هلّ هلال الحرية في العالم العربي. فثورة السابع عشر من فبراير على بعد أيام من انتصارها المظفر، والقذافي في مخبأ ما يعد لحظاته الأخيرة أو يخطط لواحدة من عملياته الجنونية، ولكن حكمه انتهى فعلياً. وقريباً ستنضم ليبيا إلى تونس ومصر في خلاصها من طاغيتها. فهل سنحتفل بعد عيد تحرير ليبيا بأعياد تحرير سوريا واليمن وغيرها بعدها؟ طبعاً لانعلم، ولايمكننا حقاً التكهن في ظل الأحداث المتسارعة في البلدين الثائرين نفسيهما أوحول العالم، ولو أننا كلنا ندرك أن العقارب لن ترجع إلى الوراء وأن مصير الشعوب المنتفضة نول حريتها عاجلاً أم آجلاً، مع أو بدون سفك متواصل لدماء أبطالها على أيدي قامعيها، ومع أو بدون تدخل دولي أو مقاومة مسلحة أو حتى اتفاق مع الأنظمة المستبدة حول انتقال السلطة. في هذه الأثناء، يستمر نظاما سوريا واليمن في القمع والقتل والمماطلة والتهرب من الواقع الجديد بكل صلف وعنجهية، ويستمر شعبا سوريا واليمن الثائرين بالتظاهر والاحتجاج بصدور عارية وعزيمة لاتفل. ولاأعلم إذا كان قارئي أو قارئتي، خاصة منهم المتابعين للأحداث من المهجر، يشعرون بنفس المزيج من الإحباط والغضب اللذين أشعر بهما وأنا أتابع القمع الوحشي للأنظمة الآفلة، والأمل والإكبار للشجاعة المبدأية والراسخة التي تبديها جموع الشعب المنتفضة وهي تواجه تحدي الرصاص والتعذيب مع إصرار ثابت على خياراتها وتحمل واضح لمسؤولية هذه الخيارات على الرغم من قتامة الاحتمالات وفداحة الثمن.
هذا الإصرار على المطالبة بالحرية، "حرية وبس" على مقولة شباب سوريا، هو القاسم المشترك بين الثورات العربية كلها. وهو أيضاً المحرك الأساس لملايين الشباب الثائرين الذين لم يعرفوا في حياتهم طعم الحرية. فهم قد ولدوا في ظل الأنظمة الاستبدادية التي استولت على الحكم قبل ولادتهم وعاشوا تحت قهرها وتسلطها وعبادة فردها وتلاعبها بمفهوم الحرية من خلال شعارات فارغة طيلة حياتهم. وهم بالتالي قد تعرفوا على الحرية عن بعد، وعبر الأثير، وأحياناً بالسر، وتاقوا إليها من دون أن يعرفوا لها سبيلاً واضحاً سوى مايصلهم من معلومات عن حياة وتقدم ورقيّ غيرهم من الشعوب التي تتمتع بها. وهم لذلك يتلمسون طريقهم إليها تلمساً، ويدفعون في سبيل ذلك حاضرهم ومستقبلهم وأمنهم وأحياناً حياتهم. الشباب يدركون أن استعادة حريتهم المسلوبة هو الهدف الأسمى لثوراتهم. فهذه الحرية المستعادة هي التي ستمهد لبزوغ إنسان عربي جديد بعد عقود الاستبداد والقهر والاستكانة. وهي التي ستساهم أكبر مساهمة في إعادة صياغة هوية هذا الإنسان الجديد وكيانه وفكره وقوانينه، وفي إعادة تعريف علاقته بحكامه ومجتمعه وتاريخه وتراثه وتطوير تعبيره عنها جميعاً. لهذا كله يحتاج مفهوم الحرية اليوم وأكثر من أي وقت مضى إلى نقاش يشارك فيه كل من يطالب بها لكي تُرسى دعائمها في عهد مابعد الاستبداد على قواعد سياسية وأخلاقية ومعنوية تؤطر نهضة البلاد المرتقبة وترفد تحررها بروافد إنسانية مضى على تغييبها عن الوعي العربي الجمعي وقت طويل.
