التقشف في غير موضعه والكرم لمن لايستحق

التقشف في غير موضعه والكرم لمن لايستحق

التقشف في غير موضعه والكرم لمن لايستحق

By : Wael Gamal وائل جمال

في كل مناسبة تقتضي تدخل الدولة تقفز في وجهنا قضية الدين العام وعجز الموازنة. فهي أولى الحجج التي تقدم ضد رفع أجور العاملين بالدولة ومنهم الأطباء والمدرسون في المستشفيات والمدارس العامة. كانت فزَّاعة تضخم الدين أيضا المبرر الذي تم تقديمه لتقزم الإنفاق الاستثماري على الصحة والتعليم والبنية الأساسية في موازنة العام المالي الحالي التي أعلت شأن محاصرة العجز على تحفيز السوق وخلق الوظائف لتنخفض نسبة العجز المتوقع فيها مقارنة بإجمالي الناتج المحلي مما هو فوق ال11% إلى 8.55% بعد أن وصل إلى 134.3 مليار جنيه.

وكما أعطت موازنة الثورة الأولى الأولوية لعجز الموازنة، الذي هو الفارق بين ايرادات الدولة وإنفاقها الذي يزيد عنها، تستمر حكومة شرف الثانية في إيلاء وزن كبير له يصل إلى حد كونه المحدد الأساسي لسياستها الاقتصادية حتى الآن، وهو ما يكاد يصيبها بشلل.

الوظائف أم الدين العام؟ جدل عالمي

الحقيقة أن ظاهرة تضخم الدين العام وعجز الموازنة ليست خاصة بمصر. فقد قفز المتوسط العالمي للعجز من 1.9% عام 2008 إلى 6.7% في 2009 و5.5% في 2010. ويتوقع صندوق النقد الدولي، في تقرير المراقبة المالية ربع السنوي الصادر في سبتمبر، أن يصل العجز في العام الحالي إلى 10.3% في اليابان،و 10.3% في بريطانيا، وإلى 9.6% في الولايات المتحدة (كلها نسب أعلى من نسبة العجز المصري في حجم اقتصادات أكبر بما لايقاس). في الوقت نفسه تشهد الولايات المتحدة، جدلا سياسيا محتدما بين منطقين: الأول يتبناه الرئيس باراك أوباما ويقوم على ضرورة أن تضخ الدولة استثمارات جديدة لتحفيز الاقتصاد، الذي يراوح في كساد هائل منذ 2008، وخلق وظائف جديدة للفقراء، يتم تمويل جزء منها من ضرائب جديدة على الأغنياء. أما الثاني فهو منطق شبيه بما لدينا يتبناه الجمهوريون: لا ضرائب جديدة وبالتالي لا انفاق تحفيزي لأنه لا يمكن السماح للعجز والدين العامين بالتفاقم أكثر من ذلك.

ويسير رأي الجمهوريين على خطى تصور ساد العالم، ولم يستثن مصر، يقول بإن عجز الموازنة هو الشيطان الأكبر الذي يفسد الأسواق وحياة الناس، و"يحمل الأجيال القادمة مالا تحتمل". لكن ذلك في الحقيقة أثبت أنه مجرد مدخل لتبرير انسحاب الدولة من الانفاق الاجتماعي ولخصخصة الأصول العامة لحساب قلة من الشركات الكبرى.

وينفضح الجمهوريون، وكل من هم على شاكلتهم، من الذين ينعقون بخراب الأجيال القادمة، بتجاهلهم الكامل للتوسع الهائل في الانفاق الحكومي، في عام 2008، والذي ترتب عليه قفزة في نسب العجز العالمية. ببساطة لأن هذا الإنفاق كان يصب في جيوب نفس الشركات والمؤسسات الكبرى، التي تنبني لمصالحها سياسات تحرير الأسواق.

ومن المدهش، وفقا للاقتصادي البريطاني الكبير روبرت سكيدلسكي، أن أكثر المنفقين بالعجز في التاريخ الأمريكي، كانوا من الرؤساء الجمهوريين المبشرين بمبدأ السوق الحرة، وتقليص الإنفاق الاجتماعي. هذا الجدل بين أنصار تقليص العجز وأنصار الوظائف والتنمية ليس فنيا على الإطلاق. إنه جدل سياسي بامتياز بين مصالح متعارضة ومتاريس اجتماعية متواجهة.

