصول الى مارون الراس.
باستثناء العدد الكبير للحاضرين للمناسبة لم يكن هناك ما يسترعي اهتمام شادي وأقرانه. حتى إنه لم يلحظ أن مهرجاناً كان قائماً هناك على كل ما فيه من صخب! تنجذب كل الأنظار نحو الجنوب، أسفل الجبل. هناك احتشد الفتية. وهناك انتشرت العدوى وشوشةً وغمزاً: فلنهبط الى أسفل!
تخطوا عدداً لا يتناسب مع المناسبة والحشود من القوى الأمنية اللبنانية. حدث عراك محدود مع الجنود اللبنانيين وإطلاق نار في الهواء من قبل هؤلاء بغية التحذير ومنع المتحمسين من النزول إلى سفح الجبل وإلى الحدود الفعلية مع فلسطين. تخطّوا الجنود وتخطّوا الألغام.
لم يكتفي شادي بالنجاح في النزول إلى السهل حيث الحدود الأقرب مع فلسطين. بل أقنع شاب نرويجي بالمخاطرة معه. المخاطرة؟ لا، لم يستخدم شادي هذه الكلمة قط. بل ولا أعتقد انه في أي لحظة من اللحظات تعامل مع الأمور من هذا المنطلق. ولكنها كلمة تخطر في بالك عندما تفكر أن هؤلاء الفتية ليسوا على معرفة جغرافية بالمنطقة، وهي منطقة عسكرية بامتياز بما هي مزروعة بالألغام، ومع وجود من هو متأهب ويده على الزناد. رافق آندرو النرويجي شادي الفلسطيني وهذا الأخير يحدثه عن فلسطين ويعطيه دروساً في العودة.
في الأسفل توزعت الوظائف. هناك من رمى الحجارة على جندي محتل. وهناك من عمل على تحطيم الصخور إلى حجارة صغيرة للفتيات اللواتي طلبنا المساعدة في هذا. هناك من قرر إضعاف السياج الشائك الأول الواقع على الأراضي اللبنانية لتخطيه. هناك من صور بهاتفه النقال. وهناك من فهم قوة الصورة وفعلها، فأخذ يهدد الاسرائيلي بفضح جرمه من خلال تحميل صورته على الـ الفايسبوك. ومن ثم هناك من أغاظ غطرسة المحتل برفع العلم الفلسطيني على أقرب نقطة من فلسطين إستطاع ان يصل اليها. وهنا سقط أول شهيد.
*****
أصيبت الفتاة اللبنانية التي كانت تشتم الجنود الإسرائيليين بالعبرية وترجمهم بالحجارة. حملها شادي لنقلها إلى حيث يمكن انقاذها وإسعافها. ما إن كان يسلمها الى آخرين، حتى نالت من جسده رصاصة. رماه الجنود الإسرائيليون برصاص تشظى في وركه وهو يهرع بجريحة. هنا أضاع شادي الجريحة اللبنانية. وأضاع آندرو النرويجي. وأنتهت "مواجهته" للعدو الاسرائيلي بكاميرة هاتفه الخلوي وحجر.
يروي لي شادي هذا كله ومن ثم يتوقف. وكأنه يلحظ مسألة ما بشكل مفاجئ. "أتعرفين؟ ان الشعب الفلسطيني جبار." سألته: كيف؟ أجاب: "عندما يريد الفلسطيني أن يشتغل بيشتغل. لم يكن هناك حمالات. حوّلوا الكوفيات الى حمالات. فكوا الأعلام وربطوا الكوفيات بعضها ببعض وبعصي الاعلام وحولوها إلى حمالات وبدأوا ينقلون الجرحى والشهداء عليها." هكذا إذاً كثرت الوظائف لتشمل تحديد وإبراز مواقع الألغام من قبل الذين يأتون إلى السهل أولاً حتى يتنبه لها اللاحقون، ومن ثم إرتجال الحمالات.
يُنقل شادي من مستشفى إلى آخر. الأول، في بنت جبيل، غصّ بالجرحى وآخرين ممن استشهدوا. يُسعف سريعاً ليأخذ مكانه جريح آخر. ويؤخذ هو إلى مستشفى في صور. هناك تخضع للعمليات الحالات الأكثر خطورة. يأتي دور شادي في اليوم التالي. تُنزع من وركه رصاصة متشظية. شظية أخيرة تعاند وتبقى في الجسد لتصبح جزءاً منه. في اليوم الثالث يأوي في بيته.
هذا الجريح الآوي في الفراش هو في الأساس متطوع. في سن الثالثة عشر، وهو الإبن الأكبر في العائلة، تطوع لمشاركة الوالد في إعالة البيت. هنا الكل – خمسة أفراد – يعملون ولا يحصّلون الألف دولار في الشهر. بعد التعلم طفلاً على العزف على مزمار القربه، تطوع في السادسة عشر ليعلم موسيقى الوطن لأطفال المخيم. في السادسة والعشرين، جاءته فرصة لتطوع مختلف. إنه التطوع في إعطاء دروس العودة. ويحصل فيها على شهادة.