الحرية قيمة مطلقة وسياقية نسبية في الآن نفسه. هي مطلقة من حيث أنها لكي تكون حقيقية وفعالة يجب أن يتمتع بها كل الناس بالتساوي المطلق بغض النظر عن أي من العوامل الأخرى التي تمايز بينهم شكلاً وعرقاً ولوناً وتوجهاً اجتماعياً أوسياسياً وثقافةً أو جهلاً أو ثراءً وفقراً أو قرباً من الحاكم أو بعداً. والحرية سياقية من حيث أنها تطورت تاريخياً بتطور الوعي الانساني بها ومن حيث أنها تفاوتت في مضمونها ومداها وتطبيقاتها بين شعبٍ وآخر وثقافةٍ وأخرى وبين عصرٍ وآخر حسب الظروف البيئية والتاريخية والعقائدية والمادية والتأثيرات الخارجية. الحرية إذن، على الرغم من طبيعتها المطلقة تعريفاً، مؤطرة تاريخياً واجتماعياً ومعرفياً، بل ومكبلة كممارسة في غالب الأحوال. فنحن كأفراد نعيش في جماعات تحد من حريتنا الفردية بالضرورة مراعاة لحرية الجماعة، أو حرية المتكلمين باسم الجماعة، إن حقاً أو غصباً. ونحن أيضاً كجماعات نعيش في ظل جماعات وأفكار أقوى وأعتى _داخلياً وخارجياً_ قد لايكون لها مصلحة في تحقيقنا لحريتنا. ولعل خلاصة تاريخ الحرية نفسه هو سلسلة من محاولات الجماعات والأفراد الانعتاق من المكبلات المادية والسياسية والاجتماعية والمعيشية والانطلاق في فضاء الحرية الرحب والواسع. وقد نجح البعض في ذلك وفشل الكثيرون. ولكن الرغبة بالانعتاق أقوى من الخوف من الفشل، على الرغم من المعوقات التي تحد الحلم بالحرية وأحياناً تدمره، وفي مرات قليلة تنهزم أمامه.
تاريخ الحرية والحالة هذه هو تاريخ نضال شاق، شاركت فيه ثقافات شتى ومفكرون كثر. وقد تطور مفهوم الحرية بتطور الوعي الانساني بها على الرغم من ثبات المفهوم كمفهوم. وتطور معنى الكلمة نفسها تطوراً هائلاً واتسعت مدلولاتها على الرغم من ثبات لفظها. ففي أوائل الإرهاصات بمفهوم الحرية، والتي تختزلها عبارة عمر بن الخطاب الشهيرة في اعتراضه على عسف عمرو بن العاص، "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟" كانت الحرية عكس العبودية. وكان الإدراك الانساني يقبل بأن يكون هناك أناس لايمتلكون أي حرية مهما هانت، بل يقبل بأن هناك أناس شاءت الأقدار بأن يكون لهم مالكون من البشر يقررون عنهم كل القرارات الحيوية. ولم تتمكن الانسانية من الخلاص من هذا الوضع الشائن إلا مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين عندما ألغيت العبودية تباعاً في مختلف أرجاء العالم (ولو أن بعض الشعارات التي يُجبر شبيحة الأسد معتقليهم على ترديدها تبين أن فكرة العبودية مازالت حية في بعض النفوس المريضة). تمثل هذه الفترة في الحقيقة الحقبة الأهم في تطور معنى الحرية فلسفياً وإنسانياً وسياسياً. ففي ضوء التغيرات التراجيدية الهائلة والهزات العميقة التي مر بها العالم في المئتي سنة الأخيرة، اكتسب مفهوم الحرية مضامين أكثر شمولاً وتجذراً في التجربة الإنسانية. وبرزت كتابات بلغات مختلفة ووثائق عالمية عديدة فصلت مفهوم الحرية وحاولت وضع الأطر الناظمة لها وساهمت في تطويرها من مفاهيم عامة إلى ممارسات حقوقية وسياسية ملزمة. هذه "الحريات،" التي تشكل بمجملها مفهوم الحرية المعاصر والشامل، هي ما يجب التشديد على تضمينه ضمن الحقوق التي يجب أن تكفلها دساتير الثورات العربية المنتصرة عندما تنتقل من مرحلة الانتفاض ضد الاستبداد إلى مرحلة بناء الدولة الحرة على أنقاض الاستبداد إذا كانت صادقة فعلاً في مناداتها بالحرية.