جاء ليبقى

في عام 1941، مثل رئيس مجلس الاحتياط الفدرالي الأمريكي (البنك المركزي) مارينر إيكلس أمام لجنة البنوك والعملات بالكونجرس وسئل عن الإنفاق الحكومي المتزايد وقتها فقال "لو لم يكن هناك ديون في نظامنا المالي لما كانت هناك نقود". يعني هذا ببساطة أن الديون جزء لا يتجزأ من حركية النظام الرأسمالي ومن تطوره، حتى وإن كان حكوميا. ومن هنا كان طبيعيا ألا تسدد حكومة الولايات المتحدة ديونها أبدا منذ قرنين من الزمان بل تستمر في النمو والتضخم.

وبتخطي الدين الحكومي لأكبر وأقوى اقتصادات الرأسمالية 8 تريليون دولار، هناك استحالة لتسديد هذا الدين في ظل النظام الرأسمالي: لو دفعت الحكومة الأمريكية 100 دولار في الثانية لردت من أصل ديونها تريليونا واحدا خلال 317 سنة. وبفائدة لا تزيد عن 1% فإن رد الديون مستحيل.

الدين العام جاء إذاً ليبقى في ظل الرأسمالية. ويظل الجدل هو عند أي مستوى يجب الحفاظ عليه وفي خدمة من؟

على العكس من الجمهوريين وأخوتهم عندنا وفي سائر المعمورة، ممن يبررون الإنفاق بالعجز فقط لخدمة الأسواق ومن يحتكرونها، يقول جوزيف ستجليتز الاقتصادي الأمريكي الحائز على جائزة نوبل في تخصصه  في حوار صحفي العام الماضي، إنه "يجب أن نتذكر ما الذي أوقعنا في الأصل في هذه المشكلة: أن أسواق المال كانت قصيرة النظر بشكل هائل. هم يركزون على الأن وهنا وليس على  الأمد الطويل". المسألة، وفقا لستيجليتز، هي أنه إذا أنفقنا المال الحكومي على التعليم والتكنولوجيا والبنية الأساسية، فإن الدين الحكومي سيصبح أقل  في المدى البعيد.

إن إنفاق المزيد من المال اليوم يحفز الاقتصاد ويوفر عوائد ضريبية جديدة. فبالاستثمار الحكومي، في وقت يتقاعس فيه مستثمرو القطاع الخاص، برغم كل التدليل القانوني والسياسي عن ضخ أموال في السوق، نحصل على نمو أعلى وتنمية أعمق.

العجز وحكومة شرف

لم تتجاوز حكومة شرف ولا سياستها الاقتصادية أبدا الانحيازات الأساسية التي قامت عليها توجهات التحرير الاقتصادي خلال العقود الماضية، والتي كانت مسئولة عن تراكم الدين العام، الذي دفعنا ثمنه وقتها ويستخدم لندفع الثمن مرة ثانية الآن. مرة أخرى، وبعد الثورة على المنطق الاقتصادي لنظام المخلوع، يتم إلقاء اللوم على فقراء المصريين بل أغلبيتهم من المستفيدين من الخدمات العامة في عجز الموازنة. يقول موقع وزارة المالية الحالي تحت عنوان سؤال وجواب حول عجز الموازنة: "كان مقدراً فيما سبق لهذه النسبة (8.55%) أن تصل إلى 7.9% فقط إلا أن الأحداث الأخيرة وبرامج الإنفاق الضخمة التي تبنتها الحكومة الحالية لتعويض المضارين من الأحداث ولتحقيق العدالة الاجتماعية قد قفزت بالنسبة".

يعني هذا بالضبط استمرار نفس المنطق القديم في التفكير في دور الدولة في الاقتصاد وفي انحيازاتها الاجتماعية. وينكشف هذا أكثر عندما نكتشف أنه في ظل نفس المشكلة مازالت حكومة شرف تقدم رجلا وتؤخر أخرى في توفير ما بين 7 إلى 12 مليار جنيه سنويا، يتم إنفاقها من جيوبنا مباشرة إلى جيوب محتكري أسواق الأسمنت والأسمدة والسيراميك (وأغلبهم من قيادات الحزب المحظور)، برغم كل الحديث عن تشويه هذه السياسة لكفاءة الأسواق بل وتأييد بعض رجال الأعمال للخطوة. نفس الشيء يسري على الحد الأقصى للأجر، الذي قيل لنا إنه سيعلن خلال شهر من تشكيل حكومة شرف الثانية ثم تأجيله إلى يناير. وهو إجراء يحل بعضا قليلا من اختلالات هائلة تضيع موارد الدولة.