لاأظن أن أحداً سيعارض أن تكفل دساتير المستقبل في العالم العربي حق كل فرد بالحياة والكرامة والاحترام والعدالة والأمان على شخصه، والصون من العبودية والتعذيب والظلم، والاعتراف بشخصيته القانونية وكفالة حقوقه المدنية والسياسية كناخب وكمشارك فاعل، ومساواته بالآخرين أمام القانون والتمسك ببراءته إذا مااتهم حتى تثبت عليه التهمة، وحق العمل والضمان الاجتماعي والصحي وحق التعليم والثقافة. معظم هذه الحقوق الأساسية إنسانية وعامة، يهفو إليها الناس أجمعين وإن تفاوتت قدراتهم في صياغتها والتعبير عنها وفقاً لدرجة ثقافتهم ووعيهم السياسي والاجتماعي. وهي تظهر في مختلف الديانات السماوية وغير السماوية والنظم الاخلاقية والتشريعية والدستورية لثقافات شتى إما مباشرة أو بشكل مقارب، بل إنها تظهر في غالبية دساتير الدول العربية الاستبدادية عديمة الجدوى، وإن كانت صياغتها الحديثة تدين بالكثير لدساتير الأمم الأوروپية خاصة مبادئ الثورة الفرنسية. وهي اليوم تجد تعبيرها الأشمل والأبسط في الاعلان العالمي لحقوق الانسان الصادر عام ١٩٤٨. هذا الإعلان الذي وقعت عليه كل الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بما فيها الدول العربية كلها ملزم قانونياً وسياسياً، مما يجعل الدول مسؤولة عن تطبيق مواده، أو على أقل تقدير الامتناع عن خرقها، وهي للأسف غالباً ماتقوم بذلك، وأحياناً باستخدام قوانين تعسفية تخالف في معناها ومضمونها مضمون الاعلان كقوانين استثناء رجال الأمن والمخابرات من أي مساءلة قانونية عن سوء معاملتهم للموقوفين والمعتقلين بحجة الحفاظ على "الأمن القومي" كما في مصر مبارك وسورية الأسد.
لكن الحريتين الأساسيتين اللتين تمثلان خلاصة التحرر بالمعنى الحقيقي للكلمة واللتين يجب التركيز عليهما في التخطيط لدساتير الدول العربية المتحررة في المستقبل هما حريتا الاعتقاد والتعبير. وهما كمبدأين قانونيين يعتمدان على اعتبار أن كل فرد مفكر وعاقل ومستقل حر (وحرة طبعاً) بالتفكير في أرائه ومعتقداته وفي التفاعل معها سلباً وإيجاباً. هذه الفكرة-الأساس تجد جذوراً مبدأية لها في دساتير الثورات الأوروپية والامريكية في القرنين الثامن والتاسع عشر، ولكن صيغتها الحالية عجنتها المآسي الهائلة التي مرت بها البشرية جراء صراع العقائد السياسية والطائفية المريع في القرن العشرين من حربين عالميتين وحروب إعادة تشكيل أوروپا وأمريكا، وأنتجتها مادتين شاملتين من مواد الاعلان العالمي لحقوق الانسان هما المادتان ١٨و١٩. حرية الاعتقاد لاتشمل فقط الاعتقاد الديني، بل تضم أيضاً العقيدة السياسية والاجتماعية، وحرية الإعراب عنهما بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر ومراعاتها سواء أكان ذلك جهراً أم سراً أو مع الجماعة، وحرية المرء بالاعتقاد في أي منظومة دينية أو فكرية تستهويه أو ترضي نظرته وفهمه للكون حوله من دون خوف من اضطهاد المنظومات الأخرى القائمة أو تسلط القائمين عليها أو الداعين إليها أو المؤمنين بتفوقها، وحقه بتغيير عقيدته إذا غيّر قناعاته بها من دون حق بانتقام من معتنقي العقيدة ذاتها. أما حرية الرأي والتعبير فهي تشمل حرية المرء في التصريح بالآراء التي تناسب فكره ومواقفه دون أي تدخل من أفراد أو مجموعات أو هيئات ومنظمات، وحرية استقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت، وحرية قبول أو رفض المنظومات الفكرية والأيدولوجية والدينية القائمة ومحاججتها ونقدها والحلم باستبدالها بغيرها والدعوة العلنية لتغييرها وتقديم بدائل لها وتنظيم المؤسسات التي ستقدم هذه البدائل، والعمل على نشر هذه المبادئ. ليست هاتان الحريتان بالضرورة أكثر أهمية من الحريات الأخرى، بل إن إمكانية تطبيقهما مشروطة بتوافر هذه الحريات الأخرى التي تكفل للفرد حداً أدنى من الكرامة الإنسانية والاستقلالية. ويلح العديد من المنظرين، خاصة نقاد العالم الثالث ذوي الميول اليسارية، على أن المطالبة بحريتي الاعتقاد والتعبير عندما تكون الكرامة المعيشية المتمثلة في حقوق العمل والصحة والتعليم والأمان من العوز والظلم مفقودة أو مهدورة، هي إما عبث سياسي أو ترف فكري لاقبل للمجتمعات المسحوقة به.