الحكومة شبه مشلولة اقتصاديا، والأمر لا يتعلق فقط بضغوط الوفاء بالتزاماتها قصيرة الأجل (التأخر في الإجراءات التي تعطي ثمارها بعد حين يجعل الضغوط تعيش معنا في المستقبل). فعلى الرغم من استنكار كل أعضائها لفكرة أنها حكومة تسيير أعمال، لم تتخذ إجراء ذا شأن من الناحية الاقتصادية في اتجاه ما يصبو إليه المصريون المنتفضون ولا في اتجاه احتياجات التنمية الحقيقية. والسبب هو موقفها الاجتماعي والسياسي المنحاز كما يتجسد في سياستها تجاه العجز والدين العام: التقشف في غير موضعه عندما يخص الأجور والاستثمار في الصحة والتعليم والنقل العام والصرف الصحي والخدمات، والكرم لمن لا يستحق بدعم الطاقة للمصانع كثيفة استهلاكها قليلة العمالة، الابقاء على دعم المصدرين، وعلى نظام  ضريبي يدفع فيه الفقراء أكثر.  هذا هو لب القصة.

عن جريدة الشروق 

Firing Ibrahim Eissa From Al-Dostour Exposes The Reality Of The Wafd's New President

وأخيرا خلع السيد البدوي برقع الحياء بفصله إبراهيم عيسى وطاقمه من الدستور

 

وحدث ما كنا نتخوف منه ونتوجس حدوثه. فقد أقال بالفعل مجلس إدارة صحيفة الدستور إبراهيم عيسى من رئاسة تحرير الجريدة أمس، ووقع القرار كلامن رئيس مجلس إدارة الجريدة د. السيد البدوي (رجل الأعمال المعروف ورئيس حزب الوفد الذي يتم تلميعه منذ شهور) والرئيس التنفيذي لمجلس الإدارة رضا إدوارد (وهو وعضو الهيئة العليا لحزب الوفد أيضا). وواجه صحفيو الدستور ذلك القرار على الفور باعتصام مفتوح بمقر الجريدة (بعد ساعات من صدور القرار)، وهو ما يعني دخول الجريدة في أزمة طاحنة لمدة لا يمكن لأحد التكهن بنتائجها. ثم تلى ذلك فصل كل أعضاء سكرتارية التحرير: شادي عيسي ومحمد فوزي، مساعدا رئيس التحرير، وعبدالمنعم محمود سكرتير عام التحرير. وهذا يعني أن ما تعرضت له الجريدة لا يقل عن مجزرة واسعة لاستئصال مراكز ثقل سياسة التحرير القديمة.

لا أظن أن هذا القرار فاجأ أحد، فمنذ أن أشترى السيد البدوي، رئيس حزب الوفد، ومعه مجموعة من رجال الأعمال الوفديين الجريدة من مالكها السابق ونحن نتوجس إزاحة إبراهيم عيسى عن الساحة ليهدئوا بذلك من وتيرة معارضة النظام ومحاربة التوريث التي كانت تنتهجها الدستور تحت قيادته. لكن ما فاجأني أنا شخصيا هو تنفيذهم لمخططهم بهذه السرعة، فكنت أتوقع أن يكونوا أكثر حصافة من ذلك. لكن يبدو أن السيد البدوي لا يبالي بأية حصافة فقرر خلع برقع الحياء بكل بساطة وبسرعة البرق. لماذا لم ينتظر بضعة أشهر قبل أن ينفذ مخططه، وهو ما كان سيكفل له الوقت اللازم للتغطية على أغراضه الحقيقية؟ هل وصلت له تعليمات أمنية بضرورة الاسراع في تنفيذ المخطط؟ هل يريد أن يغلق فم الدستور قبل الانتخابات التي ستشهد تزويرا واسعا للوفد؟ أم أن تحالفاته الجديدة لا تتحمل الحصافة أصلا (فمن المعروف عن رجال الأعمال أنهم يرهقون أنفسهم في تحقيق شيء غير ممكن)؟ 

للأسف ما قيل على صفحات الانترنت من أن سبب فصل إبراهيم عيسى هو اعتراض البدوي علي نشر مقال ما أو وجود خلافات بينه وبين إبراهيم عيسى بشأن المرتبات هو تفسير غير مقنع على الاطلاق، وضار جدا أيضا. فلا يمكن إقالة شخص بوزن إبراهيم عيسى من صحيفة كصحيفة الدستور (تدور كلها حول شخص إبراهيم عيسى) بهذه السهولة على خلفية خلافات عادية كهذه. وعلى الرغم من سخافة هذه تفسيرات نراها للأسف تقنع الكثيرين من أصحاب النوايا الحسنة. الثابت هنا هو أن البدوي يبيت النية لهذا القرار منذ اللحظة الأولى...تشير كل الدلائل إلى أنه أخذ قرار إسكات إبراهيم عيسى مع سبق الإصرار والترصد، وكلنا كنا نتوقع أن يفعل ذلك. بل كان ذلك هو السبب الرئيسي والوحيد لشرائه الجريدة. لنترفع إذن عن التحليلات السخيفة التي لا تفعل أي شيء سوى تبرير القرار بالبحث عن أسباب <<معقوله>> و<<محترمة>> له، ولنبدأ جميعا من الاعتراف بأن البدوي فصل إبراهيم عيسى وطاقمه للتقليل من حدة الجريدة في معارضة النظام...كجزء من مخطط متعدد الخطط والأطراف يهدف لتهدئة الاحتقان في البلد وتسهيل عملية انتقال السلطة بشكل عام (برلمان، رئاسة، إلخ).

الهدف الرئيسي من وراء شراء رجال الوفد الصحيفة هو إغلاق أحد أهم أبواق المعارضة المستقلة في الدعاية ضد النظام وتوريث الحكم، ولهذا السبب يجري تلميع حزب الوفد وقياداته منذ فترة الآن. وذلك إنما يكشف أن السيد البدوي وحزبه لا يختلفان عن جمال مبارك وحزبه.

لكن يبقى السؤال: ماذا ستفعل المعارضة المستقلة تجاه ذلك؟ هل ستسكت على ما يفعله البدوي وحزبه بعد أن أثبتوا أنهم جزء لا يتجزأ من حملة تجفيف أقلام المعارضة المستقلة؟ هل ستظل تتعامل مع حزب الوفد على أنه من المعارضة، وتتعامل مع رئيسه على أنه معارض لامع؟ وهل ستستطيع المعارضة المستقلة فتح مساحات إعلامية وتثقيفية مستقلة في المستقبل؟ أين ستنشر أخبارها وآرائها؟

في كل الأحوال يشير قرار فصل إبراهيم عيسى بهذا الشكل الفج أننا على أعتاب فترة حرجة جدا ستضيق فيها المساحات المفتوحة أمام المعارضة المستقلة (وهي قليلة بالفعل) بشكل خانق وغير مسبوق، وأن التنكيل بالمعارضة المستقلة سيأتي من النظام وبعض مؤسسات المعارضة على حد سواء. إذا نجحوا في ذلك لا سمح الله ستختلف ساحة صنع الرأي العام في البلد بشكل مخيف. إقالة إبراهيم عيسى حدث مخيف ومؤسف جدا، وفيه تهديد مباشر لنا كلنا، ويجب أن نتعامل معه على انه كذلك. ولن يكون الأخير بكل تأكيد، بل هو بداية حملة للتقليل من المساحات القليلة المفتوحة أمام المعارضة، وملاحقة كتابها، صحفي صحفي. وتشمل هذه الحملة توسعة مساحة المعارضة المنضبطة، ولذلك تنوي الحكومة السماح لثلاث صحف جديدة بنشر إصدارا يوميا، وهم: <<الكرنك>>، جريدة هشام قاسم الجديدة (كان قاسم من أهم مؤسسي المصري اليوم)، و<<اليوم السابع>> ولها موقع إنترنت معروف وتنشر جريدة اسبوعية بالفعل، و<<الفجر>> جريدة عادل حمودة الأسبوعية. وهذا يعني أن المرحلة القادمة ستشهد مضاعفة مساحة الصحافة <<المستقلة>> اسما والتضييق على الصحافة المستقلة فعلا.

لا أعلم إلى أين سينتهي إضراب الدستور، وما إذا كان سيفشل أم ينجح في الوصول إلى حل وسط ما. لكن حتى لو نجح في الوصول إلى حل وسط ستظل الخسارة كبيرة لأن هذا سيعني ان طاقم الجريدة سيعمل تحت التهديد المستمر. كما لا أفهم سر شماتة البعض في إبراهيم عيسى والدستور بسبب اختلافهم معه، فعدم تقدير فداحة هذا الحدث هو قمة الغباء السياسي. وأقول لهؤلاء: أنتم اللاحقون أيها البلهاء.