ليس هذا الاعتراض بالمستغرب، فحريتا الاعتقاد والتعبير لم تأتيا إلا متأخرتين عن غيرهما من الحريات المتعلقة مباشرة بحياة الانسان ومتطلباتها المادية والقانونية. وهما تمثلان طفرة معرفية وأخلاقية في تمثل الحقوق الإنسانية لم تكن ممكنة في المحيط الذي سيطرت عليه أنظمة سياسية فكرية غائية وشمولية، حددت تماماً ما هو ممكن التفكير فيه ومالايمكن التفكير فيه، كما كان الحال في كل أرجاء العالم حتى القرن الثامن عشر وكما هو الحال حتى اليوم في العالم العربي. وقد كان على البشرية جمعاء _وليس الثقافة الغربية الأوروپية فقط كما يدعي العنصريون أو المشككون والأصوليون_ أن ترتفع بالإدراك الإنساني ككل إلى مستوى الفرد العاقل والمدرك لذاته ولإمكانياته لكي تتمكن من صياغة نصية قانونية لحقوق هذا الفرد مقابل الأسس الجماعية الشمولية المهيمنة من مؤسسة ودولة وأمة وامبراطورية ووطن ودين. من هنا تنبع الأهمية الفاصلة لحريتي الاعتقاد والتعبير في إعادة صياغة قوانين عالمنا العربي المكبل بقيود متوارثة أو مفروضة فرضاً عليه في ظل الأوضاع الاقتصادية والسياسية والعسكرية التي تسحقه داخلياً، والغطرسة الاسرائيلية الاستيطانية والتغلغل الاستثماري الغربي التي تتحداه وتستنزفه خارجياً، والأنظمة الشمولية التي كتمت على أنفاسه من المحيط إلى الخليج في الخمسين سنة الماضية بغض النظر عن اختلاف تسمياتها وتفاوت درجات شموليتها وتسلطها.
فالأنظمة العربية الشمولية لا يمكنها إطلاقاً الاعتراف بحريتي الاعتقاد والتعبير (والتظاهر مظهر أساسي من مظاهر حرية التعبير)، ليس لأنهما تتحديان أسس شرعيتها فقط، وهي التي استنت لنفسها استثناءات غير-قانونية مثيرة للسخرية مثل "إضعاف الشعور الوطني،" و"المساس بهيبة الدولة" أو ماهو أمر من ذلك مثل "المساس بسمعة الرئيس،" بل لأنهما "تتحدثان لغة غير لغتها،" لغة لايمكنها فهمها من ضمن الخطابات الأيديولوجية البالية التي تعتمدها في تبرير تسلطها وقراراتها وسياساتها من تصدي ومقاومة وممانعة وماإلى ذلك من الشعارات المفرغة من محتواها. والأنظمة الشمولية أيضاً لاتريد فهم حريتي التعبير والاعتقاد والسماح بممارستهما لأنها لو فعلت ذلك لاضطرت إما إلى تغيير أسس أنظمتها الحاكمة تغييراً جذرياً، والتخلي بالتالي عن امتيازاتها المكتسبة والمغتصبة والموروثة، أو للسقوط والتنحي بسبب إفلاسها الذي سيكشفه وعيها ووعي جماهيرها بنظامها المتناقض والمتعسف، وهو مابدأت الانتفاضات الشعبية العربية بالانتباه إليه. من هذا المنظور، تبرز أهمية الإصرار على حريتي التعبير والاعتقاد في دساتير أنظمة مابعد الاستبداد كأداتي تحرر اجتماعي وسياسي تسمحان لمجتمعاتنا العربية حقيقةً بمواجهة التحديات التي تحيط بها بدلاّ من الركون إلى المعزوفة التي لم يمل الخطاب السلطوي الآيل إلى الزوال من استخدامها عن ضرورة تضحية الحقوق على مذبح التحرر القومي ومجابهة العدوان الاسرائيلي والتصدي للمؤامرات _ الداخلية والخارجية، الحقيقية والمزعومة_ التي يبدو أننا مصابون بأكثر من حصتنا منها، والتي يبدو أننا على الرغم من تحملنا لفقداننا لحرياتنا كشعوب لعقود طويلة من الحكم العسكري لم نفلح في مواجهة أو دحر أي منها.